عناصر الخطبة
1/بعض نعم الله على أهل بيت المقدس 2/الوصية بالتقوى والمحافظة على الصلوات 3/من فضائل يوم الجمعة 4/صمود أهل بيت المقدس رغم المعاناة والتضييقاقتباس
إن عُمَّار المساجد هم أهل الله، مَنْ أَلِفَ المسجدَ أَلِفَهُ اللهُ، وتذكروا أن من يجلس في المساجد هو في رحمة منتظَرة، أو كلمة عِلْم وحكمة تدل على الْهُدَى أو تَرُدّ عن الرَّدَى، أو يتعرف المسلم فيها على أخ ناصح أمين، فإياك أيها المسلم من العبث؛ فإن الله يغار على بيوته...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي ابتدأ الإنسانَ بنعمته، وصوَّرَه في الأرحام بحكمته، وأبرَزَه إلى رِفقه وما يسَّر له من رزقه، وعلَّمَه ما لم يكن يعلم، وكان فضل الله عليه عظيمًا، ونبهه بآثار صنعته، وأعذَر إليه على ألسنة المرسَلين الخِيرة مِن خَلقِه، فهدى مَنْ وفَّقَه بفضله، وأضلَّ مَن خذَلَه بعدله، ويسَّر المؤمنين لليسرى، وشرَح صدورَهم للذكرى، فآمَنوا بألسنتهم ناطقينَ، وبقلوبهم مخلصينَ، وبما أتتهم به رسُلُه وكتُبُه عاملينَ، وتعلموا ما علمهم، ووقفوا عندما حد لهم، واستغنوا بما أحل لهم عمَّا حرَّم عليهم.
ونشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ، شهادةَ عبد تقي يرجو بها في غد رياض الجنان، مع مزيد الإنعام، ونشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، هو أحمد ومحمد ومحمود، محمود بما يملأ به الأرض من الْهُدَى والإيمان، والعلم النافع، والعمل الصالح، وفتح به القلوب، وكشف به الظلمة، واستنقَذ الناسَ من أَسْر الشياطين، ومن الشرك والكفر والجهل حتى نال أتباعُه شرفَي الدنيا والآخرة، اللهم فصلِّ وسلِّم وبارِكْ عليه ما دامت الأرض المقدَّسة عامرة بالإسلام، وارض اللهم عن أصحابه الكرام، وآل بيته العظام، وارض عَنَّا معهم برحمتك وعفوك يا أرحم الراحمين، اللهم إن لك عبادًا في الأرض المقدَّسة وفي المسجد الأقصى، قائمين بأمرك وثابتين على عهدك، اللهم يسر أمرهم، واغفر ذنبهم، وارحم ضعفهم، واجبر كسرهم، وأيدهم بنصرك يا أرحم الراحمين.
أمَّا بعدُ، فيا عباد الله، يا أهلنا في الأرض المقدَّسة: أعانكم المولى -تبارَك وتعالى- على طاعته، وأراكم السرورَ في أمركم، وحبَّبكم إلى خلقه، وأوسَع عليكم من فضله، وتمم عليكم نعمته، وغمركم في رحمته، وكلأكم وحفظكم من عدوكم، وحماكم في مسجدكم، اللهم احفظ المسجد الأقصى من كل سوء، واحفظه من عبث العابثين واعتداء المعتدين، فأنتم -يا عباد الله- أحباب الله، وقد أسكنكم في أرضَه الطاهرة، وهي أرض الأولياء والعلماء والشهداء، فَطُوبَى لكم بهذه النعمة، اشكروا الله عليها بدوام الطاعة والمراقَبة، وبالعبادة والصلاة والذكر وقراءة القرآن، احفظوا مسجدكم يحفظكم الله، فالمسجد الأقصى زها بوجودكم ورباطكم، وصلاتكم ودعائكم، طوبى للمصلين والراكعين والساجدين في رحابه، طُوبى للمصلين والراكعين والساجدين في رحابه، طوبى للمصلين في صلاة الفجر، طوبى لمن يسمع المؤذنَ وهو يقول ويردد ويقول مثلما يقول، إذا نادى المنادي فتحت أبواب السماء، واستجيب الدعاء، فمن نزل به كرب أو شدة فليتحين المنادي؛ فالدعاء هو العبادة، وقد مدح المولى -تبارك وتعالى- سيدنا زكريا ويحيى وأمه -عليهم السلام- بقوله: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)[الْأَنْبِيَاءِ: 90]، لقد قاسى زكريا -عليه السلام- من البلاء ما قاسى، حتى حاولوا نشره بالمنشار، وصبر ابتغاء مرضاة الله، إنما يستعذب الأولياء البلوى للمناجاة مع المولى، ورغم كل ذلك قال الحق -جل وعلا-: (وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)[الْأَنْبِيَاءِ: 90].
والخشوع -يا عباد الله- قشعريرة في القلب عند اطلاع الرب، وكان لهم ذلك على الدوام، كانت ألسنتهم وأصواتهم كدوي النحل في مساجدهم، وأنتم يا أهل المسجد الأقصى، وطنوا أنفسكم على ذلك، فكل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.
نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يرزقنا وإيَّاكم خشوعًا يؤمننا به يوم الفزع الأكبر.
إن الله -تبارك وتعالى- يحب صوت الذي يقرأ القرآن، ويحب أصوات المستغفرين بالأسحار، ويحب أصوات المؤذنين والملبِّين والمكبِّرين ابتغاءَ مرضاة الله، هؤلاء هم أولياء الله، وجلساء الله، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، قال الكليم: "يا رب، أين أبغيكَ؟ قال: عند المنكسرة قلوبهم، فإني أدنو منهم كل يوم باعًا"، ولا ريب أن الصالحين من عباد الله لهم سبب في الرزق والنصر، كما قال نبينا -عليه الصلاة والسلام- لسعد بن أبي وقاص: "يا سعد، وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟"، بدعائهم وصلاتهم وإخلاصهم.
عبادَ اللهِ: المساجد مجالس الأنبياء، وهي حرز من الشيطان يدفع الله -تعالى- بأهل المساجد عن أهل البيوت، ولولا المساجد لأتى الناس العذاب قبلا، ولو نزلت نازلة من السماء فلا تصيب من هو في المسجد، أتدرون لماذا؟ لأنهم في رعاية الله -تبارك وتعالى-، ما توطن الرجل للمساجد للصلاة والذكر إلا تَبَشْبَشَ الله إليه كما يَتَبَشْبَشُ أهلُ الغائبِ بغائبِهم إذا قَدِمَ عليهم، وتأمَّلُوا -يا عباد الله- للصلاة والذِّكر؛ أي: ليس مقصوده بالجلوس في المسجد إلا ذلك، فلا يتبشبش لمن جلس للَّهْو أو لعلة أخرى.
إن عُمَّار المساجد هم أهل الله، مَنْ أَلِفَ المسجدَ أَلِفَهُ اللهُ، وتذكروا أن من يجلس في المساجد هو في رحمة منتظَرة، أو كلمة عِلْم وحكمة تدل على الْهُدَى أو ترد عن الردى، أو يتعرف المسلم فيها على أخ ناصح أمين، فإياك أيها المسلم من العبث؛ فإن الله يغار على بيوته، وإياك وأفعال المنافقين، فلا لغو ولا ريبة ولا حسد ولا مداولات دنيوية، أو حسابات مالية، لا نريد في المسجد الأحاديث السوقية، نريد العبادة والدراسة، والنظر في مصالح المسلمين، فلا رياء ولا نفاق ولا كراهية ولا ضغينة، ولا سمعة ولا شهرة ولا كذب ولا احتقار، أهل المساجد قلوبهم نقية سليمة، ونفوسهم سخية، وأحوالهم رضية، وأيديهم نقية، لا يشمتون ولا يقولون إلا الحقَّ، ولا يخافون في الله لومةَ لائم، لا يتجسَّسون، ولا يظنون، ولا يسخرون، ولا يتنابذون، فتوبوا -أيها المؤمنون- من الأفعال الردية، واجعلوا نفوسَكم راضيةً مرضيةً.
عبادَ اللهِ: حضرت الوفاة الإمام الأعمش، فبكى أبناؤه فقال: "لا تبكوا عليَّ؛ فواللهِ ما فاتتني تكبيرةُ الإحرام مع الإمام ستينَ سَنَةً"، هذا هو شيخ المقرئين، وعَلَم المحدِّثينَ، ما فاتته تكبيرة الإحرام ستين سنة، فماذا نقول اليوم وقد خلت المساجد من أهلها؟ ومن حلقات العلم إلا من رحم ربك؟
اللهم ارزقنا صبرًا جميلًا على طاعتك، وارزقنا صبرًا طيِّبًا عن معصيتك، وارزقنا صبرًا كريمًا على ما تحبه، وارزقنا صبرًا على ما تكره، وارزقنا صبرًا عند عزائم الأمور.
عبادَ اللهِ: لقد أكرَم المولى -تبارَك وتعالى- أمتَنا بيوم الجمعة، فقال سبحانه: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)[الْجُمُعَةِ: 9]، والمراد من السعي هو المضي، بالنية والجِدّ، وقيل: المشي بسرعة من غير عجَلَة، وسُميت الجمعة؛ لاجتماع الناس إليها، وقيل: "جُمِعَ فيها خلقُ آدمَ"، وقوله -تبارك وتعالى-: (فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ)[الْجُمُعَةِ: 10]، أمرُ إباحةٍ؛ لأنَّه بعدَ نهيٍ، وقوله: (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)[الْجُمُعَةِ: 10]، أي: من رزقه، ومن عيادة مريض أو حضور جنازة، أو زيارة أخ في الله، أو في طلب علم، فيوم الجمعة يوم عظيم وهو حج الفقراء، يجتمع فيه المؤمنون لسماع ذكر الله -تبارك وتعالى-، ويسعون إلى رضوانه، قالت السيدة عائشة -رضي الله عنها-: "إن يوم الجمعة مثل يوم عرفة، تفتح فيه أبواب الرحمة، وفيه ساعة لا يسأل الله -تبارك وتعالى- شيئًا إلا أعطاه، قيل: وأية ساعة؟ قالت: إذا أذن المؤذن لصلاة الغداة"، فمن جاء منكم الجمعة فليغتسل، اغسلوا قلوبكم بالتوحيد، وأنفسكم بالتوبة، والهمة بالإخلاص، روى الإمام البيهقي عن أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أكثِرُوا من الصلاة عليَّ يومَ الجمعة، وليلةَ الجمعة، فمَنْ فعَل ذلك كنتُ له شهيدًا وشافعًا يومَ القيامة".
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِكْ وأنعم على عبدك ورسولك النبي الأمي، صلاةً وسلامًا ننال بهما مقام الأخيار، المنزلين منازل الأنوار، والصحابة أولي الأيدي والأبصار.
عبادَ اللهِ: توجهوا إلى الله -تبارك وتعالى- وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوزَ المستغفرينَ استغفِرُوا اللهَ.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، وبحمده حمده الحامدون، وبذكره ذكره الذاكرون، وبشكره شكره الشاكرون، (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)[الْأَعْرَافِ: 54]، ونشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ، الوليُّ الحميدُ، المؤمَّلُ لكشف كل كرب شديد، لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه، سبحان مجيب الدعوات، سبحان القائم بأرزاق المخلوقات، سبحان مغيث اللهفان، ونشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، الذي اخترق السبع الطباق بنور أضاءت منه قصور بُصرى من أرض الشام.
وَصَلَّى اللهُ -تبارك وتعالى- على المبعوث لتبيين الحلال من الحرام، وعلى آله خير آل، وصحابته ذوي التأييد والإفضال، صلاة تدوم على مر الأيام والليال.
أمَّا بعدُ، فيا عبادَ اللهِ: كان السلف الصالح إذا صدَع الفجرُ أو قبلَه شيئًا، كأنما على رؤوسهم الطير، مقبلين على أنفسهم، حتى لو أن حميمًا غاب عنه حينًا ثم قدم ما التفتَ إليه، فلا يزالون كذلك حتى يكونوا قريبًا من طلوع الشمس، ثم يقوم بعضهم إلى بعض فيتحلقون، فأول ما يقضون فيه أمر معادهم، وما هم صائرون إليه ثم يتحلقون إلى حلق الفقه، وحفظ القرآن ودراسته وتفسيره وفهمه، ودراسة الأحاديث، هكذا كانت عبادتهم في مساجدهم، قال الخليفة الراشد عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "لأن أشهد الصبح في جماعة أحب إلي من قيام ليلة"، (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا)[الْإِسْرَاءِ: 78]، الصلاة قرع باب الرزق، والصلاة الوقوف في محل المناجاة؛ وقرآن الفجر تشهده ملائكة الليل والنهار.
عبادَ اللهِ: إن للجنة بابًا يقال له الضحى، لا يدخل منه إلى أصحاب صلاة الضحى، تحن الضُّحَى إلى صاحبها، كما تحن الناقة إلى فصيلها.
أيها المؤمنون: ورغم الإجراءات التعسفية الجارية اليوم، من الاقتحامات الظالمة للمسجد الأقصى المبارك، والتضييق على المصلين، والعاملين فيه، رغم هدم البيوت والاعتقالات الظالمة، رغم التشديد والقمع لأسرانا المحبوسين في سبيل الله، رغم رُقِيّ الشهداء، إلا أن أمتنا ستبقى الدرع والحصن الحصين، في الدفاع عن أُولى القِبلتينِ، ومن هنا نقول: يجب أن تحترم حقوق المحبوسين، وأن تقدم لهم العلاج الصحيّ وبخاصة للمرضى، وهذا هو أقل الحقوق المشروعة، ونطالب سلطات الاحتلال أن تفرج عن جثامين الشهداء المحجوزة، وأن تكف عن القتل، فكفاكم مصادرةَ الأرض، فالظلم لن يدوم، وإن دام دمر، وتذكروا أن أيام المحن سوف تذهب، وأن أيام المنن سوف تأتي عمَّا قريب -بإذن الله تبارك وتعالى-.
وأنتم -أيها المؤمنون- في الأرض المقدَّسة، تذكَّرُوا قول الله -تعالى-: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)[الْبَقَرَةِ: 249].
يا الله يا كريم، يا حافظ الآمال، أنت منعتنا وكفلتنا، وعدا الظلوم علينا كي يجتاحنا فنصرتنا.
اللهم ارحم شهداءنا، اللهم أكرمهم عندك في عليين يا رب العالمين، اللهم يا سابغ النعم، ويا دافع النقم، يا فارج الهم، يا كاشف الظلم، يا أعدل من حكم، يا حسيب من ظلم، يا ولي من ظلم، يا أول بلا بداية، ويا آخر بلا نهاية، يا من له اسم بلا كنية، اجعل لنا من أمرنا فرجًا ومخرجًا يا رب العالمين، واحفظ أهلنا في أرضنا المباركة، اللهم إنا قد أحاطت بنا الشدائد، وأنت ذخر لنا، فلا تعذبنا وأنت قادر على العفو عَنَّا.
يا هادي المضلين، ويا راحم المذنبين، ويا مقيل عثرات العاثرين ارحم عبادك فهم في خطر عظيم، والمسلمين أجمعين يا رب العالمين، واجعلنا من الأحياء المرزوقين، مع الذين أنعمت عليهم؛ (مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ)[النِّسَاءِ: 69].
اللهم اغفر لنا كل ذنب، واحفظنا على كل جنب، وفرج عَنَّا كل كرب، وأفض علينا رزقًا واسعًا واجعلنا قانعين، اللهم إنا نعوذ بك من مقام الكذابين، وإعراض الغافلين.
اللهم لك خضعَتْ قلوبُ العارفينَ، وذلَّت هيبةُ المشتاقينَ، هَبْ لنا جودَكَ، وجللنا بسترك، واعفُ عن تقصيرنا بكرم وجهك يا أكرم الأكرمين.
عبادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].
التعليقات