عناصر الخطبة
1 / الأيام الأخيرة من رمضان 2/هدي النبي في العشر 3/تفريط الناس في أوقاتهم 4/ليلة القدر واغتنامها 5/طلب العفو من الله 6/السلف والاستعداد لليالي العشر.اهداف الخطبة
اقتباس
إن عشركم هذا هو العشر الأخير، وفيه الخيرات والأجور الكثيرة, تكمل فيه الفضائل، وتتم فيه المفاخر، ويطلع على عباده الرب العظيم الغافر, وينيلهم الثواب الجزيل الوافر, فيه تزكو الأعمال وتنال الآمال...
الخطبة الأولى:
الحمد لله عالم السر والجهر، وقاصم الجبابرة بالعز والقهر، محصي قطرات الماء وهو يجري في النهر، فضّل بعض المخلوقات على بعض حتى أوقات الدهر, (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) [القدر: 3]، أحمده على الهدى وتسهيل طرقه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في رتقه وفتقه، وأن محمدا عبده ورسوله؛ أرسله والضلال عام فمحاه بمحقه، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد: فأُوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله -عز وجل- فهي خير الوصايا للصائمين, وأفضل العطايا للقانتين والسراج للمخبتين, (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
أيها القانتون: نعيش لحظاتٍ حسان, ووقفاتٍ لا تقدر بالأثمان, ونفحاتٍ من الرحمن, وقُرباً من الديان, وأياماً تصان, هي تاجٌ على رأس الزمان، (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) [القدر: 3], يا له من وقت عظيم الشان, تجب حراسته مما إذا حل شان، كأنكم به قد رحل وبان, ووجه الصلح ما بان, (سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) [القدر: 5], من اللازم فيه أن تحرس العينان، ومن الواجب أن يحفظ اللسان، ومن المتعين أن تمنع من الخطى في الخُطا القدمان, زنوا أفعالكم في هذا العشر بميزان، واشتروا خلاصكم بما عز وهان، فإن عجزتم فسلوا المُعِين وقد أعان، قد ذهب ثلثا البضاعة في التفريط والإضاعة، والتسويف يمحق ساعة بعد ساعة، (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ) [الرحمن: 5].
أيها المخبتون: كان نبيكم يقوم العشر وما ينام, يجد ويجتهد ويشمر عن الجد, في الصحيحين عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى, وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعتكف في كل رمضان عشرة أيام, فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين".
وإنما كان يعتكف النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذا العشر التي يطلب فيها ليلة القدر؛ قطعا لإشغاله, وتفريغا للياليه, وتخليا لمناجاة ربه وذكره ودعائه, وكان يحتجر حصيرا يتخلى فيها عن الناس فلا يخالطهم ولا يشتغل بهم.
يا واقفا في مقام التحير: هل أنت على عزم التغير؟ إلى متى ترضى بالنزول في منزل الهوان؟. هل مضى من يومك يوم صالح سلمت فيه من جرائم القبائح؟، تالله لقد سبق المتقي الرابح وأنت راض بالخسران. عينك مطلقةٌ في الحرام، ولسانك منبسط في الآثام، ولأقدامك على الذنوب إقدام، والكل مثبت في الديوان. قلبك غائب في صلواتك, وفكرك ينقضي في شهواتك، فإنْ ركن إليك معامل في معاملاتك دخلت به خان من خان.
أكثر كلامك لغو وهذر، والوقت بالتفريط شذر مذر، وإن اغتبت مسلما لم تبق ولم تذر، الأمان منك الأمان. تالله لو عقلت حالك أو ذكرت ارتحالك أو تصورت أعمالك؛ لبنيت بيت الأحزان, سيشهد رمضان عليك بنطق لسانك ونظر عينيك، وسيشار يوم الجمع إليك شقي فلان وسعد فلان.
في كل لحظة تقرب من قبرك، فانظر لنفسك في تدبير أمرك، وما أراك إلا كأول شهرك، الأول والآخر سيان، قد ذهب من الشهر أغلبه وما أرى من عملك أنك تغلبه، فإن كان في الماضي قد قبح الوصف فقم الآن.
يا ليلة القدر للعابدين؛ اشهدي, يا أقدم القانتين؛ اركعي لربك واسجدي, يا ألسنة السائلين؛ جدي في المسألة واجتهدي.
ليلة القدر عند المحبين ليلة الحظوة بأنس مولاهم وقربه, وإنما يفرون من ليالي البعد والهجر, يا من ضاع عمره لا شيء؛ استدرك ما فاتك في ليلة القدر فإنها تحسب بالعمر, (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ) [القدر: 1، 2].
إخواني: المُعول على القبول لا على الاجتهاد, والاعتبار ببر القلوب لا بعمل الأبدان, رُبَّ قائم حظه من قيامه السهر, كم من قائم محروم! وكم من نائم مرحوم! نام وقلبه ذاكر وهذا قام وقلبه فاجر.
عباد الله: إن عشركم هذا هو العشر الأخير، وفيه الخيرات والأجور الكثيرة, تكمل فيه الفضائل، وتتم فيه المفاخر، ويطلع على عباده الرب العظيم الغافر, وينيلهم الثواب الجزيل الوافر, فيه تزكو الأعمال وتنال الآمال، وقد ذكر -جل وعلا- من محاسن أهل الإيمان، أنهم (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) [السجدة: 16], عن عائشة -رضي الله عنهما- قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في العشر الأواخر من رمضان يحيي الليل كله, ويوقظ أهله ويشد المئزر". وفي أفراد مسلم من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يجتهد في العشر ما لا يجتهد في غيره".
وفي الصحيحين من حديثها قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله -عز وجل-". وأخرجاه من حديث ابن عمر قال: "اعتكف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- العشر الأول من رمضان فأتاه جبريل -عليه السلام- فقال: إن الذي تطلب أمامك".
أيها الموحدون: قيام ليالي العشر أنسٌ وسعدٌ, قيام ليلة القدر فوز بالأجر, فالسهر مرغوب والنوم مذموم, والباب مفتوح والنائم محروم, في الصحيحين من حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه". وكذلك في حديث عبادة بن الصامت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر".
أيها المؤمنون: ليالي العشر عفو وغفرانٌ من الغفار, ليالي العشر قربٌ وكشفٌ, قامها نبيكم قالت عائشة -رضي الله عنها-: "يا رسول الله؛ إذا وافقت ليلة القدر فما أدعو؟". فقال: "قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني".
قال ابن رجب: "العفو من أسماء الله تعالى وهو يتجاوز عن سيئات عباده, الماحي لأثارهم عنهم, وهو يحب العفو فيحب أن يعفو عن عباده, ويحب من عباده أن يعفو بعضهم عن بعض, فإذا عفا بعضهم عن بعض عاملهم بعفوه, وعفوه أحب إليه من عقوبته, وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِعَفْوِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ" قال يحيى بن معاذ:"لو لم يكن العفو أحب الأشياء إليه؛ لم يبتل بالذنب أكرم الناس عليه" يشير إلى أنه ابتلى كثيرا من أوليائه وأحبابه بشيء من الذنوب؛ ليعاملهم بالعفو فإنه يحب العفو.
قال بعض السلف الصالح: "لو علمت أحب الأعمال إلى الله تعالى لأجهدت نفسي فيه, فرأى قائلا يقول له في منامه: إنك تريد ما لا يكون, إن الله يحب أن يعفو ويغفر, وإنما أحب أن يعفو ليكون العباد كلهم تحت عفوه, ولا يدل عليه أحد منهم بعمل" لما عرف العارفون بجلاله خضعوا, ولما سمع المذنبون بعفوه طمعوا, ما تم إلا عفو الله أو النار, لولا طمع المذنبين في العفو لاحترقت قلوبهم باليأس من الرحمة, ولكن إذا ذكرت عفو الله استروحت إلى برد عفوه, وإنما أمر بسؤال العفو في ليلة القدر بعد الاجتهاد في الأعمال فيها وفي ليالي العشر؛ لأن العارفين يجتهدون في الأعمال ثم لا يرون لأنفسهم عملا صالحا ولا حالا ولا مقالا, فيرجعون إلى سؤال العفو, كحال المذنب المقصر قال يحيى بن معاذ: "ليس بعارف من لم يكن غاية أمله من الله العفو".
كان مطرف يقول في دعائه: "اللهم ارض عنا, فإن لم ترض عنا فاعف عنا, من عظمت ذنوبه في نفسه لم يطمع في الرضا, وكان غاية أمله أن يطمع في العفو, ومن كملت معرفته لم ير نفسه إلا في هذه المنزلة".
أيها المتقون: كان السلف يتأهبون لليلة القدر، فكان لتميم الداري حلة بألف درهم يلبسها في الليلة التي يرجى أنها ليلة القدر. وكان ثابت وحميد يغتسلان ويتطيبان ويلبسان أحسن ثيابهما ويطيبان مساجدهما في الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر، والله ما يغلو في طلبها عشر، لا والله ولا شهر، لا والله ولا دهر. فاجتهدوا في الطلب فرب مجتهد أصاب. ليلة القدر ليلة يفتح فيها الباب, ويقرب فيها الأحباب, ويسمع الخطاب, ويرد الجواب, ويسنى للعاملين عظيم الأجر, (سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) [القدر: 5]. يسعد بها المواصل ويتوفر فيها الحاصل ويقبل فيها المجامل، فيا ربح المعامل في البحر (سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) [القدر: 5].
ليلة تتلقى فيها الوفود، ويحصل لهم المقصود بالقبول والفوز والسعود، أترى ما يؤلمك -أيها المطرود- هذا الهجر (سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) [القدر: 5], أخلصوا وما أخلصت قصدك، وبلغوا المراد وما بلغت أشدك، وكلما جئت بلا نية ردك، أو ليس ما يؤثر عندك شديد هذا الزجر (سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) [القدر: 5].
أيقظ نفسك لما بين يديها، وانتظر ما سيأتي عن قليل إليها, وأسمعها المواعظ فقد حضرت لديها، واقبل نصحي وخذ عليها ضرب الحجر, (سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) [القدر: 5].
هذه أوقات يربح فيها من فهم ودرى، ويصل إلى مراده كل من جد وسرى، ويفك فيها العاني وتطلق الأسرى، تقدم القوم وأنت راجع إلى ورا، أو ليس كل هذا قد جرى, وكأنه لم يجر (سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) [القدر: 5].
التعليقات