عناصر الخطبة
1/الاعتبار بسرعة مضي الأيام 2/التفكر فيما مضى خلال العام من أحداث 3/حكم الأحزان والأفراح التي تعتري المسلم 4/حب النبي للتفاؤل والأمل5/وجوب العمل بالأسباب لتغيير الواقع المؤلم 6/الحث على استغلال بما بقي من العمراقتباس
إن نهاية عام وبدء آخر -يعني عند العقلاء- أن الله متعك بساعات فيها نبضات قلب ما كان له أن يخفق لو أن الله أوقفها لحظة من الزمن، وفيها أنفاس ما كان له أن يعيش لو أن الله كتمها لحظة من الزمن، إنه يعني القرب من الرحيل، وتناقص الموجود...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله الواحد القهار، العزيز الغفار، يقلب الليل والنهار وفي ذلك عبرة لأولي الأبصار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، (فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا)[الأنعام: 96]، وكل شيء عنده بمقدار، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه البررة الأطهار وسلم تسليماً.
أما بعد: فاتقوا الله -يا أمة خير الأنام-، وراقبوه في السر والعلانية؛ فإنه يعلم سركم ونجواكم ويعلم ما تكسبون.
اللحظات القادمة تشهد سقوط الورقة الأخيرة، معلنة طي صفحة من صفحات الزمن كانت حافلة بالآلام والآمال عامرة بالمنح والمحن، ينتهي عام من عمر هذه الدنيا ويبدأ عام آخر، واقتربت الساعة وأزفت الآزفة، وهكذا (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ)[النور: 44].
يمضي على الأمة عام كما مضى أعوام، وما زالت الأمة في زمن الوهن قد تداعت عليها الأمم، كما تداعت الأكلة إلى قصعتها، وكل يريد حصته ديناً أو مالاً أو عرضاً أو دماً.
مضى عام فكم فيه من معتز بغير الله ذل، وكم من عابد لله على حرف قد انتكس وضل، وكم فيه من ظالم للناس قد هوى وانذل، فيا ليت الظالمين يدركون أن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، وقد أقسم لينصرنه ولو بعد حين، فلنتحلل ممن ظلمناهم اليوم قبل أن يأتي يوم لا درهم في ولا متاع، وحينها (لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ)[الروم: 57].
مضى عام بما فيه من مثاقيل الحسنات والسيئات، فكم في رمضانه من عتيق من النار وكم في حجه من عائد كيوم ولدته أمه، وكم عامل لله قد كتب الله له ألا يضل ولا يشقى، وكم من معرض فيه عن الله يعيش معيشة ضنكا.
مضى عام وفيه كغيره ارتفعت رايات العداء لهذا الدين بعقيدته وأخلاقه وأحكامه؛ يبغونكم الفتنة ويريدون أن تميلوا ميلاً عظيماً، ولكنه دين الله وسيبقى صخرة تتكسر عليها كل نبال الكفر وقرون النفاق، دين الله كلما ترك امتد، وكلما حورب اشتد؛ (وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)[الصف: 8].
وتلك الرايات الهدامة -وربي- لا يوقفها إلا غيرة صادقة، ووقفة حازمة، وتربية جادة، وتوعية للأمة مستمرة، ومقاومتها بسلاح الدعوة، واجتماع الكلمة، وتوحيد الجهود، والاشتغال بالبناء بدلاً من النقد والتلاوم، ومحاولة إسقاط الآخرين والتهوين من جهودهم.
يا مسلمون: الساعات القادمة تنهي عاما هجريا بما فيه من سعادة وشقاء، وقحط ورخاء، وظلمة وضياء، فكيف يا ترى سيكون عامنا الجديد؟ هل ستتواصل الهموم وتتوالى الأحزان أم سيشهد عامنا هذا بشريات فرح وسرور؛ فتقر أعين المؤمنين وتسعد نفوسهم؟ وقبل هذا: هل ما مضى كان مدعاة حزن وهموم، أم أن هناك نظرة تلقى على ما مضى من أحداث؟.
لا بد أن تعلم -أخي المسلم- قبل هذا أن الحزن والفرح كالخوف والرجاء والحب والكره شعوران إنسانيان طبيعيان، لا ينقصان من إيمان المسلم ما داما في حدودهما الطبيعية، وما دام الحزن لم يتحول إلى جزع أو يأس أو تسخط، ولم يتحول الفرح إلى بطر أو كبر وخيلاء، لا سيما إن كان هذا الحزن أو الفرح لله وفي الله وعلى محارم الله أو محابه، فأنبياء الله ورسله وعباده الصالحون عرض عليهم هذان الشعوران، من غير أن ينتقص ذلك من منزلتهم ودرجتهم؛ (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ)[الأنعام: 33].
ولا بد أن نعلم أن الفرح والحزن باعتبارهما شعورين إنسانيين ليسا متلازمين للخير والشر، باعتبار علم الله -سبحانه- وقدره؛ فقد يفرح الإنسان لأمر ويكون شراً له، وقد يحزن على أمر ويكون مآله خيراً له؛ (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[البقرة: 216]، كل إنسان في تجاربه يستطيع حين يتأمل أن يجد في حياته مكروهات كثيرة كان من ورائها الخير العميم، ولذاتٍ كثيرة كان من ورائها الشر العظيم، إن الإنسان لا يعلم والله وحده يعلم.
وفي ضوء الآلام والأحزان ومع مضي عام وبدء عام، لا بد أن تعلم أن من هدي رسولنا الاستبشار بالجديد القادم، والاحتفاء به والدعاء ببركته، فعند رؤية الهلال كان يقول: "هلال خير ورشد"، وعند نزول المطر يحسر عن ثوبه حتى يصيبه المطر ويقول: "إنه حديث عهد بربه"، وكان إذا أتي بالباكورة بأول الثمرة قال: "اللهم بارك لنا في مدينتنا، وفي ثمرتنا، وفي مُدنا، وفي صاعنا، بركة مع بركة".
إن ارتباط المسلم بربه ويقينه بأن كل قادم مجهول لا يخرج عن قدرته -سبحانه- وقدره، وأنه لا بد له -عز وجل- فيه حكمة بالغة، وثقة المسلم بوعد الله -تعالى- لعباده المؤمنين: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ)[غافر: 51]، (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ)[الروم: 47]، كل ذلك يجعل المؤمن مستبشراً بعامه الجديد مطمئناً إلى مستقبله، متوكلاً على ربه راضياً بقدره شاحذاً همته، مستبعداً شبح اليأس والتثبيط، وإن كنت وجدت عسرا فثق أن الله سيجعل بعد عسر يسرا، وإن ساءتك أمور فتذكر أنك لا تدري فلعل الله يحدث بعد ذلك أمرا؛ (إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)[يوسف: 87]
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
أما بعد: إذا أدركنا ما سبق وآمنا به، فلنعلم أن ذلك لا يعني عدم الاستعداد وبذل الجهد والأخذ بالأسباب، لن يوقف الخلل إلا العمل، ولن يواجه التغريب إلا بالتنظيم لا بالتنظير، ولن يغيظ العدو إلا التلاحم لا التلاؤم، وما بلينا بداء أضر من السلبية والغثائية والهمة الدنيئة، ولإن تزرع شجرة خير من أن تسب الحر، ولإن توقد شمعة خير من أن تلعن الظلام.
أيها المسلمون: قد مضى عام وأفل، وفيه تساقط على الطريق أقوام، واهتزت مناهج وتبدلت قناعات، وظهرت تناقضات فأصبح الحلماء حيارى؛ ولذا فنحن بحاجة إلى التواصي بالتمسك بثوابتنا، والدفاع عن مبادئنا، والعيش في ظل شريعة ربنا، وتحصين بيوتنا وأسرنا، والالتحام حول الربانيين العاملين من علمائنا ودعاتنا.
مضى عام ولا يجدي الحديث عما مضى، فما مضى فات، والمؤمل غيب، ولك الساعة التي أنت فيها، ولن نعيش في بحر اليأس مكبلين بقيد القنوط والإحباط، فلنعمل ليومنا وغدنا، مستشعرين أن النصر آت لا محالة، وأن الله لا يصلح عمل المفسدين، وأنه لا يحيق المكر السيء إلا بأهله؛ (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)[يوسف: 21].
وأخيراً: فلنتذكر أن ليس في شريعتنا مناسبة اسمها توديع عام أو استقبال عام، أو احتفال بهجرة أو غيرها؛ فتلك بدع محدثة لا أصل لها في شريعتنا، وليس لتوديع عام واستقبال آخر عمل يختص به فهو كسائر الأيام، وليس استقبال العام عيداً فيبارك بعض الناس لبعض، ولا بأس أن ترد على من هنأك متعودا لا متعبدا، وإنما المحذور أن تبادر بالتهنئة، والعبرة في الأزمان بالعمل بها لا ببلوغها.
ومن البدع ما تشيعه وسائل التواصل والتراسل من أن الأعمال ترفع، والصحف تطوى في نهاية العام، ويتبعها دعوات بالاستغفار والمسامحة؛ فهذا مما لأصل له، ولا تطوى الصحف إلا إذا طويت صفحة العمر، والصفح والعفو والاستغفار مما يحمد في كل حين وآن، والله المستعان.
إن نهاية عام وبدء آخر -يعني عند العقلاء- أن الله متعك بساعات فيها نبضات قلب ما كان له أن يخفق لو أن الله أوقفها لحظة من الزمن، وفيها أنفاس ما كان له أن يعيش لو أن الله كتمها لحظة من الزمن، إنه يعني القرب من الرحيل، وتناقص الموجود، وازدياد الذابل المفقود، وكل يوم يمضي يدني من الأجل؛ (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ)[فاطر: 11]، إنه يعني مضي زمن للعمل، سطر فيه الحفظة الكاتبون كل شيء، ويوم القيامة تكشف الأوراق ويواجه الإنسان نتائج عمله؛ (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا)[الإسراء: 13]، فاملأ صحيفتك بما يسعدك غداً.
استثمر كل ساعة بقيت من حياتك؛ فقد يكون اليوم الذي تحياه هو يومك الأخير، وقد تكون ساعتك التي أنت فيها هي الساعة الأخيرة، وإن لك يوماً أخيراً وساعة أخيرة، فما يدريك متى تحين؟.
أسأل الله لكم حياة سعيدة، وأعواماً في طاعة الله مديدة، وأسأله توفيقاً للأعمال الرشيدة، أو الخاتمة الحسنة.
اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
التعليقات