عناصر الخطبة
1/ أسباب انتشار الهموم وكثرة الأحزان 2/ فضائل ذكر الله تعالى 3/ عظم أجر الذكر مع سهولته 4/ إقامة ذكر الله من مقاصد كثير من العبادات 5/ فضائل عشر ذي الحجة 6/ بعض الأعمال الصالحة في العشر.اهداف الخطبة
اقتباس
وإذا فتش المرء في نفسه، ورجع إلى قلبه، وجد أن أعظم ما يجلب الهم والضيق قلةُ ذكر الله تعالى، وضعفُ التعلق به سبحانه،.. ومع ما يملكه الغافل من أسباب الحياة ورغدها.. وملاذ الدنيا وجُدَدِها، إلا أن الهموم تستولي على قلبه، والغمومَ تحُل في صدره، تنزل به الأحزان، بل ربما رأى المشكلات تزيد في بيته، والأمور تتعسر في وجهه، فلا يهنأ.. يتقلب في ضنك من العيش بسبب إعراضه عن ذكر الله تعالى (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا)...
الخطبة الأولى:
الحمد لله..
عباد الله.. في زمن طغيان الماديات، وكثرة الملهيات، وانتشار وسائل الاتصالات، وتنوع أسباب الرفاهية والراحة، تكثر الغفلة عن ذكر الله تعالى، ويكثر البعد عن الله، فتقسو القلوب، وتجف المآقي، وتعرض النفوس عن أسباب صلاحها وراحة قلوبها.
ومع ما يملكه الغافل من أسباب الحياة ورغدها.. وملاذ الدنيا وجُدَدِها، إلا أن الهموم تستولي على قلبه، والغمومَ تحُل في صدره، تنزل به الأحزان، ويغشاه الضيق، لأسباب تافهة أو غير معروفة لديه.
بل ربما رأى المشكلات تزيد في بيته، والأمور تتعسر في وجهه، فلا يهنأ ولا يمرأ.. يتقلب في ضنك من العيش بسبب إعراضه عن ذكر الله تعالى (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا) [طه: 124].
وإذا فتش المرء في نفسه، ورجع إلى قلبه، وجد أن أعظم ما يجلب الهم والضيق قلةُ ذكر الله تعالى، وضعفُ التعلق به سبحانه، والشيطان لا يزال بالمرء يستدرجه وينال منه حتى يستحوذ عليه (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ) [المجادلة: 19].
ويذهب به النسيان حتى تستحكم فيه الغفلة، فلا يفرق بين صالح وطالح، ولا بين حسنة وسيئة، ولا تختلف عنده أماكن معظمة أو أزمنة فاضلة عن غيرها، (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) [الزخرف: 36].
وقد حذرنا الله -سبحانه وتعالى- من الغفلة ومصاحبة الغافلين، فقال جل جلاله: (وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [الحشر: 19]، وقال جل في علاه: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) [الأعراف: 205].
وزجر عن قلة الذكر التي هي من صفات المنافقين، فقال سبحانه: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا) [النساء: 142].
فإذا كانت هذه حال الغافلين يا عباد الله؛ فإن علاج الغفلة بضدها، وضدُّها الذكر، قال تعالى (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيْتَ).
والله -تعالى- أرحم الراحمين، ومن رحمة الله بعباده أن يسر عليهم الذكر، ورتب عليه الأجور المضاعفة، فهو أخفّ العبادات وأسهلها، وأوفقُها لحال الناس، فهي العبادة العظيمة التي لا تختص بزمان ولا مكان، ولا يعجِز عنها صغير ولا كبير، ولا صحيح ولا سقيم، ولا غني ولا فقير، تفعل على كل حال، ولأجل ذلك ولكون الذكر أيسرَ العبادات حث -جل وعلا- على الإكثار منه، وما شيء أمر الله -تعالى- بالإكثار منه مثل الذكر، فإنه لا يقل منه مع يسره وسهولته إلا محروم مخذول.
قال ابن عبّاس- رضي الله عنهما- في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً) [الأحزاب: 41].
«إنّ الله -تعالى- لم يفرض على عباده فريضة إلّا جعل لها حدًّا معلومًا ثمّ عذر أهلها في حال العذر، غير الذّكر فإنّ الله -تعالى- لم يجعل له حدّا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدا في تركه إلّا مغلوبا على تركه فقال: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ) [النساء: 103]، بالليل والنّهار، في البرّ والبحر، وفي السّفر والحضر، والغنى والفقر، والسّقم والصّحّة، والسّرّ والعلانية، وعلى كلّ حال» أخرجه ابن كثير في تفسيره.
فيا أهل الإيمان، ويا تجار الآخرة، أين أنتم من ذكر الله تعالى، حيث الأرباح المضمونة المضاعفة!! أين المسابقون جنات عرضها الأرض والسماوات!! كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسير في طريق مكّة، فمرّ على جبل يقال له جُمدان. فقال: «سيروا هذا جُمدان، سَبَقَ المفرِّدُونَ». قالوا: وما المفرّدون يا رسول الله؟ قال: «الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ» (رواه مسلم).
وعن أبي الدرداء -رضي الله عنه- أن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «ألا أنبّئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذّهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوّكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى. قال: «ذكر الله تعالى» فقال معاذ بن جبل -رضي الله عنه-: ما شيء أنجى من عذاب الله من ذكر الله. (رواه مالك).
أيها المؤمنون.. من أحب التوفيق والفلاح، وأحب أن يكون الله معه فعليه بذكر الله، قال -صلى الله عليه وسلم- : «إنّ الله يقول: أنا مع عبدي إن هو ذكرني وتحرّكت بي شفتاه» (رواه الحاكم وصححه).
من عجز عن العمل، أو قلت أعماله الصالحة فعليه بذكر الله، عن عبد الله بن بسر- -رضي الله عنه- أنّ رجلا قال: يا رسول الله، إنّ شرائع الإسلام قد كثرت عليّ، فأخبرني بشيء أتشبّث به، قال: «لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله» (رواه الترمذي).
من أحب يقبل عمله، وتستجاب دعوته، فعليه بالإكثار من ذكر الله -تعالى- عن أبي هريرة- -رضي الله عنه- عن النّبيّ -صلى الله عليه وسلم- قال: «ثلاثة لا يردّ الله دعاءهم: الذّاكر الله كثيرا، ودعوة المظلوم، والإمام المقسط» (رواه البيهقي بسند حسن).
ولعظيم فضل الذكر، ولأنه لا يكون إلا بتوفيق من الله -تعالى- أخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- بيد معاذ بن جبل -رضي الله عنه- وقال: «يا معاذ والله إنّي لأحبّك فقال: «أوصيك يا معاذ، لا تدعنّ في دبر كلّ صلاة تقول: اللهمّ أعنّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» (أخرجه أبو داود). وتالله إنها لوصيته -صلى الله عليه وسلم- لكل أمته.
عباد الله.. وأيامكم هذه أيام العشر المعظمة عشر ذي الحجة، وهي أيام الذكر الكثير، والتسبيح والتحميد والتكبير، وهي أيام المناسك والحج، التي ما شرعت إلا لأجل ذكر الله تعالى، كما روت عن عائشة، -رضي الله عنها-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «إِنَّمَا جُعِلَ رَمْيُ الْجِمَارِ وَالطَّوَافُ وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا، وَالْمَرْوَةِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ لَا لِغَيْرِهِ» (رواه الحاكم وصححه).
ومن تأمل آيات الحج والمناسك وجدها مشحونة بالحث على ذكر الله تعالى، وتأكيد ذلك في كل حال، ولا سيما عند الانتقال بين المشاعر، قال -تعالى- (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً). وفي أيام التشريق قال -تعالى- (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) [البقرة: 198- 201].
وفي الأضاحي والهدايا (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) [الحج: 34] وغيرها من الآيات العامة والخاصة التي يلفت انتباه المؤمن المتدبر كثرتُها.
فهذا هو الذكر يا عباد الله، وفضله ما قد سمعتم، فما حظنا منه، وما نصيبه من أوقاتنا!!
ولتدرك عظم التفريط وقلة التوفيق، انظر كم تأخذ مائة تسبيحة من وقتك؟ وكم تستغرق مائة تهليلة من ساعاتك! إن مائة تسبيحة يسبح بها المسلم في دقيقتين، ومائة تهليلة يهلل بها في خمس دقائق لكفيلة بحط خطيئاته، ومضاعفة حسناته، ورفع درجاته، وحفظه من الشيطان، قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ، يَوْمَهُ ذَلِكَ، حَتَّى يُمْسِيَ وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَمَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ" (متفق عليه).
فاتقوا الله أيها المؤمنون.. ولا يشغلنكم شاغل عن اغتنام أيامكم، وعمارتها بصالح أعمالكم، فإنها أيام معدودات، ستذهب شاهدة بما فيها لكم أو عليكم، والموفق من عرف الخير فأقبل عليه، وأدرك الفضل فسعى إليه.. والمحروم من قابل الإحسان بالنكران، والمعروفَ بالهجران.
جعلني الله وإياكم من أهل مرضاته، وأعانني الله وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته.
أقول ما تسمعون..
الخطبة الثانية:
الحمد لله..
أما بعد: فاتقوا الله -تعالى- أيها المؤمنون، وأروا الله من أنفسكم خيرًا، واصدقوا الله في طلب مرضاته (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119]، واعرفوا لزمانكم فضله، ولأيامكم شرفها، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : «مَا مِنْ أَيَّامٍ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعَمَلُ فِيهِنَّ مِنْ أَيَّامِ الْعَشْرِ، فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّحْمِيدِ» (رواه الطبراني).
ثم اعلموا.. أنه يسن التكبير المطلق في أيام العشر في البيوت والمساجد والأسواق، لما في صحيح البخاري أن ابْنَ عُمَرَ، وَأَبُا هُرَيْرَةَ كانا يَخْرُجَانِ إِلَى السُّوقِ فِي أَيَّامِ العَشْرِ يُكَبِّرَانِ، وَيُكَبِّرُ النَّاسُ بِتَكْبِيرِهِمَا.
ومن أراد الأضحية فعليه أن يمسك عن أخذ شعره وأبشاره حتى يذبح أضحيته فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «إِذَا رَأَيْتُمْ هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ» (رواه مسلم).
فإن تعمد الأخذ منها أثم وعليه التوبة والاستغفار، وإن نسي وأخذ منها فلا شيء عليه، وأضحيته صحيحة إن شاء الله تعالى.
ثم صلوا وسلموا..
التعليقات