عناصر الخطبة
1/أهمية محاسبة النفس وفضلها 2/محاسبة النفس على فرائض الإسلام وشعائره الظاهرة 3/محاسبة النفس على أعمال الجوارح وأعمال القلوب 4/نماذج مؤثرة في محاسبة النفس 5/محاسبة النفس على ما يحدث للمسلمين من نكبات ومآس 6/بعض واجبات المسلم تجاه نكبات المسلمين ومآسيهم
اهداف الخطبة

اقتباس

ينبغي للعبد أن يحاسب نفسه، وأن يتفقّدها، فإن رأى زللًا تداركه بالإقلاع عنه والّتوبة النّصوح، والإعراض عن الأسباب الموصلة إليه، وإن رأى نفسه مقصّرا في أمر من أوامر الله بذل جهده واستعان بربّه في تكميله وتتميمه. يأتي الكلام في هذه الجمعة المباركة، وقد تجاوزنا العام الـ...

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

يقول الله -تبارك وتعالى- في محكم كتابه: (يا أيّها الّذِين آمنوا اتّقوا اللّه ولْتنْظرْ نفْسٌ ما قدّمتْ لِغدٍ واتّقوا اللّه إِنّ اللّه خبِيرٌ بِما تعْملون)[الحشر: 18] الآية.

 

(يا أيّها الّذِين آمنوا اتّقوا اللّه) أي اجعلوا بينكم وبين غضب الله وعقابه وقايةً يمنعكم منه، بامتثال أوامره، واجتناب نهيه.

 

وفي هذا إشعار بأنّ الإيمان يقتضي سلوك سبيل التّقوى.

 

ثم قال: (ولْتنْظرْ نفْسٌ ما قدّمتْ لِغدٍ) أي حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وانظروا ماذا ادّخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم، وعرضكم على ربّكم.

 

(واتّقوا اللّه) تأكيد على لزوم التّقوى بعد الأمر به أوّلا.

 

(إِنّ اللّه خبِيرٌ بِما تعْملون) فالله -جل جلاله- عالم بجميع أحوالنا، لا تخفى عليه منّا خافية، ولا يغيب عليه من أمرنا جليلٌ ولا حقيرٌ.

 

وهذا يوجب شدّة الجدّ والاجتهاد في العمل الصالح، والبعد والابتعاد عن كلّ قبيح طالح.

 

قال العلّامة السّعدي -رحمه الله-: "هذه الآية الكريمة أصلٌ في محاسبة العبد نفسه، وأنّه ينبغي له أن يتفقّدها، فإن رأى زللًا تداركه بالإقلاع عنه والّتوبة النّصوح، والإعراض عن الأسباب الموصلة إليه، وإن رأى نفسه مقصّرا في أمر من أوامر الله بذل جهده واستعان بربّه في تكميله وتتميمه" ا. هـ.

 

عباد الله: يأتي الكلام عن هذه الآية العظيمة، في هذه الجمعة المباركة، وقد تجاوزنا العام الثّالث والثّلاثين، إلى العام الرّابع والثّلاثين من القرن الخامس عشر من الهجرة النبوية، وها نحن في ثاني أيّامه التي تمرّ مرّ السحاب، تجاوزنا هذا العام بما فيه من أفراح وأتراح، وبما كُتب علينا فيه من أفعال وأقوال؛ ونقص بفواته عامٌ من أعمارنا.

 

فمن كان في علم الله أنّه سيموت بعد عشرين سنة، فقد صارت تسعة عشر، ومن كان في علم الله أنّه سيموت بعد عشر سنين، فقد صارت تسع سنوات، ومن كان في علم الله أنّه سيموت بعد عام واحد، فلم يبق له في هذه الدّار إلّا أشهر معدودات أو أيّام محدودات أو قل: ساعات قليلات، لا ندري على من سيأتي الدّور هذا العام، ومن تكون منيّته فيه.

 

إنّه الموت الذي لا يفرق بين كبير أو صغير، ولا ذكر أو أنثى، ولا غني أو فقير، ولا صالح أو طالح -نسأل الله أن يلطف بنا وأن يحسن خواتمنا-.

 

نعم -عباد الله-: قد مرّ علينا عام، بل مرّت علينا أعوام، ولا ندري؟ أنزداد بنقصان أعمارنا من الله قربا، أو نزداد بها بعدا؟

 

فاللّهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شرّ.

 

ألا ومن أراد القرب من الله، وخفّة الحساب في الآخرة؛ فليسلك سبيل محاسبة النفس في الدّنيا، قال الحسن: "المؤمن قوام على نفسه، يحاسبها لله، وإنما خف الحساب على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة".

 

وقال ميمون بن مهران: " لا يكون العبد متّقيًا حتى يحاسب نفسه أشدّ من محاسبة شريكه".

 

فإذا عرفتم هذا -عباد الله-: أفليس من الدّين ورجاحة العقل أن نستوقف أنفسنا وقفة نحاسب فيها أنفسنا عمّا بدر منّا في سالف الأزمان؟

 

أفليس من الحكمة أن نستوقف أنفسنا وقفة، بل وقفات نراجع فيها حساباتنا، وننظر؛ في أيّ درب أحكام شريعتنا تسير؟ ونتأمل؛ إلى أين أعمالنا تؤدي، إلى الجنة أم إلى السعير؟

 

فلنتأمل حالنا مع الصلاة، وما أدراك ما الصلاة؟ فهل نحن مقيمين لها حق الإقامة، بحيث نفرح بها أمام الله يوم القيامة؟ أم أنّنا من الذين ضيّعوا أركانها وشروطها وواجباتها فما رعوها حق رعايتها؟ من الذين يسرعون في ركوعها، وينقرون -نقر الدّيكة- سجودها؟ أين نحن من خشوعها؟ أين نحن من استحضار قلوبنا فيها؟ نخادع الله أم نخادع أنفسنا؟ أين الكثير منّا من أدائها مع جماعة المسلمين؟ أين هذه الجموع المباركة في صلاة الفجر، والظهر والعصر، أين هي في المغرب والعشاء؟

 

لتساءل نفسك: كم صلاة ضيعت فما صليت في الوقت المحدد شرعا؟ كم ظهرا مع العصر جمعت؟ وكم عصرا مع المغرب جمعت؟ بل كم مرّة جمعت الصلوات الخمس في وقت واحد؟

 

ثم -عباد الله-: من سلم من النّاس أن تهاون في صلاة فلم يصلّها لا في وقتها ولا في غير وقتها؟ فمن يصليها عنك أيها الإنسان؟

 

هذا عن الصّلاة، أمّا عن الصّيام، فيا حسرتا على الصّيام، لا يعرفه الكثير منّا إلّا في شهر رمضان، وكأننا قد أخذنا من عند الله الضمان بقبول صيام الفرض، أفلا نعلم أنّ صيام التّطوع من أهمّ فوائده أنّه يجبر ما في صيام الفرض من الخلل.

 

نعم، وأيّنا يسلم من هذا الخلل، ودليل ذلك واضح لا يُحتاج إلى كثير عناء في بيانه، ذلك أنّ الله -تعالى- يقول: (يا أيّها الّذِين آمنوا كتِب عليْكم الصِّيام كما كتِب على الّذِين مِنْ قبْلِكمْ لعلّكمْ تتّقون)[البقرة: 183].

 

فإن أعظم ثمرات الصيام: التّقوى، وأين هي التّقوى؛ وقد ملأنا الدينا بالمنكرات؟

 

فلنراجع أنفسنا ولنحسن فهم حقيقة الصّيام، ولنعلم أنّه من لم يدع قول الزور والعمل به، وجميع المعاصي، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه.

 

هذا، ولا أنسى أن أشير إلى أنّه قد بدأت تظهر بادرة قبيحة، ألا وهي انتهاك حرمة هذا الشّهر الفضيل -نسأل الله أن يقتلع جذورها، وأن لا يدع أحدا من أبناء الإسلام إلا ويوفق إلى صيام هذا الشهر وإقامة هذا الركن تمام الصيام والقيام-.

 

وهذه صفحة عن الصيام نطويها لنفتح أخرى عن فريضة كادت تنسى بين بعض المسلمين، إنّها فريضة الزكاة، حتّى صارت عندهم على الخيار، من شاء أن يزكّي زكّى، ومن لم يشأ لم يزك، وغاطت أفواه أقوام: أنّ المال مالنا ونحن فيه أحرار وعلى كلّ؛ يوم القيامة نعرف من الحرّ في ماله ومن ليس بحرّ؟

 

يوم القيامة؛ (يوْم يحْمى عليْها) على ما يكنزون: (فِي نارِ جهنّم فتكْوى بِها جِباههمْ وجنوبهمْ وظهورهمْ هذا ما كنزْتمْ لِأنْفسِكمْ فذوقوا ما كنْتمْ تكْنِزون)[التوبة: 35].

 

ومن وفقهم الله لإيتاء الزكاة، هل هم يعطونها مستحقّيها؟ أم أنّهم يحابون فيها أقاربهم ومعارفهم ممن لا حق له فيها؟

 

ثمّ هذه الأموال التي نتكلّم عن زكاتها، هل نحن حريصين على مصادرها؟ هل نحن متحرّين فيها أن لا يكون دينار منها من الحرام؟ أم أنّنا من الذين لا يبالون ولا يهمّنا من أين دخل هذا المال إلى جيوبنا؟

 

سواء من ربا أو رشوة، أو قمار أو بيع لمحرم، من خمر، أو .. أو.. ، دخان أو مخدّر، و.. وغيرها؟

 

ألا نعلم أن الله طيّب لا يقبل إلا طيّبا؟

 

أم أنّه لم يطرق سمعنا قطّ ما رواه أبو بكر الصّديق مرفوعا إلى النّبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يدخل الجنّة جسد نبت من سحت فالنّار أولى به".

 

أمّا إذا كان المال حلالا -وهذا ما نرجو أن يكو عليه النّاس أجمعهم- فإنّنا بلا شكّ مقصرون في حسن استغلاله، وكثير منّا لا يبالي عن ماله فيما أنفقه، أفي الحلال أم في الحرام، ولولا خشية الإطالة لأتينا بفضائحنا في هذا المجال، ولكن هما سؤالان يوم القيامة بين يدي الله عن المال: "من أين اكتسبته؟ وفيما أنفقته؟"

 

فلنُعدّ للسؤال جوابا، وللجواب صوابا.

 

هذا عن بعض عباداتنا ومعاملاتنا، فماذا عمّا أنعم الله علينا من جوارحنا؟

 

أيها الناس: أبصارنا؛ كم تجرّأت على المحارم فتجولت ها هنا، وها هنا؛ تنظر في الصّور المحرمة: نساء متبرجات، بل كاسيات عاريات، على الشّاشات التلفاز في المسلسلات، والبرامج الثقافية زعموا! والسّياسية والنّشرات، وفي الجرائد والمجلات الخليعات، بل على الواقع في الشوارع والطّرقات، وخاصّة في الأعياد والأعراس والحفلات، ناسين أو متناسين قول المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "العينان تزنيان وزناهما النظر".

 

هكذا، شُكرنا لنعمة البصر؛ بإطلاق النّظر، وكففناه عن كتاب الله وتلاوته، وتدبّر معانيه، للعمل به، غضضناه عن قراءة كتب أهل العلم الموثوقة تفقها في الدين، رأينا المنكرات فما أنكرنا ولا نهينا، رأينا بها المظلومين فما تكلّمنا ولا للحقّ نصرنا.

 

من هذه العيون سالت دموع العاشقين لكرة القدم لخسارة فريقه، وما سالت لسماع كلام الله الذي لون نزل على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله!.

 

من هذه العيون تسيل دموع بناتنا للقصص المؤثّرة في الأفلام والمسلسلات، وما تسيل لما يجري في بلاد المسلمين من ظلم ونكال الظالمين!.

 

أمّا آذاننا؛ فقد سُخّرت لسماع كلّ باطل من القول، على رأس ذلك مزامير الشيطان، بريد الزّنا، ورقية الشيطان، من آلات الطرب واللّهو من المعازف، وأصوات المخنثين من الرجال، والفاسقات الفاجرات من النّساء، وأعراضنا عن سماع طيب القول من التّلاوات العطرة لكتاب الله، وأعرضنا عن سماع الدّروس والمواعظ، والعلم النافع، والنّصح والتوجيه.

 

ولا تحدثني عن اللّسان؛ فما أصغر حجمه، وما أعظم جُرمه: أين المجالس التي تخلو من الغيبة والقدح في أعراض النّاس والنميمة؟ أين هي من الألسن التي طهُرت من الكذب في الجدّ والهزل؟  أين هي من السّلامة من السّخرية من الناس؟ وأين .. وأين .. وأين؟

 

بل أعظم من ذلك كلّه؛ القلب وما أدراك ما القلب، الذي لو صلح لصلح سائر الجسد، ولو فسد لفسد سائره.

 

قلوبنا أصبحت معلّقة بالدّنيا، بالدّرهم والدينار، أبت إلّا أن تحلّ عليها دعوة النّبي -صلى الله عليه وسلم-: "تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار".

 

قلوبنا امتلأت حقدا وبغضا لإخواننا المسلمين، وامتلأت حبّا لأعداء الله من الفاسقين، بل من الكفّار، خاصّة لصنفين منهم: "لاعبي كرة القدم" و "الفنّانين المغنين".

 

ألا وإنّ " المرء مع من أحب يوم القيامة".

 

وقلوبٌ أخرى تعلّقت بغير الله، فأشركت به، واعتقدت أنّ أهل القبور من الأولياء والصّالحين يضرون وينفعون، وفي هذا الكون مع الله يتصرّفون، فها هم يدعونهم وبهم يستغيثون، وآخرون في حلّ مشاكلهم إلى السّحرة والكهّان والعرافين يلجؤون، إلى الذين يتعاملون مع الجنّ، ولا يتعاملون إلّا بعد أن يشركوا بالله ويكفرون.

 

عباد الله: هذه جملة من مخازينا التي قضينا بها عامنا الفارط، بل أعوامنا، هذه جملة من مخازينا التي غفلنا عن محاسبة أنفسنا عنها، وهي جملة يسيرة، ووقفات قليلة، لو أردنا الإحاطة بكل ما نقع فيه لما وسع ذلك المجلدات، ولكن حسبنا الإشارة، فاللّبيب بالإشارة يفهم.

 

ولئن كنت قد تغافلت عن كثير من فضائحنا لضيق الوقت أو نسيانا، فإنّ الذي بيده ملكوت كلّ شيء لا يخفى عليه شيء، أليس هو القائل: (فمنْ يعْملْ مِثْقال ذرّةٍ خيْرًا يره * ومنْ يعْملْ مِثْقال ذرّةٍ شرًّا يره)[الزلزلة: 7- 8].

 

قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما-: "حاسبوا أنفسكم قبل تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتأهّبوا للعرض الأكبر على من لا تخفى عليه أعمالكم".

 

مذكّرا بقوله -عز وجل-: (يوْمئِذٍ تعْرضون لا تخْفى مِنْكمْ خافِيةٌ)[الحاقة: 18].

 

أي يوم القيامة لا تخفى على الله خافية من أجسامنا ولا من أعمالنا، فالله -تعالى- عالم الغيب والشهادة.

 

وفي هذا السياق، يقول الله -عز وجل- في آيتين تتفطر منها القلوب الحيّة، وتخرّ لها الجبال الراسية.

 

أمّا الأولى: فقوله جل وعلا: (ونضع الْموازِين الْقِسْط لِيوْمِ الْقِيامةِ فلا تظْلم نفْسٌ شيْئًا وإِنْ كان مِثْقال حبّةٍ مِنْ خرْدلٍ أتيْنا بِها وكفى بِنا حاسِبِين)[الأنبياء: 47]

 

أما الثانية: فقوله -جل وعلا-: (ووضِع الْكِتاب فترى الْمجْرِمِين مشْفِقِين مِمّا فِيهِ ويقولون يا ويْلتنا مالِ هذا الْكِتابِ لا يغادِر صغِيرةً ولا كبِيرةً إِلّا أحْصاها ووجدوا ما عمِلوا حاضِرًا ولا يظْلِم ربّك أحدًا)[الكهف: 49].

 

فسبحان الله! ما أشدّ غفلاتنا، وقد علمنا أن الله لا يدع صغيرة ولا كبيرة إلّا أحصاها.

 

وما أعظم اغترارنا بفضل ورحمته، وقد عرفنا أنّه لا يترك مثقال ذرّة من الحسنات والسيئات إلّا أتى بها.

 

ولما عرف السّلف الصالح عظم خطر الأمر، أخذوا أنفسهم على المحاسبة، فهذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- سمعه أنس يكلّم نفسه، يقول: "عمر بن الخطاب أمير المؤمنين؟ بخ بخ والله لتتقين الله ابن الخطاب أو ليعذبنّك".

 

وهذا الأحنف بن قيس حدّث عنه سلمة بن منصور، قال: كان يجيئ بالمصباح فيضع أصبعه فيه ثم يقول: "حسَّ، ثم يقول: يا حنيف ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟".

 

ونختم بهذه القصّة العجيبة في المحاسبة: توبة بن الصّمة -رحمه الله-: حسب في يوم من الأيام عمره، فإذا هو ابن ستين سنة، فحسب أيّامها فإذا هي إحدى وعشرون ألف يوم وخمسمائة يوم، فصرخ، وقال: "يا ويلتا ألقى الملك بإحدى وعشرين ألف وخمسمائة ذنب؟! كيف وفي كلّ يوم عشر آلاف ذنب".

 

ثمّ خرّ مغشيا عليه فإذا هو ميت.

 

 

الخطبة الثانية:

 

وبعد:

 

فلقد ذكرنا منذ قليل جملة من المخازي التي غفلنا عن محاسبة أنفسنا عليها، التي لو أعددنا أنفسنا للإجابة عنها بالعمل الصالح في الدنيا أفلحنا في الآخرة، ولو تغافلنا عنها واتّبعنا أهواءنا خبنا وخسرنا.

 

ولكن -عباد الله-: ألا ترون أنّه من العيب والعار أن لا نحاسب أنفسنا على ما يحدث بأرض الشّام من التّخريب والتّقتيل؟ ألا تعتقدون أنّه من الخزي والشّنار أن لا نعاتب أنفسنا عن البليّة التي حلت بإخواننا المسلمين في بورما من التّعذيب والتّنكيل؟

 

عباد الله: لا أدري من أين أبدأ، وإلى أين أنتهي، فالخطب جلل، والهول عظيم، ولكنّي أقول مستعينا بالله الكريم: ومن باب إحسان الظنّ بكلّ من يسمعني في هذا الجمع المبارك، أنّه لا أحد يخفى عليه ما يحدث لإخواننا المسلمين في بورما والشام الجريح، كيف يجهل مسلم أو كيف يخفى عليه مثل هذا وليس قناة من القنوات الفضائية إلّا وتكلّمت ونقلت ما يحدث؟ ـعجل الله بالفرج على إخواننا المسلمين فيهما وعلى كل مستضعف مسلم على وجه المعمورة-.

 

لذا، وحتى لا أجعل خطبتنا نشرة إخبارية، أو تقريرا سياسيا، فسأمضي قدُما للكلام فيما ينفع الكلام فيه في مثل هذه الأوضاع المزرية التي تحلّ بالأمّة.

 

عباد الله: لعلّ سائلا يسأل، بل السّؤال يطرح نفسه بنفسه، لا يحتاج أن تتحرّك به لسان ولا أن يفكر فيه قلب ولا جنان: ماذا نفعل من أجل نصرة إخواننا في بورما والشّام؟ بل وفلسطين وغيرها؟ ونحن بعيدون عنهم بآلاف الفراسخ والميلات؟

 

أهو العويل والبكاء وماذا ينفع؟ أم هو التنديد والاستنكار وهل هذا يقنع؟ أم هي المظاهرات والاحتجاجات وأي نصر تصنع؟ أم هي الأشعار والأناشيد؟

 

فدعنا من كلّ هذا فإنها وإن كانت أسبابا للنّصرة، فإنها أسباب نصرة وهمية، وبعضها غير شرعية، لا تسمن ولا تغني من جوع.

 

دعنا من الكلام عن العلماء ودورهم، فإنّهم إن كانوا علماء حقّا فلا يحتاجون منّا؛ لئن نذكرهم بواجبهم في مثل هذه الظروف الحوالك.

 

ودعنا من الكلام عن الحكام والولاة، فلا ندري لو كنّا مكانهم ماذا كنّا سنفعل؟

 

دعك منهم، فلن تسأل يوم القيامة عن أعمالهم، إنما عليك أن تسأل نفسك: ماذا أفعل أنا لإخواني المسلمين في بورما المنسيّة، وسوريا الأبية، أرض المقدس الغالية؟

 

نعم -أيّها النّاس-: إنّ هذا السؤال: يجب على كلّ من يدين بالله ربّا، وبالإسلام دينا، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- رسولا، أن يطرحه على نفسه، وأن يجد له جوابا علما وعملا.

 

ألا وإنّه من لم يطرحه على نفسه فليكبر على قبله أربعا، فإن إيمانه مدخول، ليحذر من انسلاخ الإيمان من قلبه، فإن نبيكم -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه يحب لنفسه".

 

وهذا معناه: أنّه لا يؤمن أحدنا حتّى يكره لأخيه ما يكره لنفسه.

 

عباد الله: ألسنا نحب الأمن والأمان لأنفسنا، والرخاء والاستقرار لأوطاننا، ألا فلنحبه لهم؟

 

ألسنا نكره الخوف والرعب لأنفسنا، والخراب والدمار لبلادنا؟ ألا فلنكره ذلك لهم، ولنكن كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر".

 

فليكن الجرحُ في بورما، وليكن الألم في جميع بلاد المسلمين، وليكن الجرح في سوريا، وليكن الألم في بلادنا هنا، أفلسنا مسلمين؟ أليس من يُعذب ويُهان ويُقتل ويُشان إخوانا لنا.

 

لكن لا ينبغي أن يكون الألم هنا: بالبكاء والعويل، ولا بالتنديد والاستنكار، ولا بالمظاهرات والاحتجاجات، ولا بالقدح في العلماء، والنبز للأمراء، إنما يكون بأمور -أقتصر منها في هذه الدقائق الباقيات على أهمها وأيسرها للجميع-: إنّه الدّعاء ومن يعجز عن الدعاء؟

 

فلنتذكر إخواننا بالدعاء في السجود، وبين الأذان والإقامة، وبعد التّشهد قبل السّلام، وفي الثّلث الأخير من الليل، وفي كل وقت، ولنستجب لقول المولى -جل وعلا-: (وقال ربّكم ادْعونِي أسْتجِبْ لكمْ)[غافر: 60].

 

ولتعلموا أنّ: "أبخل النّاس من بخل بالسّلام، وأعجز النّاس من عجز عن الدعاء" كما قال نبيّكم -صلى الله عليه وسلم-.

 

وهل نَصر الله عبده ورسوله نوحا إلًَّا بالدعاء؟: (فدعا ربّه أنِّي مغْلوبٌ فانْتصِرْ)[القمر: 10]

 

وهل كشف الضّر عن عبده أيوب إلّا بالدعاء؟: (وأيّوب إِذْ نادى ربّه أنِّي مسّنِي الضّرّ وأنْت أرْحم الرّاحِمِين)[الأنبياء: 83].

 

وهل أخرج عبده يونس من بطن الحوت إلا الدعاء؟: (وأيّوب إِذْ نادى ربّه أنِّي مسّنِي الضّرّ وأنْت أرْحم الرّاحِمِين)[الأنبياء: 83].

 

وهل نصر خاتم أنبياءه في غزوة بدر إلّا بالدعاء؟: "فمازال يهتف بربه مادًّا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه عن منكبيه".

 

فيا أيها المسلمون: ادعوا لإخوانكم وأنتم موقنون بالإجابة.

 

ويا أيها المسلمون: ادعوا لإخوانكم "فإن الله لا يعظم عليه شيء أعطاه".

 

وما تفريج الكربة -على إخواننا- على الله بعزيز، ولكن هي حكمته في تعجيله أو تأخيره، فلنتشاغل بالدعاء، ولندَع أمر الإجابة لربّ الأرض والسّماء...

 

 

المرفقات
وقفات مع نهاية العام.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life