وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل

الشيخ راشد بن عبدالرحمن البداح

2024-05-16 - 1445/11/08
عناصر الخطبة
1/ قصةُ إعادةِ بناء الكعبة 2/ دعوة للحج 3/ لا حج إلا بتصريح

اقتباس

روَى البخاريُ أنهُ لما جَاءَ إِبْرَاهِيمُ بأُمِّ إِسْمَاعِيلَ وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُرْضِعُهُ، حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ الْبَيْتِ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ، وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ.. حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ...

الخُطْبَةُ الأُوْلَى:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي جعلَ العاقبةَ للمتقينَ، وأشهدُ ألَّا إِلَهَ إِلَّا هوَ الحقُ المبينُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الصادقُ الأمينُ، أَرْسَلَهُ بشيراً ونذيراً للجنِ والإنسِ أجمعينَ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ تَسْلِيمًا إلى يومِ الدينِ.

 

أما بعدُ: فإذا اقتربَ موسمُ الحجِ فإن المسلمينَ تتراءَى لهم قصةُ ذلكَ المشروعِ العظيمِ الذي أوحَى اللهُ لنبيهِ إبراهيمَ أن يتولاهُ، إنها قصةُ إعادةِ بناءِ الكعبةِ.

 

فإليكمْ تلكَ القصةَ التي يَقضِي العَجَبُ منها ولا تنقضي عجائبُها: فقد روَى البخاريُ أنهُ لما جَاءَ إِبْرَاهِيمُ بأُمِّ إِسْمَاعِيلَ وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ وَهِيَ تُرْضِعُهُ، حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ الْبَيْتِ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ، وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ.. حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ حَيْثُ لاَ يَرَوْنَهُ اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ الْبَيْتَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ).

 

حتى إذا صارتِ الهَلَكةُ من هاجرَ ورضيعِها إسماعيلَ على شفا، وتقطّعتْ عنها كلُ أسبابِ الأرضِ أتاها الغوثُ من السماءِ، بأعظمِ معاني الرحمةِ والعطاءِ، فإذا روحُ القدُسِ جبريلُ -عليهِ السلامُ- يتنزلُ عليها فِي صُورَةِ رَجُلٍ، فيبدؤُها بالمؤانسةِ قائلاً: إِلَى مَنْ وَكَلَكُمْ إِبْرَاهِيمُ؟ قَالَتْ: أَمَا وَاللهِ لَقَدْ وكَلَنا إِلَى اللهِ، قَالَ: وَكَلَكُمَا إِلَى كَافٍ.

 

فغمزَ جبريلُ بجناحهِ الأرضَ، فنبعَ ماءُ زمزمَ ليكونَ طعاماً وشراباً، ثم إن الملَك بعدَ أن أغاثَ لهفتَها سكبَ في نفسِها بشرَى أخرَى، فقالَ لَهَا: لاَ تَخَافُوا الضَّيْعَةَ، فَإِنَّ هَا هُنَا بَيْتَ اللَّهِ يَبْنِيهِ هَذَا الْغُلاَمُ وَأَبُوهُ، وَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَهْلَهُ.

 

إنهما بُشريانِ اثنتانِ: بشرَى بسلامتهِما ونجاتهِما من الهَلَكةِ، وبشرَى باصطفاءِ اللهِ لهما ليكونَ هوَ وأبوهُ عُمَّارَ بيتِهِ.

 

وَمرَّت السنواتُ، ومَاتَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ، فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَمَا تَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ.. فَلَمَّا رَآهُ قَامَ إِلَيْهِ، فَصَنَعَا كَمَا يَصْنَعُ الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ وَالْوَلَدُ بِالْوَالِدِ، ثُمَّ قَالَ: يَا إِسْمَاعِيلُ، إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِأَمْرٍ. قَالَ: فَاصْنَعْ مَا أَمَرَكَ رَبُّكَ. قَالَ: وَتُعِينُنِي؟ قَالَ: وَأُعِينُكَ. قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَاهُنَا بَيْتًا.. فَجَعَلَ إِسْمَاعِيلُ يَأْتِي بِالْحِجَارَةِ وَإِبْرَاهِيمُ يَبْنِي.. وَهُمَا يَقُولاَنِ: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

 

فتأملْ عَاقِبَةَ صَبْرِ إبراهيمَ وإسماعيلَ؛ مِنْ جَعْلِ مَوَاطِئِ أَقْدَامِهِمَا مَنَاسِكَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ اسْتَحَقَّ إِبْرَاهِيمُ إِذْ كَانَ بَانِيَ كَعْبَةِ أَهْلِ الْأَرْضِ أَنْ يَكُونُ مَنْصِبُهُ عِنْدَ كَعْبَةِ أَهْلِ السَّمَاءِ؛ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ الَّذِي يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَتَعَبَّدُونَ فِيهِ، ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ.

 

وأما الآنَ وبعدَ آلافِ السنينِ، فاعتبرْ كلما رأيتَ هذهِ الزحوفَ المليونيةَ نحوَ هذا البلدِ الأمينِ، وقد امتلأتْ فِجاجُه وازدحمتْ حُجّاجُه، وصارَ مثابةً للناسِ، تهوِي إليهِ الأفئدةُ طيلةَ أيامِ السنةِ، وتُجبى إليه ثمراتُ كلِ شيءٍ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ وكفَى، وصلاةً وسلاماً على النبيِ المصطفَى، أما بعدُ: فيا شبابَ الإسلامِ؛ ترونَ الكثيرَ من المسلمينَ يأتونَ من بلادٍ بعيدةٍ للحجِ، قد تركوا الأهلَ والأوطانَ، ليَصِلُوا إلى المسجدِ الحرامِ، وكثيرٌ منهم في فقرٍ وحاجةٍ.

 

فكيفَ يُفرطُ في فريضةِ الحجِ مَن هم في بلادِ الحرمينِ، وقد أنعمَ اللهُ عليهم بالاستطاعةِ البدنيةِ والنظاميةِ وبالاستطاعةِ الماليةِ على تكاليفِ أجرةِ حملاتِ الحجِ؟! (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا).

 

وقد صحَ عن رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قولُه: “مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ؛ فَإِنَّهُ قَدْ تَضِلُّ الضَّالَّةُ، وَيَمْرَضُ الْمَرِيضُ، وَتَكُونَ الْحَاجَةُ”.

 

فيا تاركًا للحجِ وقد استطاعَ: مَن يضمنُ لك البقاءَ إلى السنةِ القادمةِ حتى تؤديَ فريضةَ الحجِ؟! فبادرْ وتُبْ إلى اللهِ من التأخيرِ؛ لأن الحجَ واجبٌ على الفَوْرِ، وتفقَّهْ في أحكامِ حَجِك، واقرأْ واسمعْ دروسَ وفتاوَى العلماءِ عن صفةِ الحجِ ومسائلهِ؛ ليكونَ حَجُك مبروراً.

 

ومَن أرادَ الحجَ فلا يَحُجَّنَّ إلا بتصريحٍ، فقد أفتتْ هيئةُ كبارِ العلماءِ بالمملكةِ بتحريمِ الحجِ بلا تصريحٍ، وأنّ مَن لم يستطعِ استخراجَ تصريحٍ للحجِ فهوَ في حكمِ العاجزِ المعذورِ. ومن حجَ بلا تصريحٍ فهو آثمٌ، وأشدُ منهم مَن قد حجَ فرضَه، لكنه يتحايَلُ على نظامِ الدولةِ ليحجَ نفلاً، فكيفَ يعصونَ وليَ أمرِهِم، بل كيفَ يتقربونَ إلى اللهِ بمسنونٍ، وهم يتعمدونَ فعلَ بعضِ محظوراتِ الإحرامِ كلُبسِ المخيطِ! وهذا من الفسوقِ في الحجِ.

 

فاللهم ارزقنا تعظيمَ بيتِك، وتعظيمَ شعائرِك، وارزقنا منها تقوى القلوبِ.

 

اللهمَ إنا نحمدُك على الأمنِ ببلادِ الحرمينِ، وعلى حكامٍ يحكمونَ بالوحيينِ.

 

اللهم يا ذا الجلالِ والإكرامِ احفظْ ملِكَنا ووليَ عهدِه، وأدِمْ عليهما الصحةَ والقوةَ على طاعتِك، وأعنْهم ببطانةٍ صالحةٍ على إدارةِ مملكتِهم، ووفقهُم للصوابِ في قراراتِهم ومؤتمراتِهم. واجزِهِم خيرًااً على خدمةِ الحرمينِ، وعلى حسنِ ضيافةِ الحجاجِ والمعتمرينَ.

 

اللهم وفقْ وسددْ منظمِي الحجِ من سائرِ القطاعاتِ.

 

اللهم احفظْ مجاهدِينا ومرابطِينا على الحدودِ ومراكزِ التفتيشِ.

 

اللهم احفظِ الحجاجَ في قدومِهم ومسيرِهم.

 

اللَّهُمَّ إِنّا نسْأَلُكَ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ.

 

اللَّهُمَّ إِنّا عَائِذون بِكَ مِنْ شَرِّ مَا أَعْطَيْتَنَا وَشَرِّ مَا مَنَعْتَنا.

 

اللَّهُمَّ قَاتِلِ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ رُسُلَكَ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِكَ.

 

اللهم طيبْ أقواتَنا، وارحمْ أمواتَنا، واجمعْ على الهدَى شؤونَنا، واقضِ ديونَنا.

 

اللهم صلِ وسلمْ على عبدِكَ ورسولِكَ محمدٍ.

المرفقات
storage
storage
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life