عناصر الخطبة
1/الرحمة خُلُق من أخلاق الميامين المباركين 2/رسول الله محمد نبي المرحمة 3/الدعوة إلى الرحمة العامةاقتباس
أُخَيَّ أُخَيَّ كُنْ رحيمًا لنفسك ولغيرك ولا تَسْتَبِدَّ بخيرك، وارحم الجاهل بعلمك، والمحتاج بجاهك، والفقير بمالك، والكبير باحترامك، والصغير برأفتك، والعُصاة بدعوتك، والبهائم بعطفك، فأقربُ الناس من رحمة الله أرحمُهم بخَلْقه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله ذي الآلاء والنعماء، أحاط بكل شيء عِلْمًا، ووَسِعَ كلَّ شيء رحمةً وحِلْمًا، وقَهَرَ كلَّ مخلوق عزةً وحُكْمًا، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، يرحم مِنْ عبادِه الرحماءَ، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدا خاتم الأنبياء، وسيد الأصفياء، نبي الرحمة الداعي إلى سبيل ربه بالحكمة، وخير نبي بُعِثَ إلى خير أمة، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين وأصحابه الغر الميامين، وسلم تسليما.
أما بعد فيا أيها المسلمون: اتقوا الله؛ فإن الأمس مَثَلٌ، واليوم عَمَلٌ، وغدًا أَمَلٌ، (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا)[الْمُزَّمِّلِ: 20].
أيها المسلمون: المباركون الميامين يتعطَّفون بالصِّلة والبِرِّ والإحسان، ويتفضلون بالعفو والمسامَحَة، ويتواصون بالمرحمة، والتواصي بالمرحمة فضيلة عظيمة وقُرْبة جليلة، قال ربنا -جل في علاه-: (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ)[الْبَلَدِ: 17-18]، ومعنى: وتواصوا بالمرحمة: أي: أوصى بعضُهم بعضًا برحمة الناس والعطف على الخَلْق، وحثَّ بعضُهم بعضًا على الرِّفق ولِينِ الجانبِ، ورحمةِ الفقيرِ والمسكينِ، والصغيرِ واليتيمِ، والمرضى والمكلومينَ، والشفقةِ على الجاهلين، والشفقة على أهل المعاصي بالنصيحة والموعظة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي ذلك قوام الناس، ولو لم يتراحموا هلكوا.
ووصَفَ اللهُ -سبحانه- المحبين له بخمسة أوصاف، أحدها: أذلة على المؤمنين، والمراد لين الجانب وخفض الجناح، والرأفة والعطف والرحمة بالمؤمنين، كما قال تعالى لرسوله -صلى الله عليه وسلم-: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)[الشُّعَرَاءِ: 215]، ووصَفَ أصحابَه بمثل ذلك في قوله: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)[الْفَتْحِ: 29]، رحماءُ رفقاءُ في غاية الرقة بينَهم، والمؤمن يكون رحيمًا بَرًّا، ضحوكا بشوشا في وجه أخيه المؤمن، وقال تعالى في صفة نبينا وسيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-: (بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[التَّوْبَةِ: 128].
فآمِنوا بنبي لا أبا لكُمُ *** ذي خاتَم صاغَه الرحمنُ مختوم
رَأْفٌ رحيمٌ بأهل البِرِّ يرحمهم *** مُقَرَّبٌ عند ذي الكرسِيِّ مرحوم
ما زال بالمعروف فينا آمِرًا *** يهدي الأنامَ بنوره المتشعشع
صلى الله عليه الله جل جلاله *** ما لاح نورٌ في البروق اللُّمَّع
جاء بالتوبة وجاء بالتراحم، وقال: "أنا نبي التوبة ونبي المرحمة"، وقال: "الراحمون يرحمهم الرحمن"، "ارْحَمُوا مَنْ في الأرض يرحمكم من في السماء"، "لا يرحمُ اللهُ مَنْ لا يرحمُ الناسَ"، "مَنْ لم يرحم صغيرَنا ويَعْرِف حقَّ كبيرنا فليس منا"، "لا تُنزع الرحمةُ إلا مِنْ شَقِيٍّ"، وعن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- قال: "أرسلَتْ ابنةُ النبي -صلى الله عليه وسلم- إليه: إن ابني لي قُبِضَ فَأْتِنا، فرُفِعَ إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصبيُّ ونفسه تَتَقَعْقَعُ، ففاضت عيناه -صلى الله عليه وسلم- فقال سعد: يا رسول الله، ما هذا؟ فقال: "هذه رحمة جعلها اللهُ في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء"(أخرجه البخاري).
ونال رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- من قومه ما ناله من التكذيب والإيذاء البليغ، قالت له عائشةُ -رضي الله تعالى عنها-: "هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أُحُد؟ قال: لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ، وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ، يَوْمَ الْعَقَبَةِ إِذْ عَرْضَتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ؛ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَشْعُرْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ. وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ فِيهِمْ بِمَا شِئْتَ: فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ وَقَدْ بَعَثَنِي إِلَيْكَ رَبُّكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ، فَمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا"(متفق عليه).
قال ابن حجر -رحمه الله تعالى-: "وفي هذا الحديث بيان شفقة النبي -صلى الله عليه وسلم- على قومه، ومزيد صبره وحلمه، وهو موافِق لقوله -تعالى-: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ)[آلِ عِمْرَانَ: 159]، وقوله -سبحانه وتعالى-: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[الْأَنْبِيَاءِ: 107]، فهذا خُلُق نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهذه صفته وهذه دعوته، وتلك رحمته وشفقته، وتلك أخلاق المؤمنين، فطوبي للرحماء. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه، إنه كان للأوابين غفورا. الخطبة الثانية: الحمد لله الكريم الحليم، أحمده كما ينبغي لجلاله العظيم، ووجهه الكريم، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا عديد ولا نديد له، ولا قسيم، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أزكى صلاة وتسليم، وأعلى تشريف وتكريم.
أما بعد: فيا أيها المسلمون اتقوا الله وراقِبُوه وأطيعوه ولا تعصوه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التَّوْبَةِ: 119]. أُخَيَّ أُخَيَّ كُنْ رحيمًا لنفسك ولغيرك ولا تَسْتَبِدَّ بخيرك، وارحم الجاهل بعلمك، والمحتاج بجاهك، والفقير بمالك، والكبير باحترامك، والصغير برأفتك، والعُصاة بدعوتك، والبهائم بعطفك، فأقربُ الناس من رحمة الله أرحمُهم بخَلْقه، فمَنْ كَثُرَت منه الشفقةُ على خَلْقه، والرحمةُ على عباده -رحمه الله- برحمته، وأَدْخَلَه دارَ كرامته، ووقاه عذابَ قبره، وهولَ موقفه، وأظَلَّه بظله.
أُخَيَّ عندي من الأيام تجربة *** فيما أظن وعلم بارع شافي
لا تَمْشِ في الناس إلا رحمة لهم *** ولا تعاملهم إلا بإنصاف
واقطع قُوَى كلِّ حقد أنتَ مضمره *** إن زل ذو ذلة أو إن هفا هافي
وارغب بنفسك عما لا صلاح له *** وأوسع الناس من بِرٍّ وإلطافِ
ولا تكشف مُسِيئًا عن إساءته *** وصِلْ حبالَ أخيك القاطع الجافي
فتستحق من الدنيا سلامتها *** وتستقل بعرض وافر وافي
ما أحسن الشغل في تدبير منفعة *** أهلُ الفراغِ ذوو خوض وإرجاف
وصَلُّوا وسَلِّمُوا على أحمد الهادي شفيع الورى طُرًّا، فمن صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد، وارضَ اللهم عن الآل والأصحاب، وعنا معهم يا كريم يا وهاب.
اللهم أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهم أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهم أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأَذِلَّ الشركَ والمشركينَ، ودَمِّرْ أعداءَ الدِّين، واجعل بلادَ المسلمين آمنةً مطمئنةً مستقرةً يا رب العالمين، اللهم وَفِّقْ إمامَنا ووليَّ أمرنا خادمَ الحرمينِ الشريفينِ لِمَا تحب وترضى، وخُذْ بناصيته للبر والتقوى، اللهم وفقه وولي عهده لما فيه عز الإسلام وصلاح المسلمين يا رب العالمين.
اللهم انصر جنودنا المرابطين على ثغورنا وحدودنا يا رب العالمين، اللهم احفظ رجال أمننا واجزهم خير الجزاء وأوفاه يا رب العالمين.
اللهم اشف مرضانا، وعاف مبتلانا، وارحم موتانا، وانصرنا على من عادانا، اللهم اجعل دعاءنا مسموعا، ونداءنا مرفوعا، يا كريم يا عظيم يا رحيم.
التعليقات