عناصر الخطبة
1/ عودة المرء لقبره مجردا من كل شيء 2/ عدم استئناسه في قبره بشيء سوى عمله 3/ معايشته أهوال القيامة والحساب وحيداً عاريا حافيا 4/ مروره على الصراط وحيدا يجري به عمله 5/ تذكر هذه الأهوال والتوبة لله استعدادا للموتاهداف الخطبة
اقتباس
عاش عمرًا مديدًا، جمع فيه أموالًا كثيرةً، تقلد كثيرًا من المناصب، حصل على أعلى الشهادات، نال عددًا من الأوسمة، زيادةً على ذلك رزق بذرية كثيرة من أبناء وأبناء أبناء، والنهاية: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ) [الأنعام:94].
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارًا به وتوحيدًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليمًا مزيدًا.
أما بعد: فيا عباد الله، استعدوا للموت قبل أن تناخ للرحيل الركاب، تنبهوا قبل هجوم هادم اللذات ومفرق الجماعات؛ فإن الحياة مهما امتدت وطالت فإن مصيرها إلى الزوال، والمرء مهما عمّر في هذه الحياة فلن يخلد؛ (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران: 185].
عباد الله: عاش عمرًا مديدًا، جمع فيه أموالًا كثيرةً، تقلد كثيرًا من المناصب، حصل على أعلى الشهادات، نال عددًا من الأوسمة، زيادةً على ذلك رزق بذرية كثيرة من أبناء وأبناء أبناء، والنهاية: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ) [الأنعام:94].
في لحظة واحدة هجم عليه الموت، فجرده من مناصبه وشهاداته وألقابه؛ ليقدم على ربه وحيدًا فريدًا كما خلق أول مرة.
خلق في بطن أمه وحيدًا، لا يعرف الألقاب والمناصب والأموال والدور والقصور، خلق في ظلمات ثلاث، لا تدري عنه أمه وهو في أحشائها، والله يعلم مستقره ومستودعه، ورزقه وأجله وعمله، وشقيًا كان أو سعيدًا. قال ربنا –جل وعلا-: (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) [الزمر:6].
ولما خرج إلى الدنيا خرج وحيدًا لا يملك شيئًا، ثم عاش في هذه الحياة ما شاء الله، يصارع أهلها على ما فيها من متع ولذات، ويفاخر بالأولاد والثروات، وقد نسي أنها دار غرور وآهات، قال الله -جل وعلا-: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [الحديد:20].
ولما جاءت ساعة الرحيل رحل وحيدًا كما خلق: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الأنعام: 94]، نزل به الموت وهو بين أهله وأصحابه، لكنه يعاين السكرات وحيدًا، ويرى ملائكة الموت وحيداً، قال الله –جل وعلا-: (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) [الواقعة:83]، أي: الروح، (وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ) [الواقعة:84-85]، أي: لا ترون الملائكة، (فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا) [الواقعة:86-87]، أي: ترجعون الروح للجسد، (تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) [الواقعة:87].
ورحل العبد وحيدًا ثم ذهب به إلى دار سيسكنها وحيدًا، أمدًا بعيدًا، لا يدري به إلا الله، يتبعه أهله وماله وولده ثم يتركونه وحيدًا. قال -عليه الصلاة والسلام-: "يتبع الميت ثلاثة: أهله وماله وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع أهله وماله، ويبقى عمله".
ودخل القبر وحيدًا، قد جُرِّد من كل شيء؛ من ماله وأهله ولباسه ومناصبه وألقابه، لن يدخل معه قبره كرسي الملك أو الوزارة، لن يلبس التاج، والشارة العسكرية، ولا عباءة المشيخة، كما خرج إلى الدنيا سيخرج منها.
ثم يسأل في قبره، لكن، لن يقال له: صاحب الجلالة، ولا صاحب الفخامة، ولا صاحب المعالي، ولا سعادة المدير، سيجرد من ألقابه كما جرد من ماله ولباسه، سيواجه أسئلة الملائكة في القبر وحيدًا.(وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ) [الأنعام:94]، تركتم ما أعطيناكم من الأموال والأولاد والأزواج وراء ظهوركم في الدنيا.
سيظل في القبر وحيدًا، لا أنيس ولا جليس، ليس معه إلا العمل، إن كان صالحًا فنعم الأنيس، وإن كان سيئًا فبئس الجليس.
وإذا قامت القيامة، سيخرج من قبره وحيدًا؛ ليعايش أهوال القيامة وحيدًا، نعم وحيدًا، هو ليس وحيدًا بل بين ملايين الخلائق، يرى أمه وأباه، وأخته وأخاه، وولده الذي رباه، وزوجه التي كانت تحبه وتهواه، لكنه سيفر منهم جميعًا، (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس:34-37].
يقف على ساحة القيامة عاري الجسد، حافي القدم، وصدق الله: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الأنعام:94]. قال -عليه الصلاة والسلام-: "يحشر الناس يوم القيامة حفاةً عراةً غرلًا"، حفاةً بلا نعال، عراة بلا لباس، غرلًا بلا ختان.
قالت الصدّيقة بنت الصديق –رضي الله عنها-: يا رسول الله، النساء والرجال جميعًا ينظر بعضهم إلى بعض؟! فقال: "يا عائشة، الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض". وقال -عليه الصلاة والسلام-: "إنكم محشورون حفاةً عراةً غرلًا"، ثم قرأ: (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) [الأنبياء:104].
الأمر شديد، والكرب عصيب؛ لأن العرض سيكون على ملك الملوك، الذي يعلم خائنة الأعين وما يخفي الضمير. قال -عليه الصلاة والسلام-: "ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة".
الخلائق جميعًا سيكلمهم الله مباشرةً بلا واسطة، سينادى على كل مخلوق؛ ليقف بين يدي الملك الحق المبين؛ ليحاسب وحيدًا فريدًا. قال ربنا – جل وعلا-: (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا) [مريم:93-95].
مَثِّلْ لِنَفْسِكَ أَيُّهَا المغرورُ *** يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاءُ تَمُورُ
قَدْ كُوِّرَتْ شَمْسُ النَّهَارِ وَأُدْنِيَتْ *** حَتَّى عَلَى رَأْسِ الْعِبَادِ تفٌور
وَتَعَلَّقَتْ فِيْكَ الخُصُومُ وَأَنْتَ في *** يَوْمِ الحِسَابِ مُسَلْسَلٌ مَجْرُوْرُ
وَحُشِرْتَ عرْيَانًا حَزِيْنًا بَاكِيًا *** قَلِقًا وَمَا لَكَ في الأنَامِ مُجَيْرُ
مَهِّدْ لِنَفْسِكَ حُجَّةً تَنْجُو بِهَا *** يَوْمَ المَعَادِ وَيَوْمَ تَبْدُو العُوْرُ
إنه الموقف الذي تحار فيه الأفهام، وتذل الأقدام؛ إذا وقفت بين يدي الملك العلام، وحيدًا فريدًا:
(وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) [الأنعام:94].
عندها تتذكر في يوم لا ينفع فيه التذكر؛ قال الله: (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ) [الفجر:21-23]. وهل تنفع الذكرى؟ (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى) [الفجر:23].
عباد الله، في يوم القيامة ستذهب ألقاب وتخرج ألقاب جديدة، لن يسمع الناس الأمير ولا الوزير ولا المدير، سيسمعون المنادي ينادي: أين المتقون؟ أين الذين كانوا يخشون ربهم بالغيب ولم يروه؟ أين الصابرون؟ أين الصائمون؟.
وبعد هذه الأهوال التي لاقاها العبد وحيدًا فريدًا، هل بقي من أمر عظيم يواجهه العبد وحيدًا فريدًا؟ أقول: نعم، بقي أمر مهول، تحار له العقول، لا يسمع فيه قول إلا من رسول؛ إنه المرور على الصراط، سيمر العبد من على الصراط، جهنم تحته، لها تغيظ وزفير، إن سقط سقط في النار -عياذًا بالله من النار-، يجري به عمله، ونبيكم قائم على الصراط، يقول: "يا رب، سلم سلم!".
يا رب سلم من النار، لنصل إلى خير الديار، في جوارك يا عزيز يا غفار.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا كثيرًا كما أمر، وأشكره وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وصلى الله وسلم وبارك على الشافع المشفع يوم المحشر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه السادة الغرر، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فيا معاشر المسلمين، لقد هدد الله الوليد بن المغيرة الذي كفر بالله وآذى رسول الله -عليه الصلاة والسلام- بقوله -جل وعلا-: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا) [المدثر:11]، أي: دعني أيها الرسول أنا والذي خلقته وحيدًا فريدًا، لا مال له ولا ولد.
وأنت -عبد الله- تذكر أن الذي خلقك وحيدًا فريدًا قادر عليك، ولا يخفى عليه شيء من عملك، تذكر أنك كما خلقت وحيدًا ستلقى الله وحيدًا، فلا يغرنك مال ولا قوة، لا تظلم أحدًا لأنك ترى أنك أقوى منه بمالك أو ولدك أو عشيرتك أو جندك، فأنت ستلقى الله وحيدًا وسيقتص له منك.
يا من يظلم زوجته بأخذ مالها بغير رضاها، أو يعتدي عليها بالضرب والإهانة، ستلقى الله وحيدًا فريدًا. يا من يظلم نساءه ويحرمهن من الميراث الذي هو حق جعله الله لهن، ستلقى الله وحيدًا فريدًا. يا من يظلم عاملًا أو خادمًا، ستلقى الله وحيدًا فريدًا. يا من يظلم موظفًا ترأس عليه، ستلقى الله وحيدًا فريدًا. يا من ينتصر لظالم لقرابة أو صداقة أو مصلحة شخصية، ستلقى الله وحيدًا فريدًا. يا من يخذل مظلومًا هو قادر على نصره، ستلقى الله وحيدًا فريدًا.
عباد الله: كلنا سنلقى الله، كلنا سيقف بين يدي مولاه وحيدًا فريدًا؛ ليجازى بما عمل في هذه الحياة، فلنبادر إلى التوبة ما دام عود الحياة رطيبًا؛ فمن تاب إلى الله غفر ذنبه، وستر عيبه. قال -عليه الصلاة والسلام-: "إن الله –عز وجل- يدني المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه، يستره من الناس، فيقول: أي عبدي، تعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول: أي نعم، يا رب، حتى إذا قرر بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك، قال الله: إني سترتها عليك في الدنيا، وقد غفرتها لك اليوم"، قال: "ثم أعطي كتاب حسابه".
اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، اللهم استرنا بجميل سترك ولا تفضحنا بين خلقك، اللهم لا تفضحنا في الدنيا ولا في الآخرة.
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وزد وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، وتابعي التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم...
التعليقات