عناصر الخطبة
1/ الأمة المحمدية تمرض ولا تموت 2/ الثقة واليقين برب العالمين 3/ الفأل الحسن قرين حسن الظن بالله 4/ كان رسول الله يفتح باب الأمل للصحابة بانتصار الإسلام 5/ ضرورة إبعاد اليأس والتشاؤم عن نفوس المسلمين 6/ نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إشاعة روح التشاؤم في المجتمع 7/ إياك أن تقع فريسة للهم والحزن والتشاؤماهداف الخطبة
اقتباس
من العجيب أن بعض الناس إذا جلست معه أهمك وأغمك بما يطرح من تحليلات مزعجة وتوقعات مقلقة، فليس لحسن الظن لديه سبيل، ولا للفأل إلى قلبه طريق.. فالحياة في عينيه معتمة قد لبس نظارة سوداء لا يرى الحياة إلا من خلالها... إن علينا أن نتقي الله في أنفسنا وفي أمتنا، وأن لا نكون فريسة للهم والحزن والتشاؤم، وأن نحسن الظن بالله تعالى..
أيها الإخوة: إن الناظر في ظاهر حال الأمة اليوم يرى أن المسلمين يعيشون مِحَنًا ورزايَا، وفتنًا وبلايا.. لهم في كل أرضٍ أرملةٌ وقتيل.. وفي كل ركنٍ بكاءٌ وعَويل.. وفي كل صِقعٍ مُطارَدٌ وأسير.. صورٌ من الذلِّ والهوان والفُرقة والطائفية والإقصاء.. دماءٌ وأشلاء، وتسلُّطٌ من الأعداء.. وكأن الناظرَ لا يرى دماءً سوى دمائنا، ولا جراحًا سوى جراحاتنا، زاغَت الأبصار، وبلغَت القلوبُ الحناجِر، وظنَّ ظانُّون بالله الظنُونَ.. فما من أمة تتصدر أخبار واقعها المؤلم نشرات الأخبار العالمية إلا أمة الإسلام.. وكأنه يصدق علينا في هذا الزمان قول شاعر العرب:
أنّى اتجهت إلى الإسلام في بلد *** تجده كالطير مقصوصاً جناحاه
كم صرّفتنا يدٌ كنا نصرّفها *** وبات يحكمنا شعب ملكناه
أيها الأحبة: قد يتساءل متسائل فيقول: هل بعد هذه الأحزان من أفراح؟! وهل بعد هذه المضائق من مخارج؟! وهل وراء هذه الآلام من آمال؟! وهل في طيَّات هذه المِحَن من مِنَح؟! ومتى يلُوحُ نورُ الإصلاح؟!
نقول ونحن نحَسَنُ الظن بربنا: نعم، ثم نعم.. فهل يكون انتظار الفرج إلا في الأزمات؟! وهل يُطلَبُ حسنُ الظن إلا في المُلِمَّات؟! يقول ربنا في الحديث القدسي عزَّ شأنه: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ». وفي رواية: «إِنْ ظَنَّ بِي خَيْرًا فَلَهُ، وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ» ، وفي أخرى: «فلا تظنُّوا بالله إلا خيراً». رواه مسلم وأحمد وابن حبان.
والمؤمنون قال الله فيهم: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) [الأحزاب: 22] وقال في آخرين: (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا) [الفتح: 12] وقال تعالى: (وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [فصلت: 23].
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: والذي لا إله غيره؛ ما أُعطِي عبدٌ مؤمنٌ شيئًا خيرًا من حُسن الظنِّ بالله، والذي لا إله غيره، لا يُحسِن عبدٌ بالله عز وجل الظنَّ إلا أعطاه الله عز وجل ظنَّه، ذلك بأن الخير بيده. ذكره ابن أبي الدنيا في حسن الظن.
أيها الإخوة: وقرين حسن الظن بالله الفأل وهو الكلمة الصّالحة أو الكلمة الطّيّبة أو الكلمة الحسنة مصداق ذلك أنّه صلّى اللّه عليه وسلّم سئل ما الفأل.؟ فقال: «الكلمة الصّالحة يسمعها أحدكم». وجاء في حديث أنس رضي اللّه عنه: أنّ الفأل: «الكلمة الحسنة والكلمة الطّيّبة». رواهما البخاري ومسلم
والتّفاؤل: هو انشراح قلب الإنسان وإحسانه الظّنّ، وتوقّع الخير بما يسمعه من الكلام الصّالح أو الحسن أو الطّيّب.
قال الماورديّ: فأمّا الفأل ففيه تقوية للعزم، وباعث على الجدّ، ومعونة على الظّفر؛ فقد تفاءل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في غزواته وحروبه. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ كَلِمَةً فَأَعْجَبَتْهُ فَقَالَ: «أَخَذْنَا فَأْلَكَ مِنْ فِيكَ». رواه أبو داود وصححه الألباني
ومن هنا فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبث في نفوس صحابته رضوان الله عليهم روح التفاؤل والجد والإقدام حتى في أحرج الظروف وأشدها وأقساها, فعَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ رضي الله عنه قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ، فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا: أَلاَ تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلاَ تَدْعُو لَنَا، فَقَالَ: «قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ، فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمَشَّطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ، مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرُ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلاَّ اللهَ، وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ». رواه البُخَارِي وأحمد والنَّسائي.
ولما هاجر إلى المدينة وتوارى في الغار هو وأبو بكر رضي الله عنه والأخطار محدقة بهما من كل جانب فقال أبو بكر: لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ أَبْصَرَنَا تَحْتَ قَدَمَيْهِ. فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا.. يَا أَبَا بَكْرٍ، لا تَحْزَنْ إِنَّ الله معنا».
وفي غزوة الخندق التي وصف الله تعالى حال المسلمين فيها فقال: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا) [الأحزاب: 10- 11] يفتح رسول الله صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ باب الأمل للصحابة بانتصار الإسلام, قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيّ رضي الله عنه، أَنّهُ قَالَ: ضَرَبْت فِي نَاحِيَةٍ مِنْ الْخَنْدَقِ، فَغَلُظَتْ عَلَيّ صَخْرَةٌ وَرَسُولُ اللّهِ صَلّى اللّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَرِيبٌ مِنّي؛ فَلَمّا رَآنِي أَضْرِبُ وَرَأَى شِدّةَ الْمَكَانِ عَلَيّ نَزَلَ فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ مِنْ يَدِي، فَضَرَبَ بِهِ ضَرْبَةً لَمَعَتْ تَحْتَ الْمِعْوَلِ بُرْقَةٌ.. قَالَ ثُمّ ضَرَبَ بِهِ ضَرْبَةً أُخْرَى، فَلَمَعَتْ تَحْتَهُ بُرْقَةٌ أُخْرَى.. قَالَ ثُمّ ضَرَبَ بِهِ الثّالِثَةَ فَلَمَعَتْ تَحْتَهُ بُرْقَةٌ أُخْرَى. قَالَ قُلْت: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي يَا رَسُولَ اللّهِ مَا هَذَا الّذِي رَأَيْت لَمَعَ تَحْتَ الْمِعْوَلِ وَأَنْتَ تَضْرِبُ.؟ قَالَ "أَوَقَدْ رَأَيْت ذَلِكَ يَا سَلْمَانُ.؟" قَالَ قُلْت: نَعَمْ. قَالَ" أَمّا الْأُولَى فَإِنّ اللّهَ فَتَحَ عَلَيّ بِهَا الْيَمَنَ، وَأَمّا الثّانِيَةُ فَإِنّ اللّهَ فَتَحَ عَلَيّ بِهَا الشّامَ وَالْمَغْرِبَ، وَأَمّا الثّالِثَةُ فَإِنّ اللّهَ فَتَحَ عَلَيّ بِهَا الْمَشْرِقَ"... سيرة ابن هشام.
وفي صلح الحديبية وبعد قبوله صلى الله عليه وسلم بشروط الصلح جَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله أَلَسْنَا عَلَى حَقٍّ وَهُمْ عَلَى بَاطِلٍ.؟ قَالَ:" بَلَى". قَالَ: أَلَيْسَ قَتْلاَنَا في الْجَنَّةِ وَقَتْلاَهُمْ في النَّارِ.؟ قَالَ: "بَلَى". قَالَ: فَفِيمَ نُعْطِى الدَّنِيَّةَ في دِينِنَا وَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ الله بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ.!؟ فَقَالَ: «يَا ابْنَ الْخَطَّابِ إني رَسُولُ الله وَلَنْ يضيعني الله أَبَدًا». قَالَ: فَانْطَلَقَ عُمَرُ فَلَمْ يَصْبِرْ مُتَغَيِّظًا فَأَتَى أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ: أَلَسْنَا عَلَى حَقٍّ وَهُمْ عَلَى بَاطِلٍ.؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: أَلَيْسَ قَتْلاَنَا في الْجَنَّةِ وَقَتْلاَهُمْ في النَّارِ.؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَعَلاَمَ نُعْطِى الدَّنِيَّةَ في دِينِنَا وَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ الله بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ.!؟ فَقَالَ: يَا ابْنَ الْخَطَّابِ إِنَّهُ رَسُولُ الله، وَلَنْ يُضَيِّعَهُ اللهُ أَبَدًا. قَالَ فَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم بِالْفَتْحِ؛ فَأَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ فَأَقْرَأَهُ إِيَّاهُ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله أَوَفَتْحٌ هُوَ.؟ قَالَ" نَعَمْ" فَطَابَتْ نَفْسُهُ وَرَجَعَ. رواه والبُخَارِي ومسلم وغيرهما..
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشر بظهور هذا الدين فعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلاَ يَتْرُكُ اللهُ بَيْتَ مَدَرٍ وَلاَ وَبَرٍ، إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللهُ هَذَا الدِّينَ، بِعِزِّ عَزِيزٍ أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللهُ بِهِ الإِسْلاَمَ، وَذُلاًّ يُذِلُّ اللهُ بِهِ الْكُفْرَ". رواه أحمد وصححه الألباني.
وعَنْ ثَوْبَانَ، مَوْلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ اللهَ زوي لِيَ الأَرْضَ، فَرَأَيْت مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، فَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا, وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ: الأَحْمَرَ وَالأَبْيَضَ". رواه مسلم.
أيها الإخوة: لقد كان صلى الله عليه وسلم في تلك المواقف كلها حريصاً على إبعاد اليأس والتشاؤم عن نفوس أصحابه ومن بعدهم من المؤمنين؛ بل حرص على استبدال تلك الروح بروح المتفائل الواثق بنصر الله تعالى.. نسأل الله للمسلمين نصراً من عنده إنه جواد كريم
أقول قولي هذا....
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة: ما أحوجنا في هذا الزمن ونحن نعيش في كرب وضيق أن نسمع مثل هذه الآثار عن المصطفى صلى الله عليه وسلم فهديه خير الهدى..
ومن العجيب أن بعض الناس إذا جلست معه أهمك وأغمك بما يطرح من تحليلات مزعجة وتوقعات مقلقة، فليس لحسن الظن لديه سبيل ولا للفأل إلى قلبه طريق.. فالحياة في عينيه معتمة قد لبس نظارة سوداء لا يرى الحياة إلا من خلالها...
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إشاعة روح التشاؤم في المجتمع بسب الدهر أو الإدعاء بأن الناس قد هلكوا وأن الخير قد انتهى من الناس, فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَسُبُّوا الدَّهْرَ، فَإِنَّ اللهَ هُوَ الدَّهْرُ»، وفي رواية قَالَ اللهُ تَعَالَى: «يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ، وَأَنَا الدَّهْرُ بِيَدِي الْخَيْرُ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ». وفي أخرى: «يؤذيني ابنُ آدم، يقول: يا خيّبَةَ الدهر، فلا يقولنَّ أحدكم: يا خيبةَ الدهر، فإني أنا الدهر، أُقَلِّبُ ليلَهُ ونهارهُ». رواه البُخاري ومسلم.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِذَا سَمِعْتَ الرَّجُلَ يَقُولُ: هَلَكَ النَّاسُ، فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ. رواه مسلم. قال الخطابي معناه لا يزال الرجل يعيب الناس ويذكر مساويهم ويقول فسد الناس وهلكوا ونحو ذلك، فإذا فعل ذلك فهو أهلكهم أي أسوأ حالاً منهم بما يلحقه من الإثم في عيبهم والوقيعة فيهم، وربما أداه ذلك إلى العجب بنفسه ورؤيته أنه خير منهم والله أعلم.
وبعد: إن علينا أن نتقي الله في أنفسنا وفي أمتنا وأن لا نكون فريسة للهم والحزن والتشاؤم، وأن نحسن الظن بالله تعالى حتى نصل إلى..
وإنّي لأرجو اللّه حتّى كأنّني *** أرى بجميل الظّنّ ما اللّه صانع
التعليقات