عناصر الخطبة
1/ البيان الإلهي الكريم بإجابة دعوة الداعين 2/ وقفات مع اسم الله \"القريب\" 3/ القرب الإلهي الخاص من أصفيائه وأوليائه 4/ معرفة الأنبياء لأثر هذا القرب وتجلياته عليهم 5/ طاعاتٌ تقرِّب من الله تعالى 6/ ثمرات استحضار القرب من الله تعالى 7/ استثمار العشر الأواخر من رمضان تقرُّباً للرحمناهداف الخطبة
اقتباس
فتعالوا -يا أهل الصيام- نقترب من اسم الله القريب، نتفهم معانيه، ونتأمل دلالاته، ونتطلب آثاره؛ فالعلم بأسماء الله وصفاته من أنفع ما تُستصلح به القلوب، وتُزكو معه النفوس؛ ولذا كان الحديث عن أسماء الله وصفاته مبسوطاً في القرآن، قد جاوز ذكر الجنة ونعيمها، والمعاد وأحواله، كما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-.
الْخُطْبَةُ الْأُولَى:
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِجَلَالِ اللَّهِ، أَيُّهَا الصَّائِمُونَ تَرْجُونَ نَوَالَ اللَّهِ، إِلَيْكُمْ هَذَا الْبَيَانَ، فَاسْتَجْمِعُوا لَهُ الْوِجْدَانَ، وَأَصْغُوا إِلَيْهِ الْآذَانَ؛ لِأَنَّهُ بَيَانٌ لَيْسَ مِنْ إِنْسَانٍ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، يَرْشُدُ وَيَغْوِي، بَلْ هُوَ بَيَانٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ وَلَا يُخَالِجُهُ وَلَا يُقَارِبُهُ.
إِنَّهُ بَيَانٌ مِمَّنْ إِذَا وَعَدَ أَوْفَى (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ) [التوبة: 111]؟ (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا) [النساء: 87]؟
جَاءَ هَذَا الْبَيَانُ بَعْدَ آيَاتِ الصِّيَامِ مُبَشِّرًا، وَكَأَنَّمَا يُخَاطِبُ أَهْلَ الصِّيَامِ مُحَفِّزًا!
يَقُولُ هَذَا الْبَيَانُ: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة:186].
فَتَعَالَوْا -يَا أَهْلَ الصِّيَامِ- نَقْتَرِبْ مِنِ اسْمِ اللَّهِ الْقَرِيبِ، نَتَفَهَّمْ مَعَانِيَهُ، وَنَتَأَمَّلْ دَلَالَاتِهِ، وَنَتَطَلَّبْ آثَارَهُ؛ فَالْعِلْمُ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ مِنْ أَنْفَعِ مَا تُسْتَصْلَحُ بِهِ الْقُلُوبُ، وَتَزْكُو مَعَهُ النُّفُوسُ؛ وَلِذَا كَانَ الْحَدِيثُ عَنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ مَبْسُوطًا فِي الْقُرْآنِ، قَدْ جَاوَزَ ذِكْرَ الْجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا، وَالْمَعَادِ وَأَحْوَالِهِ، كَمَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ اللَّهُ.
فَالْقَرِيبُ: اسْمٌ حَسَنٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى، تَضَمَّنَ صِفَةَ الْقُرْبِ، وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ يُثْبِتُونَ لِلَّهِ تَعَالَى هَذِهِ الصِّفَةَ إِثْبَاتًا بِلَا تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ.
فَهُوَ -سُبْحَانَهُ- قَرِيبٌ مِنْ عِبَادِهِ حَقِيقَةً، كَمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ، قُرْبًا لَا يَقْتَضِي مُلَابَسَةً وَلَا حُلُولًا؛ كَمَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ: "هُوَ الْعَلِيُّ فِي دُنُوِّهِ، الْقَرِيبُ فِي عُلُوِّهِ".
اسْمُ اللَّهِ الْقَرِيبُ جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ -تَعَالَى- مَقْرُونًا بِاسْمِ السَّمِيعِ وَالْمُجِيبِ (إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) [سبأ: 50] (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) [هود: 61].
وَأَعْلَمُ الْخَلْقِ بِرَبِّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَصَفَ رَبَّهُ بِهَذَا الِاسْمِ: تَعَالَتْ أَصْوَاتُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- فِي سَفَرٍ مِنَ الْأَسْفَارِ بِالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ، فَنَادَاهُمُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا، أَقْرَبُ إِلَى أَحَدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ".
هَذَا الْقُرْبُ الْإِلَهِيُّ قَدْ شَمِلَ كُلَّ مَخْلُوقٍ، وَوَسِعَ كُلَّ مَرْبُوبٍ، فَهُوَ -سُبْحَانَهُ- مَعَ أَنَّهُ مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ، بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ، إِلَّا أَنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ عِبَادِهِ، مُطَّلِعٌ عَلَى أَحْوَالِهِمْ، مُشَاهِدٌ لِحَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ شَأْنِ خَلْقِهِ.
سِرُّهُمُ عِنْدَهُ عَلَانِيَةٌ، وَغَيْبُهُمْ عِنْدَهُ شَهَادَةٌ (سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ) [الرعد: 10] (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا) [المجادلة: 7].
هُوَ -سُبْحَانَهُ- قَرِيبٌ، وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ، لَمْ تَشْتَبِهْ عَلَيْهِ اللُّغَاتُ، وَلَنْ تَخْتَلِطَ عَلَيْهِ اللَّهَجَاتُ.
هُوَ -جَلَّ فِي عُلَاهُ- قَرِيبٌ (يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ) [فاطر: 41].
يَهْدِي خَلْقَهُ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَيُرْسِلُ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ، وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ، يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ، وَيُرْسِلُ عَلَى عِبَادِهِ حَفَظَةً، كِرَامًا كَاتِبِينَ، يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ.
أَقْرَبُ لِلْعَبْدِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، وَلَا شَيْءَ فِي مُلْكِهِ عَنْهُ بَعِيدٌ، يَسْمَعُ وَيَرَى دَبِيبَ النَّمْلَةِ السَّوْدَاءِ، عَلَى الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ، فِي اللَّيْلَةِ الظَّلْمَاءِ.
هَذَا هُوَ الْقُرْبُ الْعَامُّ، قُرْبُ الْعِلْمِ وَالْمُشَاهَدَةِ، وَالْمُرَاقَبَةِ وَالْإِحَاطَةِ. هَذَا الْقُرْبُ عَامٌّ لِكُلِّ خَلْقٍ وَمَخْلُوقٍ، مِنْ إِنْسٍ وَجَانٍّ، وَمُسْلِمٍ وَكَافِرٍ.
وَقُرْبٌ آخَرُ خَاصٌّ، خَصَّهُ اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ وَأَصْفِيَائِهِ، هَذَا الْقُرْبُ الْخَاصُّ، يَقْتَضِي اللُّطْفَ وَالْحِفْظَ وَالتَّوْفِيقَ، وَالْعِنَايَةَ وَالنُّصْرَةَ وَالتَّسْدِيدَ.
فَاللَّهُ -تَعَالَى- قَرِيبٌ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، يَسْمَعُ شَكْوَاهُمْ، وَيُجِيبُ دَعْوَاهُمْ، يَحْفَظُهُمْ بِعِنَايَتِهِ، وَيَكْلَؤُهُمْ بِرِعَايَتِهِ.
عَرَفَ هَذَا الْقُرْبَ الْإِلَهِيَّ، وَرَأَى أَثَرَهُ أَنْبِيَاءُ اللَّهِ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ.
رَأَى أَثَرَ هَذَا الْقُرْبِ نَبِيُّ اللَّهِ يُونُسُ بْنُ مَتَّى، فَنَادَى فِي أَعْمَاقِ الْبِحَارِ، فِي بَطْنِ الْحُوتِ -ظُلُمَاتٌ فِي ظُلُمَاتٍ، وَكُرُبَاتٌ فِي كُرُبَاتٍ- نَادَىَ: (أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنبياء: 87] فَكَانَ اللَّهُ قَرِيبًا مِنْهُ، مُجِيبًا لِدَعَوَاتِهِ وَتَسْبِيحَاتِهِ (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء: 88].
وَرَأَى أَثَرَ هَذَا الْقُرْبِ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- حِينَ تَآمَرَ عَلَيْهِ قَوْمُهُ، وَتَمَالَؤُوا وَخَطَّطُوا وَقَرَّرُوا (حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ) [الأنبياء: 68] فَنَادَى عِنْدَهَا الْخَلِيلُ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ! فَقَالَ اللَّهُ: (يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ) [الأنبياء: 69].
وَرَأَى هَذَا الْقُرْبَ أَيْضًا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ قَالَ لَهُ النَّاسُ: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) [آل عمران: 173] فَقَالَ هُوَ وَصَحَابَتُهُ الْأَوْفِيَاءُ: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) [آل عمران: 173 - 174].
"يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَقَرِيبٌ رَبُّنَا فَنُنَاجِيهِ؟ أَمْ بَعِيدٌ فَنُنَادِيهِ؟" بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ يَسْأَلُ الصَّحَابَةُ رَسُولَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
سَكَتَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَا أَجَابَ، فَأَجَابَ اللَّهُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ، نَزَلَ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ بِقَوْلِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ).
فَهَنِيئًا لِأَهْلِ الْإِيمَانِ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ حَقًّا وَصِدْقًا! هَنِيئًا لَهُمْ هَذَا الْقُرْبُ الْإِلَهِيُّ، وَالدُّنُوُّ الرَّبَّانِيُّ! هَنِيئًا لَهُمْ قَبُولُ الدَّعَوَاتِ، وَإِجَابَةُ السُّؤَالِ وَالْحَاجَاتِ! وَبُشْرَاهُمْ فَوْقَ مَا سَأَلُوهُ وَطَلَبُوهُ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ آخَرُ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: (وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) [الشورى: 26].
مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ: وَكُلَّمَا كَانَ الْعَبْدُ مُنْقَادًا لِأَوَامِرِ اللَّهِ، مُسْتَجِيبًا لَدَاعِي الْهُدَى، ازْدَادَ اللَّهُ قُرْبًا مِنْهُ وَإِلَيْهِ؛ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، يَقُولُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: "إِذَا تَقَرَّبَ عَبْدِي مِنِّي شِبْرًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا، تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِذَا أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً".
وَأَسْعَدُ النَّاسِ بِقُرْبِ اللَّهِ -تَعَالَى- هُمْ أَهْلُ التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ، وَالْإِنَابَةِ وَالِافْتِقَارِ؛ فَهُوَ -سُبْحَانَهُ جَلَّ فِي عُلَاهُ- قَرِيبٌ مِنْ عِبَادِهِ التَّائِبِينَ، يُحِبُّ تَضَرُّعَهُمْ، وَيَفْرَحُ بِنَدَمِهِمْ.
فَهَذَا نَبِيُّ اللَّهِ صَالِحٌ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَدْعُو قَوْمَهُ نَاصِحًا وَمُوَجِّهًا: (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) [هود: 61].
عِبَادَ اللَّهِ: وَإِذَا أَسْدَلَ اللَّيْلُ غَبَسَهُ، فَهَدَأَتِ الْجُفُونُ، وَتَلَاحَمَتِ النُّجُومُ، وَبَقِيَ مِنَ اللَّيْلِ ثُلُثُهُ، فَهَذَا أَوَانُ نُزُولِ الرَّبِّ -جَلَّ وَعَلَا- وَاقْتِرَابِهِ؛ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "يَنْزِلُ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟".
وَجَاءَ عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ وَالْحَاكِمِ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ: "أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنْ عَبْدِهِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ الْآخِرِ؛ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَذْكُرُ اللَّهَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ، فَكُنْ".
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: قُرْبُ اللَّهِ مِنْ عَبْدِهِ مَنْزِلَةٌ تَمْتَدُّ نَحْوَهَا الْأَعْنَاقُ، وَأُمْنِيَّةٌ تَصْغُرُ دُونَهَا الْأَمَانِيُّ، فَحَرِيٌّ بِالْعَبْدِ أَنْ يَتَحَسَّسَ الْأَعْمَالَ، وَيَتَلَمَّسَ الطَّاعَاتِ الَّتِي نُصَّ عَلَيْهَا أَنَّهَا تُقَرِّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
فَمِنَ الطَّاعَاتِ الَّتِي تَزِيدُ الْعَبْدَ اقْتِرَابًا مِنَ اللَّهِ -جَعَلَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ عِبَادِهِ الْقَرِيبِينَ الْمُقَرَّبِينَ-: عِبَادَةُ السُّجُودِ: السُّجُودِ فِي الصَّلَاةِ، سُجُودِ الشُّكْرِ، سُجُودِ التِّلَاوَةِ.
مَوْطِنُ السُّجُودِ هُوَ قِمَّةُ التَّعَبُّدِ وَالتَّذَلُّلِ لِلَّهِ تَعَالَى، قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَلِذَا كَانَ السُّجُودُ مِنْ مَوَاطِنِ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ، قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَنَبِيُّنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ أَقْرَبُ الْعَالَمِينَ مَنْزِلَةً مِنْ رَبِّهِ فِي الْجَنَّةِ، حِينَ سَأَلَهُ رَبِيعَةُ بْنُ مَالِكٍ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ، قَالَ: "فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ، إِنَّكَ لَا تَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً إِلَّا رَفَعَكَ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً" حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
فَيَتَرَقَّى الْعَبْدُ بِكَثْرَةِ سُجُودِهِ إِلَى مَنَازِلِ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ.
إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: وَمِنَ الْقُرُبَاتِ الَّتِي يَحْظَى أَهْلُهَا بِقُرْبِ اللَّهِ -تَعَالَى- عِبَادَةُ الذِّكْرِ، يَقُولُ الْمُصْطَفَى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يَقُولُ اللَّهُ -تَعَالَى-: "أَنَا مَعَ عَبْدِي مَا ذَكَرَنِي، وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ" رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
وَجَامِعُ مَا يُقَرِّبُ الْعَبْدَ مِنْ خَالِقِهِ وَرَبِّهِ أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ الصَّالِحَاتِ بِنُورٍ مِنَ اللَّهِ، يَرْجُو ثَوَابَ اللَّهِ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ) [سبأ: 37].
بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ....
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ وَلِيِّ الْمُتَّقِينَ، وَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى خَيْرِ الْمُرْسَلِينَ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ: فَيَا إِخْوَةَ الْإِيمَانِ:
وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ قَرِيبًا مِنْ مَوْلَاهُ، سَعِيدًا بِطَاعَتِهِ وَرِضَاهُ، فَلَا تَسَلْ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ طِيبِ عَيْشِهِ، وَرَاحَةِ بَالِهِ؛ فَمَعَ اللَّهِ تَطِيبُ الْحَيَاةُ، وَيَحْلُو الْعَيْشُ، حَتَّى وَلَوْ كَانَ الْمَرْءُ مَحْرُومًا مِنْ مُتَعِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا.
إِذَا كَانَ الْعَبْدُ قَرِيبًا مِنْ رَبِّهِ، فَهُوَ -وَاللَّهِ- فِي سَعَادَةٍ وَجُنَّةٍ لَا تُقَدَّرُ بِأَثْمَانٍ، وَلَا تُعَبَّرُ بِلِسَانٍ، ذَاقَ طَعْمَ هَذِهِ الْجُنَّةَ أَقْوَامٌ ابْتَسَمَتْ لَهُمُ الْحَيَاةُ، وَطَابَ لَهُمُ الْعَيْشُ أَزْمَانًا، وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي زُبُرِ الْقُرْآنِ: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل: 97].
وَمَنْ رَاقَبَ رَبَّهُ، وَاسْتَحْضَرَ قُرْبَهُ، وَتَيَقَّنَ دُنُوَّهُ - بَلَغَ بِذَلِكَ دَرَجَةَ الْإِحْسَانِ، فَكَانَ أَهْلًا بَعْدَ ذَلِكَ لِلرَّحْمَةِ وَالْغُفْرَانِ، وَرَحْمَةُ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ.
وَإِذَا اسْتَشْعَرَ الْعَبْدُ قُرْبَ اللَّهِ، هَدَأَتْ نَفْسُهُ، وَسَكَنَ قَلْبُهُ، وَرَضِيَ بِأَمْرِ اللَّهِ، وَثَبَتَ أَمَامَ الْمُدْلَهِمَّاتِ وَالتَّحَدِّيَاتِ.
نَزَلَتِ السَّكِينَةُ عَلَى قَلْبِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ يَوْمَ أَنِ اسْتَشْعَرَ قُرْبَ اللَّهِ -تَعَالَى- مِنْهُ، فَقَالَ لِصَاحِبِهِ: "لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا، يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا؟!".
وَإِذَا اسْتَشْعَرَ الْعَبْدُ قُرْبَ اللَّهِ حَقًّا، اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ صِدْقًا أَنْ يَرَاهُ حَيْثُ نَهَاهُ، أَوْ أَنْ يَفْقِدَهُ حَيْثُ أَمَرَهُ.
وَإِذَا اسْتَشْعَرَ الْعَبْدُ صِدْقًا قُرْبَ رَبِّهِ سَأَلَهُ حَوَائِجَهُ، وَبَثَّ شَكْوَاهُ بَيْنَ يَدَيْهِ؛ وَلِذَا ذَكَرَ الْمَوْلَى بَعْدَ اسْمِهِ الْقَرِيبِ أَنَّهُ يُجِيبُ دُعَاءَ مَنْ دَعَاهُ: (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ).
فَيَا أَهْلَ الصِّيَامِ وَالدُّعَاءِ هَا هِيَ الْعَشْرُ الْمُبَارَكَةُ قَدْ أَقْبَلَتْ بِنَفَحَاتِهَا وَخَيْرَاتِهَا وَبَرَكَاتِهَا، فَشَمِّرُوا لِهَذِهِ الْأَيَّامِ الْقَلَائِلِ، وَاسْعَوْا فِيهَا حَقَّ السَّعْيِ، فَهِبَاتُ رَبِّكُمُ الْقَرِيبِ تُوَزَّعُ كُلَّ لَيْلَةٍ، فَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الرَّشَادِ بِاسْتِجَابَتِكُمْ وَإِيمَانِكُمْ.
يَا رِجَالَ اللَّيْلِ جِدُّوا *** رُبَّ دَاعٍ لَا يُرَدُّ
مَا يَقُومُ اللَّيْـلَ إِلَّا *** مَنْ لَهُ عَزْمٌ وَجِدُّ
لَيْسَ شَيْءٌ كَصَلَاةِ الْـ *** ـلَيْلِ لِلْقَبْرِ يُعَدُّ
كَانَ نَبِيُّكُمْ وَقُدْوَتُكُمْ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَأَحْيَا لَيْلَهُ.
فَشَرَفُ هَذِهِ اللَّيَالِي لَا يُوَازِيهِ شَرَفٌ، وَيَكْفِيهَا أَنَّ فِيهَا لَيْلَةً خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، فَيَا هَنَاءَ مَنْ حَظِيَ بِقِيَامِهَا وَالْإِحْسَانِ فِيهَا! وَيَا سَعَادَةَ مَنْ فَازَهَا وَحَازَهَا! وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ.
فَيَا أَهْلَ الْإِيمَانِ: جَمِّلُوا لَيَالِيَكُمْ بِالذِّكْرِ وَالْقُرْآنِ، وَأَحْيُوا الْأَسْحَارَ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ، قُومُوا فِي مَسَاجِدِكُمْ قَانِتِينَ خَاشِعِينَ، سَائِلِينَ مُلِحِّينَ، آيِبِينَ تَائِبِينَ.
ابْتَهِلُوا إِلَى رَبِّكُمْ فِي أَشْرَفِ الْأَزْمَانِ أَنْ يُصْلِحَكُمْ وَيُصْلِحَ بِكُمْ، وَيُصْلِحَ أَحْوَالَ مُجْتَمَعِكُمْ وَأُمَّتِكُمْ، فَرَبُّكُمُ الْقَرِيبُ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا سَأَلَهُ أَنْ يَرُدَّ يَدَيْهِ صِفْرًا.
فَنَحْنُ الْفُقَرَاءُ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ، نَحْنُ الضُّعَفَاءُ وَاللَّهُ هُوَ الْقَوِيُّ، نَحْنُ الْأَذِلَّاءُ وَاللَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ.
وَاللَّهِ مَا لَكَ غَيْرُ اللَّهِ مِنْ أَحَدٍ *** فَحَسْبُكَ اللَّهُ! فِي كُلٍّ لَكَ اللَّهُ
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ...
التعليقات
زائر
25-12-2020@ جزاكم الله خيرا