عناصر الخطبة
1/ كمال قدرة الله وعظيم قوته 2/ آية من آيات الله التي يخوف بها عباده 3/ منّة الله علينا بقرار الأرض وثباتها 4/ نعمة عدم طغيان الماء على اليابسة 5/ المصيبة لا تزيد المؤمن إلا إيمانًا 6/ المصائب والابتلاءات سببها الذنوب والمعاصي 7/ ما ينبغي فعله إزاء إخواننا المصابيناهداف الخطبة
اقتباس
ثم إن حال المسلم في المصائب التي تصيبه وتصيب غيره، حال مطمئنة، حال فيها إقبال على الله وثقة به وتوكل عليه، فالمصيبة -عباد الله- لا تزيد المؤمن إلا إيمانًا وحسنَ صلّة بالله -جلّ وعلا- وإقبالاً عليه، ولهذا يقول -عليه الصلاة والسلام-: "عجبًا لأمر المؤمن؛ إن أمره كلَّه خير، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له، وذلك لا يكون إلا للمؤمن".
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وأمينه على وحيه، ومبلغ الناس شرعه، وصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
معاشر المؤمنين عباد الله: اتقوا الله تعالى؛ فإن من اتقى الله وقاه، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه.
عباد الهي: يتحدث العالم بأسره في هذه الأيام عن حدث عظيم، بل عن زلزال شديد، رجفت له الأرض رجفة عظيمة، انطلق من بعض الجزر في إندونيسيا، فاهتزت الأرض اهتزازًا عظيمًا، وترتب على ذلك مدٌ بحري هائل، وطوفان مائي عارم، اجتاح مدنًا وقرى كثيرة، بل إن بعضها غمره الماء وغطاه تمامًا، فذهبت في لحظة واحدة مئات النفوس، بل آلاف النفوس من البشر، وفي آخر إحصائية لذلك بلغ عدد الموتى ما يزيد على مائة وعشرين ألفًا، مائة وعشرون ألفًا أو يزيدون ماتوا -عباد الله- موتة نفس واحدة، غمرتهم المياه، وداهمتهم في مساكنهم ومزارعهم ومصالحهم، فماتوا أجمعين، وليس هذا بالعدد الدقيق، بل إن المتوقع أن يزيد العدد على هذا بكثير، خلافًا -عباد الله- لعشرات الآلاف من المصابين، بل ملايين البشر من المتضررين في ممتلكاتهم وبيوتهم وأموالهم وسائر مصالحهم، حدث عظيم، وأمر ينبغي أن تتحرّك له القلوب، ولهذا -عباد الله- العالم بأسره يتحدّث عن هذا الحدث، ويتابع أخباره، وينظر في عواقبه، والمؤمن الموفق -عباد الله- في مثل هذه الأحوال وفي مثل هذه المصائب العظام، لابد له من وقفات وتأمّلات إيمانية، تفيده صلاحًا وصلة بربه -عز وجلّ-، وخوفًا من المقام بين يديه ولقائه، وتأملاً في عظاته وعبره وآياته، ولهذا -عباد الله- لابد من وقفة، بل وقفات على أعقاب هذا الحدث العظيم، ما ينبغي على كل مسلم أن يستحضره بقلبه، وأن يعيه تمامًا.
والأول من ذلك -عباد الله- أن هذا الحدث ونظائره، يرشد المسلم إلى أمر هو يؤمن به فيزداد إيمانًا، بكمال قدرة الله -عز وجلّ- وعظيم قوته، وأنه -جلّ وعلا- هو المتصرف في هذا الكون، المدبّر له، يتصرف فيه كيف يشاء، ويقضي فيه -عز وحلّ- بما يريد، لا معقب لحكمه، ولا رآد لقضائه، يقول الله -تبارك وتعالى-: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) [الأنعام: 65]، عذابًا من فوقكم: كالصواعق المدمرة والرياح العاتية، أو من تحت أرجلكم: كالخسف والزلازل، وقد جاء في صحيح البخاري من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: لما نزلت هذه الآية، وقرأها النبي -صلى الله عليه وسلم-: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ)، لما قرأ ذلك -عليه الصلاة والسلام- قال: "أعوذ بوجه الله الكريم"، ولما قرأ: (أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ)، قال: "أعوذ بوجه الله الكريم"، ولما قرأ: (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ)، قال: "هذا أهون"، وفي رواية قال: "هذا أيسر".
ثم تأمل قول الله -عز وجلّ-: (انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ)، فتنوع الآيات الباهرة، والدلالات القاهرة، داعية إلى الفقه والإيمان والعودة إلى الله -عز وجلّ-: (لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ)، أي ما خلقهم الله لأجله، وأوجدهم لتحقيقه.
ثم عباد الله: إن هذا الحدث آية من آيات الله العظيمة التي يخوف بها عباده، وقد قال الله -عز وجلّ- في القرآن: (وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً) [الإسراء: 59]، أي: إن الله -عز وجلّ- يخوّف عباده بهذه الآيات العظيمة، قال قتادة -رحمه الله-: إن الله يخوف الناس بما يشاء من آياته لعلهم يعتبرون ويتذكرون ويرجعون، وهنا يقف المؤمن خائفًا متأملاً متَّعظًا معتبرًا؛ لأن الذي ألحق بأولئك ما ألحق قادر -سبحانه- على أن يلحق بغيرهم مثله أو أشد، فيتعظ المؤمن ويعتبر، ويقبل على الله -عز وجلّ- وينيب، فهاهم هؤلاء مائة وعشرون ألف نفس أو يزيدون على ذلك هلكوا هلاك نفس واحدة، فهل من متعظ ومعتبر؟!
ثم عباد الله: لنتأمّل -على أعقاب هذا الحدث- منّة الله علينا بقرار الأرض وثباتها، كما قال الله -عز وجلّ-: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ قَرَاراً) [غافر: 64]، أي: ساكنة، ليست متزلزلة ولا رجراجة، فلنتأمل هنا في عظمة الممسك للأرض، فهي ساكنة لا تهتز، مطمئنة لا تتزلزل، وتأمّل -رعاك الله- لو كانت هذه الأرض التي تمشي عليها ترتجف وتتزلزل، كيف تستطيع أن تعيش؟! وكيف تستطيع أن تنام؟! وكيف تستطيع أن تقوم بعموم مصالحك؟! فمَنَّ الله علينا بقرار الأرض وسكونها واطمئنانها.
ولنعتبر في هذه النعمة بما يحدثه الله -عز وجلّ- في الأرض من زلازل بين وقت وآخر، لندرك عظمة هذه النعمة، وتمام هذه المنة، ارتجفت الأرض -عباد الله- للحظة واحدة، فمات مائة وعشرون ألف نفس، فكيف لو امتد ارتجافها ساعة كاملة؟! وكيف لو امتد ارتجافها بتلك القوة يومًا بتمامه أو أيامًا؟! كيف يكون حال الناس على الأرض؟!
ونعمة أخرى -عباد الله- ألا وهي عدم طغيان الماء على الأرض اليابسة، ونحن نعلم أن الماء بالنسبة لليابس يشكل الثلثين، وقد أمسك الله -عز وجلّ- الماء أن يغطي اليابس بقدرته سبحانه، وهو قادر -عز وجلّ- على أن يغمر الأرض كلها بالماء فيغطيها، ولنا في التاريخ عظة وعبرة: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ) [الحاقة: 11 – 12]، وهاهو هذا الحدث يبين لنا هذه الصورة، غطى الماء مدنًا بأكملها، فمات من على الأرض في تلك الأماكن عن بكرة أبيهم، فلم تبق فيهم نفس حية. فهاتان نعمتان -عباد الله- يجب علينا أن نشكر الله ونحمده عليهما، وعلى عموم نعمه وعطاياه، نعمة سكون الأرض، ونعمة عدم طغيان الماء على الأرض.
ثم إن الأرض لله -عز وجلّ-، هو الذي خلقها وأوجدها، وهو الذي أوجد الناس عليها، وهو الذي يتصرف فيها كيف يشاء، وتأمّل من تصرفه سبحانه في أرضه قوله: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [الرعد: 41]، (نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا): قال بعض المفسرين: أي بالخسف والزلازل، والقوارع المتنوعة، فالله -عز وجلّ- ينقص الأرض من أطرافها ويتصرف فيها كيف يشاء، لا معقّب لحكمه، ولا رادَّ لقضائه، ولهذا إذا علمنا أن الأرض لله وأن الذي يتصرَّف فيها هو الله، فلنتأمل -عباد الله- في الأمر الذي خلقنا الله -عز وجلّ- على هذه الأرض لأجله، ألا وهو توحيد الله وطاعته فيما أمر، واتباع شرعه، والانقياد له سبحانه، والتذلل بين يديه، والقيام بما أمرنا به، وأرسل لنا رسله بالآيات البيِّنات والحجج القاهرات، والدلائل العظيمات على كمال الله ووجوب طاعته وإخلاص الدين له، فنقوم بما خلقنا له على التمام والكمال، ممتثلين أمر ربنا، متبعين لرسله، عاملين بطاعته -عز وجلّ-.
ثم إن حال المسلم في المصائب التي تصيبه وتصيب غيره، حال مطمئنة، حال فيها إقبال على الله وثقة به وتوكل عليه، فالمصيبة -عباد الله- لا تزيد المؤمن إلا إيمانًا وحسنَ صلّة بالله -جلّ وعلا- وإقبالاً عليه، ولهذا يقول -عليه الصلاة والسلام-: "عجبًا لأمر المؤمن؛ إن أمره كلَّه خير، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له، وذلك لا يكون إلا للمؤمن".
ثم إن المؤمن -عباد الله-: يعلم أن هذه المصائب إنما سببها الذنوب، فما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة، وقد قال الله -عز وجلّ-: (فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ) [العنكبوت: 40]، وهاهنا -عباد الله- يقبل المؤمن على الله -عز وجلّ- تائبًا راجعًا منيبًا، ويكون متعظًا بما حصل من المصائب لغيره، فإن السعيد من اتعظ بغيره، والشقي من اتعظ به غيره.
الخطبة الثانية:
الحمد لله عظيم الإحسان، واسع الفضل والجود والامتنان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله تعالى، اتقوا الله تعالى الذي يعلم سركم ونجواكم، والذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، اتقوا الله تعالى؛ فإن عاقبة الله الحميدة للمتقين من عباده.
ثم -عباد الله- أمر أخير، وهو ما ينبغي علينا تجاه إخواننا المصابين، وعباد الله المنكوبين في هذا الحدث العظيم، وهاهنا يجب أمور عدة؛ منها: الدعاء لهم بأن يجبر الله كسرهم، وأن يجعل مصابهم عودة لهم إلى الخير والإنابة إلى الله -عز وجلّ-، وأن يؤامن روعاتهم، ويستر عوراتهم، ويشبع جائعهم، ويؤمِّن خائفهم، وأن يمد كل واحد منا ما يستطيع من المساعدة لهؤلاء، فالآن -عباد الله- على أعقاب هذا الحدث يوجد الملايين من البشر بلا مأوى ومسكن ولا مطعم ولا مشرب، وأنت تعيش في هذه النعمة، فاحمد الله -عز وجلّ- على نعمته ومنته، وساعد إخوانك بما تستطيع.
وأختم بدعاء عظيم مبارك، كان -عليه الصلاة والسلام- يقوله كل ليلة إذا أوى إلى فراشه، وهو في صحيح مسلم من حديث أنس قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أوى إلى فراشه قال: "الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا، وكفانا وآوانا، فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي". أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.
هذا، وصلوا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله، كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب: 56]، وقال -صلي الله عليه وسلم-: "من صلى عليّ واحدة، صلى الله عليه بها عشرًا". وجاء عنه -عليه الصلاة والسلام- الحث على الإكثار من الصلاة والسلام عليه في ليلة الجمعة ويومها، فأكثروا -في هذا اليوم المبارك- من الصلاة والسلام على رسول الله، اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين: أبى بكر الصديق، وعمر الفاروق، وعثمان ذي النورين، وأبي الحسنين علي، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمّر أعداء الدين، اللهم اجبر مصاب إخواننا من المنكوبين في كل مكان، الهم ارحم ضعفهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أبدل خوفهم أمنًا، وجوعهم وعطشهم ريًّا وشبعًا، اللهم آمن روعاتهم، واستر عوراتهم، وهيئ لهم المساكن الطيبة، والمأوى الطيب يا ذا الجلال والإكرام، اللهم ورُدَّنا وإياهم إليك ردًّا جميلاً، اللهم وفقنا للتوبة إليك، والإنابة إليك، واجعلنا من عبادك المؤمنين بك، المتبعين لرسولك -صلى الله عليه وسلم-، ووفقنا -يا ذا الجلال والإكرام- لما تحب وترضى، وأعنا على البر والتقوى، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين.
اللهم اغفر لنا ذنبنا كله: دقه وجله، أوله وآخره، سره وعلنه، ربنا إنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، عباد الله، اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
التعليقات