عناصر الخطبة
1/ نداء اجتمعت فيه معاني عظيمة 2/ تذكير بحرمة الصيام وفضله 3/ شناعة الظلم وسوء عاقبته 4/ من أعظم آثار الصيام 5/ الحكمة العظمى من الصيام 6/ من صور تضييع رمضان 7/ وجوب الحذر من لصوص رمضان.اهداف الخطبة
اقتباس
يَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ .. نصيحةٌ إلى الذين لا يحفظونَ لسانَهم عن أعراضِ النَّاسِ .. وإلى الذينَ يَكذبونَ .. وبشعائرِ اللهِ هم يستهزئونَ .. فكم من كَلمةٍ قالَها صاحبُها في مجلسٍ ليُضحكَ بها القومَ لم يُلقِ لها بالاً أهلكتْه هلاكاً كَبيراً .. كما في الحديثِ: "إِنَّ اَلرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ، لَا يُلْقِي لَهَا بَالاً، يَهْوِي بِهَا فِي اَلنَّارِ، أَبَعْدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ" ..
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ الذي مَنَّ على عِبادِه بمواسمِ الخيراتِ؛ ليغفرَ لهم بذلكَ الذُّنوبَ، ويُكفِّرَ عنهم السَّيِّئاتِ، وليُضاعفَ لهم به الأُجورَ ويَرفعَ الدَّرجاتِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له واسعُ العَطايا وجَزيلُ الهِباتِ، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه أَفضل من تقرَّبَ إلى اللهِ بالطَّاعاتِ، أتقى النَّاسِ لربِّه وأخشاهم له في جَميعِ الحالاتِ، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه والتَّابعينَ لهم بإحسانٍ إلى يَومِ الدِّينِ ما توالتْ الشُّهورُ والأوقاتُ وسلَّمَ تسليماً كثيراً ..
أما بعد:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، صُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنْ النَّارِ، وَذَلكَ كُلُّ لَيْلَةٍ".
يَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ .. نداءٌ اجتمعَتْ فيه معاني عظيمةٌ مُتفَرِّقةٌ.
إن نظرتَ إليه من زاويةٍ .. رأيتَ فيه صوتَ الرَّحمةِ والشَّفقةِ من ربٍّ رحيمٍ بعبادِه .. يناديهم بالتَّوبةِ من الذُّنوبِ .. والرُّجوعِ إليه في شهرٍ فُتحتْ فيه أبوابُ الجِنانِ .. وأُغلقتْ فيه أبوابُ النِّيرانِ .. وصُفِّدتْ فيه الشَّياطينُ .. ولله عُتقاءُ في كلِّ ليلةٍ .. وكم قد جاءَ في القرآنِ مثلُ هذه النداءاتِ .. التي لو لامستْ سمعاً مُصغياً وقلباً حاضراً .. لطارَ العقلُ فرحاً .. ولحَلَّقتْ الرُّوحُ شوقاً .. ماذا تَعني لكَ هذه الآية: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر: 53]؟!
هل تأملتْ قولَه: (يَا عِبَادِيَ) لمنْ أسرفوا على أنفسِهم بالمعاصي؟ .. هو شعورُ ذلك المُسلمِ الذي قد جلسَ في ملهىً ليليٍ .. وقد وضعَ كأسَ الخمرَ أمامَه على الطَّاولةِ.. وجلستْ تلكَ الزَّانيةُ عن شمالِه .. والمعازفُ الصَّاخبةُ تُعزفُ على رأسِه .. فيُناديه واعظُ اللهِ تعالى في قلبِه: اذكر ذلك النِّداء الشَّفيق .. والخِطاب الرَّقيق: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) .. وإذا بسُحُبِ المعصيَّةِ تنقَشِعُ عن قلبِه.. وإذا بغَمامِ الغَفلةِ تتلاشى عن عينِه .. ولِسانُ حالِه يقولُ:
يا من عَصيتُك جاهلاً فَسترتَني *** وتردّ حِينَ أُسيئُ بالإحسانِ
كم جِئتُ بابَك سَــائلاً فأجبتَني *** مِن قَبل حتى أن يَقــولَ لِساني
واليومُ جِئتُك تائــباً مُستـغفِراً *** شيء بقلـــبي للـهُدى ناداني
إن لم أَكن للـعَفوِ أهلاً خَالقي *** فلأنـتَ أَهلُ العفـوِ والغُفـرانِ
فاقبلْ بفضلِك تَوبةَ القـلبِ الذي *** قَد جاء هَرْباً من دُجى العِصيـانِ
واجعلْه في وَجهِ الخـطايا ثابتاً *** صَـلباً .. قَويّاً .. ثَابـتَ الإيمـانِ
يَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ .. تذكيرٌ من اللهِ تعالى لعبادِه بالمحافظةِ على الصِّيامِ .. وشَفقةٌ عليهم من عَذابِ الآخرةِ .. فَعَنْ أَبِي أُمَامَة الْبَاهِلِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ أَتَانِي رَجُلاَنِ، فَأَخَذَا بِضَبْعَيَّ، فَأَتَيَا بِي جَبَلاً وَعْرًا فَقَالاَ ليَ: اصْعَدْ، فَقُلْتُ: إِنِّي لاَ أُطِيقُهُ، فَقَالاَ: إِنَّا سَنُسَهِّلُهُ لَكَ، فَصَعِدْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي سَوَاءِ الْجَبَلِ إِذَا أَنَا بَأَصْوَاتٍ شَدِيدَةٍ فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ الأَصْوَاتُ؟، قَالُوا: هَذَا عُوَاءُ أَهْلِ النَّارِ، ثُمَّ انْطُلِقَ بِي فَإِذَا أَنَا بِقَوْمٍ مُعَلَّقِينَ بِعَرَاقِيبِهِمْ مُشَقَّقَةٌ أَشْدَاقُهُمْ، تَسِيلُ أَشْدَاقُهُمْ دَمًا، قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هَؤُلاَءِ؟، قَالَ: هَؤُلاَءِ الَّذِينَ يُفْطِرُونَ قَبْلَ تَحِلَّةِ صَوْمِهِمْ – أيْ: يُفطرونَ قَبلَ وَقتِ الإفطارِ-) .. فإذا كانَ من يُفطرُ قبلَ المَغربِ يُعلّقُ برجلِه ورأسُه إلى أسفل .. وجوانبُ فَمِه مُشَقَّقَةٌ تسيلُ منها الدِّماءُ .. فكيف بمن لا يَصومُ؟!
يَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ .. نداءٌ من الغفورِ الرَّحيمِ إلى من تساهل في صلاتِه .. أنَّ رمضانَ فُرصةٌ عظيمةٌ للمحافظةِ على رُكنِ الدِّينِ .. وشَعيرةِ المُسلمينَ .. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلََّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ فَيُحْتَطَبُ، ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلاةِ فَيُنَادَى بِهَا، ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيَؤُمَّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى أَقْوَامٍ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ"..
فإذا كانَ هذا قولُ الذي قالَ اللهُ تعالى عنه: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [التوبة: 128].. ولأُناسٍ لم يتركوا الصَّلاةَ كُلِّيًّا .. وإنما تركوا حُضورَ المساجدِ .. فكيفَ بمن يَتركُ الصَّلاةَ فلا يَسجدُ للهِ سجدة؟!
يَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ .. مَوْعِظَةٌ إلى الذين يظلمونَ مَنْ تحتَ أيديِهم .. فيمنعونَهم حُقوقَهم .. ويأكلونَ أموالَهم .. فإذا كانَ المَيلُ إلى الظَّالمينَ والرِّضا بما يصنعونَ سببٌ لدُخولِ النَّارِ .. كما قالَ اللهُ تعالى: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ) [هود: 113] .. فكيفَ بعاقبةِ أمرِ الظَّالمينَ؟ ..
ولقد تقرَّرَ شناعةُ الظُّلمِ وسوءُ عاقبتِه في جميعِ الأديانِ .. عن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رضيَ اللهُ عنهما قالَ: لما رَجعتْ مُهاجرةُ الحَبشةِ عامَ الفتحِ إلى رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ قالَ: (أَلا تُحَدِّثُونِي بِأَعْجَبَ مَا رَأَيْتُمْ بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ؟)، قَالَ فِتْيَةٌ مِنْهُمْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ إِذْ مَرَّتْ عَلَيْنَا عَجُوزٌ مِنْ عَجَائِزِ رَهْبَانِيَّتِهِمْ، تَحْمِلُ عَلَى رَأْسِهَا قُلَّةً مِنْ مَاءٍ، فَمَرَّتْ بِفَتًى مِنْهُمْ، فَجَعَلَ إِحْدَى يَدَيْهِ بَيْنَ كَتِفَيْهَا، ثُمَّ دَفَعَهَا فَخَرَّتْ عَلَى رُكْبَتَيْهَا، فَانْكَسَرَتْ قُلَّتُهَا، فَلَمَّا ارْتَفَعَتِ الْتَفَتَتْ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: سَوْفَ تَعْلَمُ يَا غُدَرُ إِذَا وَضَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْكُرْسِيَّ، وَجَمَعَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، وَتَكَلَّمَتِ الأَيْدِي وَالأَرْجُلُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، سَوْفَ تَعْلَمُ كَيْفَ أَمْرِي وَأَمْرُكَ .. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (صَدَقَتْ، ثُمَّ صَدَقَتْ، كَيْفَ يُقَدِّسُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَوْمًا لا يُؤْخَذُ مِنْ شَدِيدِهِمْ لِضَعِيفِهِمْ؟!).
يَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ .. نصيحةٌ إلى الذين لا يحفظونَ لسانَهم عن أعراضِ النَّاسِ .. وإلى الذينَ يَكذبونَ .. وبشعائرِ اللهِ هم يستهزئونَ .. فكم من كَلمةٍ قالَها صاحبُها في مجلسٍ ليُضحكَ بها القومَ لم يُلقِ لها بالاً أهلكتْه هلاكاً كَبيراً .. كما في الحديثِ: "إِنَّ اَلرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ، لَا يُلْقِي لَهَا بَالاً، يَهْوِي بِهَا فِي اَلنَّارِ، أَبَعْدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ" ..
بل قد تَجدُ هذه الكلمة سَخط الرَّحمنِ إلى يومِ القيامةِ .. قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ تَعالى ما كانَ يَظُنُّ أنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ؛ يَكْتُبُ اللَّهُ تَعالى بِها سَخَطَهُ إلى يَوْمِ يَلْقَاهُ" .. ولذلكَ كانَ من أعظمِ آثارِ الصِّيامِ هو حِفظُ اللِّسانِ كما قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ".
يَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ .. إليكَ يا منْ تساهلتَ في حِفظِ سمعِكَ وبَصرِكَ .. فنَظرُكَ يتقلَّبُ في مفاتنِ كُلِّ فاسقةٍ سافرةٍ .. وسمعُكَ مملوءٌ بوَسخِ المَعازفِ وكلماتِ الخَنا .. ولا يعلمُ المِسكينُ أنه واقعٌ في أنواعٍ من الزِّنا .. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ نَصِيبُهُ مِنْ الزِّنَا مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَالْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالْأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الِاسْتِمَاعُ، وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلَامُ، وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ، وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَا، وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى، وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ وَيُكَذِّبُهُ" ..
وتأمل في قولِه تعالى: (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) [الإسراء: 36].. فلم يَقلْ عنها مسئولاً .. وذلك لأن الذي سيُسألُ هي الجوارحُ .. ستُسألُ عنكَ يومَ القيامةِ .. ولنْ تقولَ إلا الحقيقةَ .. فلا تجعلْ نفسَك في ذلك الموقفِ المهينِ .. (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [فصلت: 19- 23].
يَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ .. وكَفى هِجراناً لكتابِ اللهِ تعالى .. فهذا الشَّهرُ هو الشَّهرُ الذي نزلَ فيه .. (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة: 185] .. فله فيه مكانةٌ خاصةٌ .. وَفِيهِ كَانَ جِبْرِيلُ يُدَارِسُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ .. فافتحْ بينَك وبينَ القرآنِ في هذا الشَّهرِ صفحةً جديدةً .. وأقبلْ عليه تلاةً وتدبُّراً .. واحذرْ أن تكونَ خصيمَ محمدٍ صلى اللهُ عليه وسلمَ يومَ القيامةِ حينَ يقفُ أمامَ ربِه .. (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) [الفرقان: 30].
يَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ .. واعلم أن الحِكمةَ العُظمى من الصَّومِ هو تحصيلُ تقوىِ اللهِ عزَّ وجلَّ .. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183] .. فمنْ صامَ وتركَ المُباحاتِ شهراً كاملاً .. لا لشيءٍ إلا لأنَ اللهَ تعالى أمرَه بذلك.. فما الذي يمنعُه أن يفعلَ المأموراتِ ويتركَ المُحرماتِ بأمرِ اللهِ تعالى أيضاً .. (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [البقرة: 85] .. ولذلك يستفيدُ الصَّادقونَ من رمضانَ فائدةً عظيمةً .. وتتغيَّرُ أحوالُهم .. ويخرجونَ من رمضانَ وقد حقَّقوا ما أرادَ اللهُ تعالى من فرضِ الصِّيامِ .. وهو أن يُصبحَ عبادُه من أهلِ التَّقوى الذين هم أحبابُه .. (فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) [آل عمران: 76].
أَتَى رَمَضَانُ مَزْرَعَةُ العِبَادِ *** لِتطْهِيرِ القُلُوبِ مِنَ الفَسَادِ
فَمَنْ زَرَعَ الحُبُوبَ وَمَا سَقَاهَا *** تَأَوَّهَ نَادِمًا يَوْمَ الحَصَادِ
أقول قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِ ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ الكريمِ المنَّانِ، مُجزِلِ العطايا قَديمِ الإحسانِ، أحمدُه سبحانَه شرَّفَ هذه الأمّةَ وخصَّها بصيامِ شَهرِ رمضانَ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا ونبيَّنا محمّدًا عبدُ اللهِ ورسولُه خيرُ من صلَّى وصامَ وقامَ لعبادةِ ربِّه الرحيمِ الرحمنِ، اللهمّ صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمدٍ وعلى آلِه وصحبِه والتَّابعينَ ومن تبعَهم بإحسانٍ ..
أما بعد:
وإن نظرتَ إلى هذا النِّداءِ (يَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ) من زاويةٍ أُخرى .. وجدتَ فيه الوعيدَ الشَّديدَ .. والإنذارَ والتَّهديدَ .. لمن استعدُّوا لرمضانَ .. بكلِ وسائلِ صَرفِ العِبادِ عن فضيلةِ الزَّمانِ .. فها هيَ إعلاناتُهم الكثيرةُ .. في فُنونِ إهدارِ أوقاتِ المُسلمينَ الثَّمينةِ .. فوازيرُ ومُسلسلاتُ .. وخيمةُ رمضانَ وتفاهاتُ .. ولقاءاتُ نُجومِ العَفنِ الفني من فاسقينَ وفاسقاتِ .. موسيقى وسفورٌ .. واختلاطٌ مُحرمٌ وفُجورٌ .. والعجبُ كلَّ العجبِ .. وهم يُحَادُّونَ اللهَ تعالى في حكمتِه .. فهو سبحانَه جعلَ رمضانَ لمغفرةِ الذُّنوبِ وعِتقِ الرِّقابِ من النَّارِ .. وأوصى فيه بأنواعٍ كثيرةٍ من الطَّاعاتِ .. وفرضَ صومَه للتَّقوى والتَّخلُّصِ فيه من الشَّهواتِ .. وهم جعلوه شهرَ هَزَلٍ ومُجونٍ وسَخافاتٍ .. (أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ) [البقرة: 221].
يا أهلَ الإسلامِ .. إذا كانَ مَنْ قبلَكم يتركونَ كثيراً من المُباحاتِ بل وبعضِ الطَّاعاتِ ليتفرغوا إلى قراءةِ القرآنِ في رمضانَ .. فكيفَ بمن يُضيُّعُ أوقاتَ رمضانَ الغاليةَ بما فيه سَخطُ الرحمنِ؟!
فإياكم ودُعاةَ الشَّرِ .. الذينَ يَسرقونَ منكم أغلى أوقاتِكم .. ويَحولونَ بينَكم وبينَ مغفرةِ ربِّكم .. ولا يُريدونَ أن تكونوا من عُتقاءِ شهرِكم .. ويومَ القِيامةِ يتبرئونَ منكم .. (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) [سبأ: 31] .. فلقد ضيَّعتم علينا أفضلَ أوقاتِنا .. وحرمتمونا فُرصَ مَغفرةِ ربِّنا .. (قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) [سبأ: 32].. فلقد كنتُم تعلمونَ الحقَّ وأن السَّعادةَ في الصَّالحاتِ .. فما الَّذي كانَ يمنَعُكم من تركِ المُلهياتِ .. والتَّوجهِ إلى طاعةِ ربِّ الأرضِ والسماواتِ ..
(وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ) [سبأ: 33] .. لقد مكرتُم بنا على مدارِ السَّاعةِ .. وتفننتُم في إضلالِنا بكلِّ وسائلِ الإغراءِ والإفسادِ .. فلا ينفعُ ذلك اليومُ ندمٌ ولا حسرةٌ .. وإنما أمامَكم شهرٌ فيه فضائلُ اللهِ ظاهرةٌ .. فاستقبلوه بتوبةٍ ناصحةٍ .. وعزيمةٍ صادقةٍ .. ونيِّةٍ جازمةٍ .. ومن قصدَ اللهَ كفاه.
اللهم أهلَّ علينا شَهرَ رمضانَ بالأمنِ والإيمانِ، والسَّلامةِ والإسلامِ، والتَّوفيقِ لما تحبُه وترضاه يا ذا الجلالِ والإكرامِ، واغفرْ اللهم لنا ما سَلف وكانَ، من الذُّنوبِ والخَطايا والعِصيانِ، اللهم اجْعله شَهرَ عِزٍّ ونَصرٍ للإسلامِ والمسلمينَ في كلِّ مكانٍ، اللهم وأعِنَّا فيه على الصِّيامِ والقيامِ، واجْعلنا ممن يَصومه ويَقومه إيماناً واحتساباً يا ربَّ العالمينَ ..
اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأذِلَّ الشِركَ والمشركينَ، ودَمِّرْ أعداءَ الدِّينِ، واجعل هذا البلدَ آمناً مُطمئناً وسائرَ بِلادِ المسلمينَ، وأيِّد بالحقِّ إمامنا ووليَّ أمرِنا، اللهم انصر به دينَك وأعلِ به كلمتَك، وأعزَّ به أولياءَك، اللهم ارزقُه البِطانةَ الصالحةَ التي تَدلُه على الخيرِ وتُعينُه عليه، اللهم وَفِّق جميعَ ولاةَ المسلمينَ لاتباعِ كِتابِك وتَحكيمِ سُنَّةِ نَبيِّك صلى اللهُ عليه وسلمَ، اللهم اجعلهم رحمةً على عبادِك المؤمنينَ يا ذا الجَلالِ والإكرامِ.
التعليقات