اقتباس

إنه مهما اشتد سواد الليل ظلامًا، فإنه إلى زوال، وسطوع الفجر قادم لا محالة، ومهما ادلهمت الخطوب، واشتدّت الكروب، وعظمت المصائب، وسُدَّت بوجهك الدروب، فثق بنصر علام الغيوب، كل ذلك متى نصر العباد ربهم، وتمثلوا شرع خالقهم، واتبعوا هدي نبيهم، ورسخ اليقين في قلوبهم، ووثقوا في قوله: (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ)..

طال به الزمان انتظارًا، وقرّبت به الأعمار آجالاً، شارف على توديع الحياة الفانية وعلامات عدم إمكانية الحدوث ظاهرة علانية؛ إذ لا مؤهلات لديه في حصول ما يريد؛ فعظم عليه الأمر، واشتد به الخطب، فلا يريد بموته أن ينتهي ميراثه؛ لا أقول: ميراث المال والجاه؛ بل ميراث العلم والدين ومكتسب القيم والفضائل، كما لا يحب بزواله طي دعوته وانقطاع فضائله؛ بل يتمنى أن لو كان له من بعده من يحمل دعوته وينقل عنه رسالته.

 

إن يقينًا في قلبه، وشعورًا في فؤاده، وآمالاً تجول في خواطره، كل ذلك يهمس في أذنيه أنه لا راد لأمره، ولا كابح لمشيئته؛ فما شاء الله كان، وإذا شاء أمرًا أنفذه، أو أراد شيئًا أمضاه، لا ترده الأسباب، ولا تعيقه المسببات.

 

هذا ما يؤمن به جازمًا، ولا يشك فيه دائمًا، رغم وجود سنن المنع الإلهية المعروفة كما ذكرها بنفسه، لكن للعين طريقها في الإقناع، وللمشاهدة الحية سبيلها في التأثير والإيقاع؛ إذ قد سأل ربه مِنْ قبله من أُمرنا له بالاتباع أن يريه عملية إحياء يرقبها لحظة بلحظة، ويشاهد خلقها خطوة خطوة، إبراهيم -عليه السلام-: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)[البقرة:260]؛ فإيمانهم القوي ويقينهم الراسخ الذي يملكونه باعثه سلامة الفطرة وامتثال الخبر والاستجابة للوحي، لكن أن يروا حدوث ذلك ساعة خلقها فلم يكن لهم.

 

لقد رأى هذا النبي ما لم يكن في الحياة البشرية الطبيعية، وما يتعارض مع ما يعرفه من السنن الكونية، وما ذاك؟! طعام يأتي لمكفولته مريم في غير وقته، يصل إليها رغم الموانع، فكل شيء يأتيها لا يكون إلا عن طريقه، كما أن أبوابها مغلقة، وإلا لما استغرب ذلك، ويتكرر المشهد مرارًا ويزداد غرابة، فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء، تأتي به ملائكة الرزاق من الجنة، فلم يصبر حتى استفهم عن مصدر ذلك (أَنَّى لَكِ هَذَا)[آل عمران: 37].

 

إنها كرامات الأولياء للنبت الحسن، وهذه الكرامات وما هو أعظم منها من معجزات الأنبياء ليست عن عبده زكريا ببعيد، بل هو أعظم ولاية وأولى كرامة.

 

لقد ذكرته مريم -عليها السلام- ببديهيات هي في قلبه؛ إذ عبرت أن الإله قادر أن يعطي من يشاء من عباده من غير أسباب أو مقدمات: (قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)[آل عمران: 37]؛ فأيقظت في نفسه شعورًا وولدت لديه إحساسًا وسؤالاً داخليًّا، كيف فاتني ذلك؟! فأوقد ذلك المشهد فيه طمعًا ورغبة في سؤال الله تعالى ما يتمناه.

 

في اللحظة نفسها وفي الوقت ذاته قام في محرابه وفزع إلى صلاته لتكون له وسيلة معراج إلى ربه سبحانه، فرفع يديه واستحضر قلبه واستجمع فكره واستقبل ربه، فناداه نداء الواثق لمن يحقق أمله، ودعاء الراجي لمن يجيب طلبه؛ نداء بلا واسطة ولا حرف نداء، ومناجاة خفي صوتها على من حوله؛ لكنّ من يعلم السر أدرك حاجته وسمع همسه، وقد قدم بين دعائه أعذاره، فشيب رأسه اشتعل، والعظم منه انحنى، وأصابه الضعف والهزل، وعمر الإنجاب منه ولى وارتحل، وزوجة مسنة، وعقم بها تحدى وتزمل، ولسان حاله: أسباب الإنجاب كل ذلك يا رب تعطل.

 

لكنّ النبي الكريم مع هذا لم يزل يتذكر لطف ربه به ولم ينس إحسانه عليه؛ إذ لم يخب يومًا في دعوة، ولم يرد يومًا في طلب: (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا)[مريم: 4]، لسان حاله: فكما عودتني رب في قوتي وحال فتوتي، فرجائي فيك أشد في حال ضعفي وشيخوختي.

 

لم يطل الوقت ولم يتأخر الجواب، ولم يخرج من محرابه الذي عرض فيه طلبه، بل ربما لم ينزل يديه التي رفعهما حتى سمع الرد بفاء التعقيبية العاجلة: (فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ)[آل عمران: 39]، جاءته البشرى.

 

أحيانًا تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، كما وقع لامرأة عمران حيث تمنت أن يكون ما في بطنها ذكرًا تهبه لخدمة المسجد المقدس، ولكن لم يكن ذكرًا، بل كانت أنثى: (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى)[آل عمران : 36]، أما المبشر به هنا فقد كان وفق الطلب، بل زاده الله صفات كمال وجمال لم تكن ضمن مناجاته: (أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ)[آل عمران: 39].

 

إنه فيض الكرم الإلهي الذي أعطاه من فضله، ومنحه من كرمه، وزاده على طلبه أن سماه يحيى ليصبح يحي اسماً ومعناً، ولا يفهم أن الموت لن يشمله، بل سيموت، لكنْ شهيدًا، لتلازمه الحياة على ظهر الدنيا وبطنها كما قال سبحانه: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ)[البقرة:154].

 

وعند البشرى تأتي الغرابة ويحصل العجب ليتساءل عن الوسيلة التي سيتم من خلالها تحقيق البشرى (مجيء الولد) مع انعدام مؤهلات الإنجاب كما أسلفنا، جازمين أنه لم يكن ليستبعد شيئًا على الله أو يستدرك على قدرته، وإنما طمعًا في إدراك الوسيلة التي سيأتي منها الولد.

 

يجيب الواهب -سبحانه- داعيه، مبينًا أنّ ما كان مستحيلاً عند الخلق ومستبعدًا في عقولهم لا يعني استحالته على القدير سبحانه مثل هذا العطاء وأعظم وأقل منه: (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ)[مريم:9]، كما لفت الرب انتباهه إلى خلقه نفسه؛ حيث لم يكن شيئًا مذكورًا: (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا)[مريم:9]، بل أين كانت البشرية كلها والمخلوقات جميعها والكائنات عمومًا قبل حدوثها؟! كلها لم تكن وهي حادثة الوجود.

 

ومن هنا ندرك -إخواني- أن مَنْ خلق الخليقة وبَرَأ البرية على غير مثال سابق قادر وهينٌ عليه أن يهب ما يشاء من أبوين افتقدا إلى أسباب الإنجاب كما في قصتنا هذه، ونظيرتها قصة إبراهيم -عليه السلام-؛ فقد كانت بشرى الملائكة له بالولد على كبر منه ومن زوجته باعثًا لغرابة زوجته: (يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ)[هود:72]، كما هو هين عليه أن يهب لأم من غير زوج كعيسى -عليه السلام- من غير أب: (قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا)[مريم:20].

 

وقد كان في حملها به فتنة لبعض الجهلة الذين لم يدركوا عظمة الخالق البالغة وقدرته الباهرة؛ فاستغربوا حدوثه؛ ما شككهم ذلك في براءة مريم -عليها السلام-، فدحض الله شبهتهم وطهر العذراء بقوله: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)[آل عمران:59].

 

وبعد هذه الإطلالة السريعة والجولة المختصرة، ما أجدرَ بك -أيها الأخ- مع هذه الآيات أن تفيض على نفسك يقينًا، وتمير على قلبك ثقة بأن الله لديه القدرة المطلقة على تغيير حالك الذي سخطته، وكربك الذي حملته، وفقرك الذي مللته، وضعفك الذي سئمته، فارسم لوحة يقين، وانقش فيها "هُوَ عَلَيْهِ هَيِّنٌ".

 

كما وددت أن يكون في هذه الكلمات تحديث ليقين المسلمين عمومًا، من تضاعفت آلامهم، وتتابعت نكباتهم، وساءت أحوالهم، وضاقت عليهم أنفسهم، وتخطفتهم أيادي أعدائهم، وقل ناصرهم، أن يتذكروا: (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ)؛ فهو وحده من بيده تبديل هذا الواقع المؤلم الذي نعيشه، وهذه النكسات المتتالية والجراحات المثخنة، وبلدان المستضعفين المنكوبة، وصولات الأعداء المهيمنة، وتغيير ذلك إلى نصر وعزة وتمكين ورفعة، وما ذلك على الله بعزيز.

 

إنه مهما اشتد سواد الليل ظلامًا، فإنه إلى زوال، وسطوع الفجر قادم لا محالة، ومهما ادلهمت الخطوب، واشتدّت الكروب، وعظمت المصائب، وسُدَّت بوجهك الدروب، فثق بنصر علام الغيوب، كل ذلك متى نصر العباد ربهم، وتمثلوا شرع خالقهم، واتبعوا هدي نبيهم، ورسخ اليقين في قلوبهم، ووثقوا في قوله: (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ).

 

نسأل الله أن يلبسنا العزة بعد الذلة، وأن يكسبنا النصر بعد الهزيمة، والجمع بعد الشتات، والقوة بعد الضعف، والغنى بعد الفقر، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life