عناصر الخطبة
1/ الاختلاط بالنَّاسِ يكشِف مَعَادِن الأخلاق 2/ أهمية التَّرفع عن مُجارَاةِ السُّفهاءِ والجاهِلينَ 3/ آية من القرآن جامعةٌ لحسنِ الخُلُقِ مع الناسِ 4/ مساوئ الاشتِغَال بالرَّد على السُّفهاءِ والجَاهِلين 5/ العَفُو والحلم شِعارُ الصَّالِحينَ الأتقِيَاء 6/ أخلاقُ الكبارِ تتجلى في موقف عمر مع الجاهلين.اهداف الخطبة
اقتباس
الاشتِغَالُ بالرَّدِّ على السُّفهاءِ والجَاهِلينَ، ومُجَارَاتِهم ليسَ فقط مُخِلاًّ بالآدابِ! بل هو مَضيَعَةٌ لِلوقتِ والعُمُرِ، وإساءَةٌ لِلنُّفُوسِ الكَرِيمَةِ الأَبِيَّةِ التي تَتَرَفَّعُ عن مُجاراةِ السُّفهاء والبَطَّالِينَ. والعَاقِلُ أَذكى مِن أن يَنشَغِل بِالرَّدِ على القيلِ والقَالِ! وسيئِ القولِ والفِعالِ! وهل سَلِمَ خَالِقُ النَّاسِ من النَّاسِ؟ وهلَ سَلِم أشرَفُ البَشَرِ من النَّاسِ؟!.. ورُبَّ كلامٍ مَشينٍ، أو تَصَرُّفٍ أحمَقٍ، السُّكُوتُ والتَّغاضي أبلغُ علاجٍ لهُ، فقد علَّمتنا مَدرسَةُ مُحمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- أنَّ الإعراضَ عن الجَاهِلينَ، والصَّفحَ الجَمِيلَ عن المُذنِبينَ مِن أنبلِ الشِّيمِ، وأعلى القِيَمِ! "اذهبوا فأنتم الطُّلَقَاءَ"...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، الرحمنِ الرحيمِ، مالكِ يوم الدِّينِ، نشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ له، إلهُ الأولينَ والآخرينَ، ونَشهدُ أنَّ محمدا عبدُ اللهِ ورسولُهُ المصطفى الأمينُ، أدَّبهُ رَبُّهُ بِالخُلُقِ العظيمِ، وبعثهُ رحمةً وأماناً لِلعالمينَ، صلى اللهُ وسلَّمَ وباركَ عليه وعلى آلِهِ وأصحابِهِ الغُرِّ المَيامِينِ ومن سارَ على نَهجهم واتَّبعَ سبيلَهم إلى يومِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقوا اللهَ يا مؤمنونَ، واعلموا أنَّ الدُّنيا مَتَاعٌ وكَبَدٌ، وأنَّ الآخِرَة هي دَارُ القَرارِ والأَبَدِ.
عبادَ اللهِ: الاختلاطُ بالنَّاسِ يكشِفُ مَعَادِنَ أخلاقِنا وحُسنَ أو قُبحَ سُلُوكِنا، وما بُعثَ الرِّسولُ -صلى الله عليه وسلم- إلاَّ ليُتَمِّمَ مَكَارِمَ أَخلاقِنا، ويُبعِدَنا عن سِفْسَافِها وأَرَاذِلِها! ولقد أصَّلَ الرِّسولُ الكريمُ -صلى الله عليه وسلم- في أُمَّتِهِ أنَّ مِن سِماتِ المُؤمنِ أنْ يَكُونَ هيِّنَاً ليِّناً لا غِلَّ فِيهِ، ولا بَغيَ ولا حَسَدَ، يُؤثِرُ حَقَّ الآخَرينَ على حَقِّهِ، ويَعلَمُ أنَّ الحَيَاةَ الدُنيا أرخَصُ من أنْ تُملأ بالعَدَاواتِ والبَغضَاءِ، والأَحقَادِ والإحنِ؛ حتى يعيشَ المُسلِمُ سَلِيمَ القَلبِ، مُرتاحَ البالِ، قَوِيَّ الإيمانِ، مُطيعاً لِربِّهِ، مُجانِباً لِهواهُ وشيطانِهِ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: لقد جُبِلَ أناسٌ عَلَى مَحَبَّةِ ذَوَاتِهِم وَالانتِصَارِ لأَنفُسِهِم، وَمِن ثَمَّ تَنشَأُ منهم خِلافَاتٌ وعَدَواتٌ، في كُلِّ ميادِينِ الحياةِ، في طُرُقَاتِهم وأسواقِهم وأماكِنِ عَمَلِهم حتى في اجتِماعَاتِهمُ العائِلِيَّةِ، بل في بعضِ الأحيانِ في أماكِنِ عباداتِهم، فقد تنشأ مُشكِلةٌ عند إشارةِ مُرورٍ، أو لأجلِ موقفِ سيَّارةٍ، أو وسطِ مَحلٍّ ودُكَّانٍ! أو بسببِ رِسالَةٍ أو نقلِ كلامٍ! والمُشكِلَةُ أنَّ بعضَ الخِلافَاتِ تَتَطَوَّرُ فتَكُونَ لِجَاجًا وَخِصَامًا، ويَحصُلُ تَبَاعُدٌ وَتَنَافُرٌ ما أنزلَ اللهُ به من سُلطانٍ! تَتَعَقَّدُ بِسَبَبِهِ الحَيَاةُ وَيَفسُدُ العَيشُ وَتُشحَنُ القُلُوبُ بالإحنِ، وَتَذهَبُ الأَيَّامُ، وَالأَعمَالُ لا تُرفَعُ، فاللهمَّ لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ.
عبادَ اللهِ: ومن أعظمِ الأخلاقِ التي نحتاجُها في زَمَنِ التَّحرِيشِ والتَّصنِيفِ والتَّقسيمِ، في زَمَنٍ كَثُرت فيه المشَاكِلُ والعَداواتُ، ورَسائِلُ التَّواصُلِ والاستفزازاتُ! نحتاجُ بِحقٍّ إلى التَّرفُّعِ عن مُجارَاةِ السُّفهاءِ الجاهِلينَ. ومُجاراةِ الحمقى والمُغَفَّلينَ؛ فقد كان مَنطِقُ الجاهِلِيَّةِ الأولى:
أَلاَ لاَ يَجْهَلَـنَّ أَحَـدٌ عَلَيْنَـا *** فَنَجْهَـلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِيْنَـا
فَجاءَ دينُ اللهِ تعالى بكمالِ أخلاقِهِ وجمالِ آدابهِ لِيُربيَ المُسلمينَ على قولِهِ تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف: 199].
واستَمعوا إلى الكلامِ النَّفيسِ للشيخِ السَّعديِّ -رحمهُ اللهُ- وهو يشرحُ الآيةَ بما مفادُهُ فيقولُ: "هذه الآية جامعةٌ لحسنِ الخُلُقِ مع الناسِ، وما ينبغي في معاملتِهم، فالذي ينبغي أن يُعامِلَ به النَّاسَ، أن يأخذَ العفو، وهو ما سَهُلَ عليهم من الأعمال والأخلاقِ، وَيشكُرَ من كلِّ أحدٍ ما قَابَلَهُ بِهِ، من قولٍ وفعلٍ جميلٍ، وأنْ يَتجاوزَ عن تَقصِيرِهم ويَغُضَّ طَرفه عن نَقصِهم ولا يتكبَّرُ على صَغيرٍ لِصغَرِهِ، ولا ناقصِ عقلٍ لِنقصِهِ، ولا لِفَقِيرٍ لِفقرِهِ، بل يعاملُ الجميعَ بالُّلطفِ والمُقَابَلَةِ بِما تَنشَرِحُ لُه صُدُورُهم.
(وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) أي: "بكلِّ قولٍ حَسَنٍ وفِعلٍ جميلٍ، وخُلُقٍ كَامِلٍ لِلقرِيبِ والبَعيدِ، من تَعلِيمِ علمٍ، أو حثٍّ على خَيرٍ، أوصِلةِ رَحِمٍ، أو بِرِّ والِدَين، أو إصلاحٍ بين الناس، أو نصيحةٍ نافعةٍ، أو رأيٍ مُصِيبٍ، أو معاوَنَةٍ على بِرٍّ وتقوى، أو زجرٍ عن قبيحٍ، ولمَّا كانَ لا بُدَّ من أذيةِ الجَاهِلِ، فقد أمركَ اللَّهُ تعالى بالإعراضِ عنه وعدمِ مُقَابَلَتِهِ بِجهلِه، فمن آذاكَ بقولِهَ أو فِعلهِ فلا تُؤْذِهِ، ومن حَرَمَكَ فلا تَحرِمه، ومن قطَعَكَ فَصِلْهُ، ومنْ ظَلَمَك فاعدل فيه".
رَحِمَهُ اللهُ على هذه الكلماتِ النَّيراتِ والوصايا النَّافعاتِ فوالله من أَخَذَ بها أخذَ بِحظٍّ وافِرٍ.
وقالَ الإمامُ القُرطُبيُّ -رحمهُ اللهُ- في تفسيرِ (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ): "أي: تَنَزَّه عن مُنازَعةِ السُّفَهاءِ، ومُساواةِ الجَهَلَةِ الأَغبِياءِ".
قالوا سكتَّ وقد خُوصِمتَ قلتُ لهم *** إنَّ الجوابَ لِبَابِ الشَّرِ
مِفتاحُ الصَّمتُ عن جاهِلٍ أو أحمَقٍ شَرَفٌ *** أيضًا وفيه لِصونِ العِرضِ إِصلاحُ
حقَّاً عبادَ اللهِ: الاشتِغَالُ بالرَّدِّ على السُّفهاءِ والجَاهِلينَ، ومُجَارَاتِهم ليسَ فقط مُخِلاًّ بالآدابِ! بل هو مَضيَعَةٌ لِلوقتِ والعُمُرِ، وإساءَةٌ لِلنُّفُوسِ الكَرِيمَةِ الأَبِيَّةِ التي تَتَرَفَّعُ عن مُجاراةِ السُّفهاء والبَطَّالِينَ. والعَاقِلُ أَذكى مِن أن يَنشَغِل بِالرَّدِ على القيلِ والقَالِ! وسيئِ القولِ والفِعالِ! وهل سَلِمَ خَالِقُ النَّاسِ من النَّاسِ؟ وهلَ سَلِم أشرَفُ البَشَرِ من النَّاسِ؟!
فيا مؤمنونَ: أَرْبِعُوا على أنفُسِكم وَهَوِّنُوا عليها ولا تَذهب نَفسُكَ عليهم حَسَرَاتٍ. فللهِ في خَلقِهِ شُئونٌ، ورُبَّ كلامٍ مَشينٍ، أو تَصَرُّفٍ أحمَقٍ، السُّكُوتُ والتَّغاضي أبلغُ علاجٍ لهُ، فقد علَّمتنا مَدرسَةُ مُحمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم- أنَّ الإعراضَ عن الجَاهِلينَ، والصَّفحَ الجَمِيلَ عن المُذنِبينَ مِن أنبلِ الشِّيمِ، وأعلى القِيَمِ! "اذهبوا فأنتم الطُّلَقَاءَ". والمُؤمنون الذينَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ من صِفاتِهم أنَّهم: (إِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) [القصص: 55].
فلا تسمعونَ منَّا إلاَّ الخيرَ، وإنْ رَضِيتم لأَنفُسِكم هذا الخُلُقَ اللئيمَ، فإنَّنا نُنَزِّهُ أنفُسَنا عنه، وَنَصُونُها عن الخَوض في الجهلِ والباطِلِ.وهذا درسٌ عظيمٌ، يُبيِّنُ الفَرْقَ بينَ الفَريقينِ،
إِذَا فَاهَ السَّفِيهُ بِسَبِّ عِرْضِي *** كَرِهْتُ بِأَنْ أَكُونَ لَهُ مُجِيبًا
يَزِيدُ سَفَاهَةً وَأَزِيدُ حِلْمًا *** كَعُودٍ زَادَهُ الإِحْرَاقُ طِيبَا
فاللهم اهدنا لأحسنِ الأعمالِ والأقوالِ والأخلاقِ لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنَّا سيِّئها لا يصرفُ عنَّا ذالكَ إلا أنت.
اللَّهُمَّ أَصلِحْ قُلُوبَنَا، وَاغفِرْ ذُنُوبَنَا، وَاستُرْ عُيُوبَنَا، وحسِّن أخلاقنا، وَاغفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِينَا وَلِجَمِيعِ المُسلِمِينَ، أقولُ ما تَسمعونَ وأستغفرُ اللهَ لي ولكم وللمسلمينَ فاستغفروهُ إنَّهُ هو الغفُورُ الرَّحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانِه، والشُّكرُ له على توفيقِه وامتنانه، أشهَد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهَد أنَّ نبيَّنا محمَّدًا عبدُ لله ورسولُه الدَّاعي إلى جنتِّه ورِضوانِهِ، صلَّى اللهُ وباركَ عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانِهِ وأعوانِهِ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعد: فيا مُسلمونَ، اتَّقوا اللهَ وراقِبوه، وأطيعوه ولا تَعصوه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119].
أيُّها المُسلمونَ: كم رَأينا وسمعنا في هذا الزَّمنِ منَ الإحَن، والخُصُوماتِ، والنُّفْرَةِ والفِتنَةِ بينَ الأزواجِ والإخوانِ، والأقاربِ والجيرانِ، حتى كَثُرتِ القَطِيعَةُ، وتَصرَّمت أَوَاصِرُ القربى.
فيا مُسلمونَ: اتَّقوا اللهَ رَاعوا حَقَّ القَرَابَةِ والرَّحِم، والجِوارِ والدِّينِ، وكُفُّوا عن المُنَازَعَةِ والقَطِيعَةِ، وعَالِجُوا الأُمورَ بِما يَجمَعُ ولا يُفَرِّقُ، ويُقَرِّبُ ولا يُنفِّرُ. فَكُلُّ إنسانٍ لا بُدَّ أَن يُذنِبَ وَيُخطِئَ، ويُقَصِّرَ ويَغفُلَ، فعَنْ أَنَسٍ -رضيَ اللهُ عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ" حسَّنَهُ الألبَانِيُّ.
واللهُ تعالى يُحِبُّ أَن يَغفِرَ المسلِمُ لأخيهِ وَيَعفُوَ عَن صاحِبِهِ، ولا بُدَّ أنْ يَتَّسِعَ صَدرُكَ لمن أساءَ إليكَ! أو جَهِلَ عليكَ، فالعَفُو والحلمُ شِعارُ الصَّالِحينَ الأتقِيَاءِ؛ لأنَّهم آثَروا الآجِلَ على العَاجِلِ! وقَدَّموا رضا اللهِ على حُظُوظِ أنفُسِهم وَرَغَباتِها، وَتَرَفَّعوا عن الدَّنايا.
وصدَقَ زُهيرٌ: وَمَن لا يُكَرِّم نَفسَهُ لا يُكَرَّمِ.
وبالرَّغمِ من ذالِكَ -يا مؤمنونَ- فلا حرجَ على مَظلومٍ أنْ يُدافِعَ عن نَفسِه وأنْ يَنتَصِرَ لِحَقِّهِ كما قالَ المولى جلَّ في عُلاهُ: (لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا)[النساء: 148]. وقالَ تعالى: (وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ) [الشورى: 41]، غيرَ أنَّ عَفوَهُ وحِلمَهُ أَولى وأكرمُ.
ورحمَ اللهُ الإمامَ البُخاريَّ حينَ جعَلَ باباً في كتابِهِ وأسماهُ باب: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)، قالَ: العرفُ المَعرُوفَ.
ثُمَّ ساقً حديثاً في غايةِ الرَّوعةِ يُبيِّنُ فيهِ أخلاقَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه-، حينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ، فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، فَقَالَ عُيَيْنَةُ لاِبْنِ أَخِيهِ: يَا ابْنَ أَخِي، هَلْ لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الأَمِيرِ، فَاسْتَأْذِنْ لِي عَلَيْهِ، قَالَ الْحُرُّ بْنُ قَيْسٍ: سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ، فَاسْتَأْذَنَ لِعُيَيْنَةَ فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ عُيَيْنَةُ: هِيْ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، فَوَاللهِ، مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ، وَلاَ تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ، فَغَضِبَ عُمَرُ، حَتَّى هَمَّ أَنْ يُوقِعَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ)، وَإِنَّ هَذَا مِنْ الْجَاهِلِينَ، فوَاللهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلاَهَا عَلَيْهِ ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللهِ.
اللهُ أكبرُ يا كِرام: هذه أخلاقُ الكبارِ لم يَتَجاوَزِ الآيةَ فقد وقَفَ ذَلِيلاً أَمَامَها، ويَتَبيَّنُ كذالِكَ مَزِيَّةُ الحاشِيةِ الصَّالِحةِ النَّاصِحةِ التي تَربطُ الخُلفاءَ والأُمراءَ بكتابِ اللهِ تعالى.
وروى ابنُ جريرٍ وابنُ أبي حاتِمٍ قالا: لمَّا أنَزَلَ اللهُ، (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ). قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما هذا يا جبريل؟، قال: إنَّ اللهَ أَمَرَكَ أنْ تَعفُوَ عمَّن ظَلَمَكَ، وتُعطِي مَن حَرَمَكَ، وَتَصِلَ مَن قَطَعَكَ".
شَتَمَ رَجُلٌ التَّابِعيَّ الجليلَ ابنَ هُبَيرَةَ -رحمهُ اللهُ-، فَأعرَضَ عنهُ، فقالَ الشَّاتِمُ: "يا هذا إيَّاكَ أَعنِي"، فقالَ ابنُ هُبَيرَةَ: "وعنْكِ أُعرِضُ".
قالَ الإمامُ الشَّافِعِيُّ رحمهُ اللهُ:
إذا سَبَّنِي نَذلٌ تَزايدتُ رِفعَةً *** ما العيبُ إلَّا أنْ أَكُونَ مُسَابِبُهُ
ولو لَمْ تَكُن نَفْسِي عليَّ عَزيزَةٌ *** لَمَكَّنتُها مِن كُلِّ نَذْلٍ تُحارِبُهُ
يا اللهُ إنَّها أخلاقُ الذين يُحبُّونَ الخَيرَ للنَّاسِ، وَيَتَخَلَّقونَ بِأخلاقِ الإسلامِ، إنَّهم عِبَادُ الرَّحْمَنِ: (الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا) [الفرقان: 63]. قالوا سلامًا، ليسَ خَوفًا ولا ضعفًا، بل تَأَدُّبَاً وتَرَفُّعَاً، وطلبا للأجرِ والثَّوابِ، فكانَ جزَاؤهم أنَّهم: (يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا) [الفرقان: 75].
فيا أيُّها المُؤمِنُ: قُل سَلاما لِكُلِّ جاهلٍ، واصفحْ عن كُلِّ مُخطئٍ، فأنتَ أَكبرُ وأعقَلُ، وأعزُّ وأَكرَمُ: (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الزخرف: 89].
فما أحوجنا أنْ نَتوَاصى بهذا الخُلُقِ العظيمِ، ونحنُ نشهدُ عداواتٍ حَلَّتْ بين مُسلِمينَ وبينَ إخوَةٍ في العقيدَةِ والدِّينِ.
فاللهمَّ أعنَّا بمنِّك وكَرَمِكَ على أحسنِ الأقوالِ والأعمالِ والأخلاقِ لا يقدرُ على ذالكَ إلا أنتَ. اللهمَّ اهدنا لِمَا تُحبُّ وتَرضَى، وزيِّنا بِزِينَةِ الإيمانِ والتَّقوى، واجعلنا هداةً مُهتَدِينَ غَيرَ ضَالِينَ ولا مُضلينَ.
اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ وأذلَّ الكفر والكافرينَ ودمِّر أعداء الدينِ واجعل بلدَنا آمنا مُطمئنِّاً وسائِرَ بلادَ المُسلمينَ.
اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا. وفق إخواننا المسلمينَ في كلِّ مكانٍ وهيئ لهم من أمرهم رَشَدا.رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
التعليقات