اقتباس
والشاطبي لا يترك الأمر فوضى بل يضبطه بجملة من الضوابط فيقول: " وَضَابِطُهُ أَنَّكَ تَعْرِضُ مسألتك على الشريعة، فَإِنْ صَحَّتْ في ميزانها فانظر في مَآلِهَا بالنسبة إلى حال الزمان وأهله، فَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ ذكرها إلى مفسدة فاعرضها في ذهنك على العقول، فَإِنْ قَبِلَتْهَا فَلَكَ أَنْ تتكلم فيها، إما على العموم إن كانت مما تقبلها العقول على العموم، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم، وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية) (الموافقات 5-172).
إِذا كان قد استقر في أذهان العالمين قديما أَنَّ الْيَدَ لِلْبَطْشِ وأَنَّ الرِّجْلَ لِلْمَشْيِ، فإِنَّ الأمر في-عالمنا المعاصر-لم يَعُدْ كذلك، بعد أَنْ استراحت الثانية مِنْ عَنَاء المشي وأوكلت مهمتها للْأُولَى، ليصبح الأمر: اليَد لِلْبَطْشِ وأحيانا لِلْمَشْيِ، فبضغطة واحدة على زر " الريموت" ينتقل الإِنسان- أيا كان مستواه - مِنْ عالم إلى آخر مخالف في التاريخ والجغرافيا والزمان والمكان، الأمر الذي صَعَّبَ على الدعاة مهمتهم، وحَتَّمَ عليهم أَنْ يختاروا موضوعا مناسبا يصلح للعامة والخاصة من حيث المضمون والأسلوب، وبناء على ذلك أصبح من غير اللائق بعالم أو داعية أَنْ يتحدث عن قضية اجتهادية لم يحسمها السلف حتى اللحظة ولا يصلح الحديث عنها إلا في ساحات الجامعات وأماكن البحث، ومما يزيد الطِّينَ بِلَّة أَنْ يذكر المتحدث موقف المخالفين له في الرأي مِن المعاصرين ويُسَمِّيهِم بأسمائهم على سبيل الذم والقدح.
كما أَنَّه ليس من الفقه في شيء أَنْ تدور رحى خلاف طاحن بين دعاة -كل منهم ينتسب إلى منهج السلف الصالح -، ليس عن نازلة معاصرة كنقل الأعضاء وتأجير الأرحام و إِنَّمَا حول مسألة تتعلق بأسماء الله الحسنى وصفاته، وكَأَنَّ الأمر غاب عن السلف أصحاب القرون الثلاثة المفضلة، ثم تَذَكَّرَه الخلف ليعيدوا اكتشافه مِنْ جديد تزامنا مع اكتشافات آبار النفط والغاز الطبيعي في بعض البلدان!!
دارت بي رأسي وأنا استمع إِلى مثل هذه القضايا، وتذكرت أعداء الله كيف يخططون في هدوء ويزيلون خلافتهم –دقيقها وجليلها- ليجتمعوا علينا ؟ وتذكرت قول القرطبي فى التفسير: " وَفِيهِ أَنَّ حَفْر الْخَنْدَقِ يكون مَقْسُومًا على النَّاسِ، فَمَنْ فَرَغَ مِنْهُمْ عاون مَنْ لَمْ يَفْرُغْ، فالمسلمون يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ "، وقول القرطبي " وهم يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ " جزء من حديث صحيح، فهو من كلام النبي المعصوم، ألا ما أطيبه من كلام !
- كان ينبغي على مشايخنا وإِخواننا الذين تلبسوا بهذا الأمر أَنْ يعكفوا على مُحْكَمَاتٌ الشريعة - وما أَنْفَعهَا من مُحْكَمَات!- فيبينونها للناس في عبارة يسيرة مجردة عن التفريعات والتأصيلات والقيل والقال، ففي المحْكَمَات غُنْيَةٌ وكفاية وحماية للمقتصد، ومجال واسع رَحْبٌ ثَرٌّ غَزِيرٌ مِدْرَارٌ للمجتهد، قال شيخ الإسلام : والواجب أمر العامة بالجمل الثابتة بالنص والإجماع ومنعهم من الخوض في التفصيل الذي يوقع بينهم الفرقة والاختلاف فإن الفرقة والاختلاف من أعظم ما نهى الله عنه ورسوله. "مجموع الفتاوى" ص (12-237).
وقال أيضا إِنَّ جمهور مسائل الفقه التي يحتاج إليها الناس ويفتون بها هي ثابتة بالنص أو الإجماع، وإنما يقع الظن والنزاع في قليل مما يحتاج إليه الناس، وهذا موجود في سائر العلوم، وَكَثِيرُ مَسَائِلِ الخلاف هي في أمور قليلة الوقوع ومقدرة، وأما ما لا بد للناس منه من العلم مما يجب عليهم ويحرم ويباح فهو معلوم مقطوع به"مجموع الفتاوى : (13/ 118).
- وكان ينبغي عليهم أيضا أَنْ يدركوا أَنَّه ليس كل ما يُعلَم يُقال، وليس كل ما يُقال في مكان وزمان يقال - هو نفسه - في مكان وزمان آخر، فالمتحدث الحصيف يحرص على عدم جر مشاهديه إلى ما يشكل عليهم أو يساء فهمه أو لا يعود عليهم بالنفع في دينهم أو دنياهم، وهذا المسلك من علامات الفقه ومن مقتضيات الرَّبَّانِيَّةِ المشار إليها في قوله تعالى: " وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ "، أي علماء حكماء معلمين للناس ومربيهم، والربانيون واحدهم رباني منسوب إلى الرب. والرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، وكأنه يقتدي بالرب سبحانه في تيسير الأمور، وَالْمُرَادُ بِصِغَارِ الْعلم مَا وضح من مسَائِله وبكباره ما دَقَّ مِنْهَا.
"وَقَدْ ذَكَرَ العلماءُ هَذَا الْمَعْنَى فِي كُتُبِهِمْ وَبَسَطُوهُ بَسْطًا شَافِيًا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وإِنما نبَّهنا عَلَيْهِ لأَن كَثِيرًا مِمَّنْ لَا يَقْدُر قدرَ هذا الموضع يَزِلّ فيه، فيحدِّث النَّاسَ بِمَا لا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ، وهو على خِلَافِ الشَّرْعِ وما كان عليه سَلَفُ هذه الأُمة". الاعتصام للشاطبي (2/ 314).
وَقَدْ تَرْجَمَ عَلَى ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ (في كتاب العلم من "صحيحه") فَقَال: " بَابُ مَنْ خَصَّ بِالْعِلْمِ قَوْمًا دُونَ قَوْمٍ كَرَاهِيَةَ أَن لَا يَفْهَمُوا " ثُمَّ أَسند عَنْ عليِّ بْنِ أَبي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنه قَالَ: " حَدِّثوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ، أَتُحبّون أَن يُكَذَّب اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟ "
قال الحافظ ابن حجر :
"والمراد بقوله: " بما يعرفون " أي يفهمون. وفي رواية " ودعوا ما ينكرون " أي يشتبه عليهم فهمه. وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة. وممن كره التحديث ببعض دون بعض: أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان، ومالك في أحاديث الصفات، وأبو يوسف في الغرائب، ومن قبلهم أبو هريرة....) فتح الباري (1/ 225)
- وروى مسلم في مقدمة صحيحه عن ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: " مَا أَنت بمُحَدِّثٍ قَوْمًا حَدِيثًا لَا تَبْلُغُهُ عُقُولُهُمْ إِلا كَانَ لِبَعْضِهِمْ فِتْنَةً "
- وممن استوعبوا المسألة -مناقشة وبحثا واستدلالا- الإِمام الشاطبي في أكثر من موضع من كتابيه الموافقات والاعتصام، فنجده يؤكد على المربي" أن لا يَذْكُرَ لِلْمُبْتَدِئِ مِنَ الْعِلْمِ مَا هُوَ حَظُّ المنتهي، بل يربي بصغار العلم قبل كباره، وقد فَرَضَ العلماء مسائل مما لا يجوز الفتيا بها إن كانت صحيحة في نظر الفقه.
.... وقد ضرب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - صَبِيغًا وَشَرَّدَ به لَمَّا كان كثير السؤال عن أشياء من علوم القرآن لا يتعلق بها عمل، وربما أوقع خبالا وفتنة، وإن كان صحيحا. . . إِلَى غير ذلك مِمَّا يَدُلُّ على أَنَّهُ ليس كُلُّ عِلْمٍ يُبَثُّ وَيُنْشَرُ وإِنْ كان حَقًّا، وقد أَخْبَرَ مَالِكٌ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّ عنده أَحَادِيثَ وعِلْمًا ما تَكَلَّمَ فيها ولا حَدَّثَ بها، وكان يَكْرَهُ الكلام فيما ليس تَحْتَهُ عَمَلٌ، وَأُخْبِرَ عَمَّنْ تَقَدَّمَهُ أَنَّهُمْ كانوا يَكْرَهُونَ ذلك، فَتَنَبَّهْ لِهذا الْمَعْنَى". الموافقات (5/ 170).
والشاطبي لا يترك الأمر فوضى بل يضبطه بجملة من الضوابط فيقول: " وَضَابِطُهُ أَنَّكَ تَعْرِضُ مسألتك على الشريعة، فَإِنْ صَحَّتْ في ميزانها فانظر في مَآلِهَا بالنسبة إلى حال الزمان وأهله، فَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ ذكرها إلى مفسدة فاعرضها في ذهنك على العقول، فَإِنْ قَبِلَتْهَا فَلَكَ أَنْ تتكلم فيها، إما على العموم إن كانت مما تقبلها العقول على العموم، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم، وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية) (الموافقات 5-172).
وفي خاتمة بحثه في موضع آخر يوجه انتقادا لاذعا لمن يسلك هذا المسلك، ويرى أنه في حاجة إلى عالم يُرَبِّيهِ فيقول: " ويتصور ذلك فيمن يتبجح بذكر المسائل العلمية لمن ليس من أهلها، أو ذكر كبار المسائل لمن لا يحتمل عقله إلا صغارها، على ضد التربية المشروعة، فمثل هذا يوقع في مصائب، ومن أجلها قال علي: حدثوا الناس بما يفهمون..، وقد يصير ذلك فتنة على بعض السامعين، حسبما هو مذكور في موضعه من هذا الكتاب...فلا يصح للعالم في التربية العلمية إلا المحافظة على هذه المعاني، وإلا لم يكن مُرَبِّيًا، واحتاج هو إلى عالم يُرَبِّيهِ". "الموافقات" (1/ 124)، قلت : هذا في زمان الشاطبي (المتوفى: 790هـ) فما عساه يقول لو رأى زماننا !!
ولَمَّا طعن بعض المغرضين في شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وكان من جملة ما شنعوا به عليه أنه يحدث الناسَ بدقائق المسائل التي لا تتحملها عقولهم ؛ ردّ رحمه الله عن نفسه هذه الفرية قائلًا:
"وأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ: لا يَتَعَرَّضُ لأحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَآيَاتِهَا عند الْعَوَامِّ: فأَنا ما فاتَحْت عَامِّيًّا في شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قَطُّ " مجموع الفتاوى (5/ 266).
ويُقَدِّمُ الإِمام الغزالي خلاصة تجربته في هذا الأمر فيقول:"وأما الخلافيات التي أحدثت في هذه الأعصار المتأخرة وأبدع فيها من التحريرات والتصنيفات والمجادلات ما لم يعهد مثلها في السلف فإياك وأن تحوم حولها واجتنبها اجتناب السم القاتل فإنها الداء العضال، وهو الذي رد الفقهاء كلهم إلى طلب المنافسة والمباهاة ...، فاقبل هذه النصيحة ممن ضيع العمر فيه زمانا، وزاد فيه على الأولين تصنيفا وتحقيقا وجدلا وبيانا، ثم ألهمه الله رشده وأطلعه على عيبه فهجره واشتغل بنفسه، "احياء علوم الدين" ص (1/41).
وأَخِيرًا ينبغي أَنْ يدرك مشايخنا أَنَّ جمهورهم متنوع الثقافة، متعدد العادات والطبائع، مختلف الأعمار، كما أَنَّ منهم طائع لم تلوث فطرته بكبيرة أوشبهة، ومنهم مُحْسِنٌ ومنهم ظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ.
التعليقات