عناصر الخطبة
1/ قدم آفة بخس الناس أشياءهم وبعض القصص في ذلك 2/ المقصود ببخس الناس أشياءهم وبواعث ذلك 3/ بعض صور ومظاهر بخس الناس أشياءهم 4/ عدل وإنصاف النبي -صلى الله عليه وسلمَ- 5/ بعض حيل وطرق الذين يبخسون الناس أشياءهماهداف الخطبة
اقتباس
(وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ) لا تبخسوا الناس كل الناس أشياءهم، جمع شيء، وكلمة شيء تصدق على كل موجود في هذا الوجود، حتى إن بعض العلماء تطرف فقال: إن المعدوم يقال له: شيء، فمن بخس الناس أشياءهم في أموالهم أو في حقوقهم أو في أنسابهم أو في مكانتهم أو في علمهم أو في فضلهم أو في شيء من أشياءهم فإن هذه الآية تصدق عليه.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70 - 71].
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله ما استطعتم وأطيعوه فما أسعدكم إن أطعتم: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [فاطر: 5 - 6].
يا معشر الإخوة: يقول مولانا -عز وجل- في محكم تنزيله: (وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا) [الأعراف: 85].
يا معشر الإخوة: بخس الناس أشياءهم، أي نقصهم حقوقهم ظلما، وهي مشكلة قديمة، وآفة عريقة، بدأت حينما بدأ الخلق خلق البشر، فإن الله -تعالى- حينما أمر الملائكة أن يسجدوا لآدم سجدوا كلهم أجمعون إلا إبليس أراد أن يبخس آدم حقه، فقال: (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا) [الإسراء: 61]، وقال: (أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) [ص: 76].
وهكذا حصل لأحد ابن آدم حينما بخس أخاه حقه، وهكذا حصل لأقوام الأنبياء حينما ازدروا أنبياءهم ورسلهم، وازدروا أولئك الذين آمنوا بأولئك الرسل وقالوا: (وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ) [هود: 27].
وكذلك فعل كفار قريش مع رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-، وكذلك فعل فرعون مع قومه مع بني إسرائيل الذين عبدهم وأذلهم وجعلهم عبيدا؛ لأنه بخسه حقهم وإنسانيتهم ومكانتهم وازدراهم واحتقرهم، وكذلك اليهود يفعلون فإن عبد الله بن سلام -رضوان الله تعالى عليه- وكان يهوديا فلما أراد أن يسلم دخل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-، وشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وقال لرسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: يا رسول الله إن اليهود قوما بهت وأخبره انه لا يريد أن يعلن إسلامه على ملء اليهود حتى يستخبرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- ويسألهم عن مكانة عبد الله بن سلام، فجمع اليهود وسألهم: ما عبد الله بن سلام فيكم؟ قالوا: هو سيدنا وابن سيدنا وأعلمنا وابن أعلمنا وخيرنا وابن خيرنا، فخرج عليهم عبد الله سلام من وراء الستار، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، فقالوا: هو سفيهنا وابن سفيهنا، قالوا: هو شرنا وابن شرنا، وبخسوه حقه، ونقصوه حقه. قال عبد الله بن سلام لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله ألم أقل لك أنهم قوما بهت؟ أي يبهتون الناس بما ليس فيهم.
(وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ) لا تبخسوا الناس كل الناس أشياءهم، جمع شيء، وكلمة شيء تصدق على كل موجود في هذا الوجود، حتى إن بعض العلماء تطرف فقال: إن المعدوم يقال له: شيء، فمن بخس الناس أشياءهم في أموالهم أو في حقوقهم أو في أنسابهم أو في مكانتهم أو في علمهم أو في فضلهم أو في شيء من أشياءهم فإن هذه الآية تصدق عليه.
إن الذين يبخسون الناس أشياءهم وفضائلهم ومنازلهم هم أناس يدخلون في أولئك المتكبرين الذين يبغضهم الله -تعالى-، فإن بخس الناس أشياءهم مردهم إلى ثلاثة أشياء: الحسد؛ كما فعل إبليس، والأثرة التي هي حب الذات حب النفس التي نسميها: الأنانية، والأمر الثالث: الكبر، وهل الكبر إلا غمط الناس وازدرائهم.
إن أبا ذر -رَضي الله عنه- الصحابي الجليل فلتت من لسانه كلمة قالها لبلال بن رباح -رَضي الله عنه-، قال له في حالة غضب: "يا ابن السوداء" عيره بأمه. فذهب بلال إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يشكوه، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "أعيرته بأمه إنك امرئ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم"، ولهذا تأدب أبو ذر بعد ذلك بهذا الأدب النبوي فأصبح يسوي بينه وبين خادمه وبين مولاه الذي يمشي معه، فقد لقيه بعض التابعين في يوم من الأيام ومعه حلة جميلة ومعه عبده أو مولاه وعليه حلة جميلة كحلة أبو ذر، فسأله عن ذلك: كيف تسوي بينك وبينه؟ فأخبره بهذا الحديث وبما حصل له مع رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- حين أنكر عليه ما قاله لبلال.
إن الذين يبخسون الناس أشياءهم وحقوقهم؛ لأنهم من جنسيات فقيرة فيزدرونهم ولا يعطونهم حقوقهم وأجورهم؛ لأنهم مساكين، ولأنهم ضعفاء، ولأنهم لا يستطيعون أن يطالبون بحقوقهم أولئك أقوام يصدق عليهم قول الله -تعالى-: (وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ)، فقد بخسوا الناس أشياءهم.
إن أولئك الذين يروجون للسلع فإن ما كانت السلعة عن طريقه ثناء ومدح وغرر بالمشتري من أجل أن يشتريها ليحصل على ثمن الدلالة، ثم إذا جاءت الأرض أو العقار أو السلعة من طريق آخر أخذ يذكر فيها كل عيب من أجل أنها لم تأتِ من طريقه، أولئك يجب أن يستمعوا إلى قول الله -تعالى-: (وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ).
أولئك الذين يزدرون الناس في أنسابهم ويزدرون الناس في انتماءاتهم وقبائلهم بحسب الأعراف الجاهلية، يجب أن يتذكروا قول الله -تعالى-: (وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ)، وأن يخرجوا عن تلك الأعراف وهذه الآية في سورة الأعراف.
وأولئك الشعراء الذين يمدحون من شاؤوا من أجل أن يتكسبوا، ومن أجل أن يحصلوا على الأموال، وأولئك الممدحون لا يستحقون ذلك الكلام، وإذا أرادوا أو كرهوا إنسانا فإنهم يغمسونه حقه، وينقصون من قيمته، ومن مكانته عليهم أن يتذكروا أيضا قول الله -تعالى-: (وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ) وقد وردت في سورة الشعراء أيضا.
يا معشر الإخوة: إن نبيكم رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- كان أعدل الناس، كان قواما بالقسط، كان يقول الكلمة الحق ولو كانت في مشرك لا يبخس الناس أشياءهم، ولا يظلم الناس حقوقهم، لقد قال كلمة عن شاعر قال شعرا في الجاهلية قال: "ألا كل شيء ما خلا الله باطل" هذا من إعطاء الناس حقوقهم، هذا من عدم بخس الناس أشياءهم.
يا معشر الإخوة: إن بخس الناس أشياءهم -كما سمعتم- ليس مقصورا على الأموال والحقوق فقط، ولكنه أيضا في الفضل والفضائل والعلم، وغير ذلك، وكثيرا من أهل العلم يقعون في معنى هذه الآية فيبخسون الناس حقوقهم وأشياءهم وينزلونهم من مكاناتهم حسدا من عند أنفسهم، وكل هذا مخالف لأدب الله -تعالى- وأدب رسوله.
نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يؤدبنا خير أدب، وأن يجعلنا ممن يعمل بكلام الله -تعالى-، وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلمَ- في كل حركات حياته.
هذا، واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، أرسله الله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، صلى الله عليه وعلى آله السادة الغرر ما اتصلت عين بنظر، وسمعت أذن بخبر.
يا معشر الإخوة: إن لبخس الناس أشياءهم طرقا كثيرة، وهي طرقا معروفة، وأمورا مكشوفة، وكثيرا منها قد يكون خفيا، وهي وسائل إبليسية، ودلائل شيطانية، على المسلم أن لا يقع فيها وأن لا يغفل عنها، وأن يتنبه لها، فإن كثيرا من الناس إذا ما أراد أن ينقص من حق أحد وأراد أن يعيبه في ذاته وفضله وخلقه، فإنه يقول مثلا: فلان طيب، ويثني عليه، ويجعل هذا تكأة يتكأ عليها لينقضها بعد ذلك، فيقول: فلان طيب، ورجل على نياته، ولكن.. ثم يأتي بعد ذلك بما بعد، ولكن بأمور تنهد لها الجبال، وإنما قال ذلك الكلام من أجل أن لا يقال أنه تقصد ذمه، وتقصد أن يعيبه حقه، وهذا أمر معروف، وطريق مكشوف لدى الحكماء والعارفين، فإن هذا من أكبر أنواع الظلم، ومن أكبر أنواع الغيبة أيضا، وغمط الناس حقوقهم.
وقد نص الغزالي -رحمه الله تعالى- في كتابه: "الإحياء" على أن من الناس من يظن أنه لا يقع في الغيبة حينما يقول: فلان مسكين ، هداه الله فعل كذا، وفعل كذا، وأراد بهذه الكلمة ذمه واستضعافه، ولم يرد بذلك أن يمدحه، وأن يثني عليه، فعلى الإنسان أن يتنبه إلى مثل هذه الأشياء التي يظن أنها من الصغائر، وهي من حقوق الناس التي لا يسامحون فيها إلا أن يشاء الله -تعالى-.
وعلى الإنسان أن يمسك لسانه بأن يتأدب بآداب الله -تعالى- في كتابه، فلا يقول إلا حقا، ولا ينطق إلا عدلا، والله -تعالى- يقول: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ) [الأنعام: 152]، ويقول سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ) [النساء: 135]، ويقول في الآية الأخرى في سورة المائدة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) واستمعوا إلى آخر الآية فإن الله -تعالى- ختمها بقوله سبحانه: (إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المائدة: 8]، فمن كان في نفسه شيء ويقول كلاما للناس يظهر أنه أراد شيئا آخر فإنه غاش للناس، والله عليم بما في صدره؛ لأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وهو عليم بذات الصدور.
وكل هذه الأمور -أيها الإخوة- تأتي بسبب الغفلة عن الرقابة، مراقبة المولى -سبحانه وتعالى- فإن الإنسان إذا راقب ربه أمسك لسانه، ووعظ نفسه وقلبه، ولم يقع فيما يغضب الله -تعالى-، ولا فيما يستدر الحسنات التي تكون له ليحصل عليها أولئك الخصوم الذين تكلم فيهم يوم القيامة فيصبح بعد ذلك من المفلسين.
نعوذ الله -تعالى- من سوء الحال.
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها.
التعليقات