اقتباس

والعجيب والأغرب أنه لما كان القرار ليس بيدك لماذا الغفلة عن الله والتفريط في حقه؟ ولماذا التكاسل في طاعته والتواني في قربه؟ ما الذي غرك بربك حتى نسيته وقد كان الأصل أن تحث السير إليه وتسرع الخطى وترتقب البشير أو النذير إما إلى جنة وإما إلى سعير ؟!.

كل العباد قد جرى عليهم حكم الإعدام قبل أن يخلقوا إلى هذه الدنيا، وسُطر ذلك في كتاب لا يذبل ولا ينتهي، وقبل ذلك في علم ربي السابق الذي لا يضل ولا ينسى سبحانه، قال ربي تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)[الرحمن: 26، 27]، وفي حديث رسول الله -عليه الصلاة والسلام- ما يؤكد هذا كما في قوله -عليه الصلاة والسلام-: "...ثم يبعث الله ملكًا فيؤمر بأربعة: برزقه وأجله، وشقي أو سعيد". [البخاري: (6594)].

 

وما بقي سوى التنفيذ بهذا الحكم المغيب، ولا ندري في أي يوم سيكون ولا في أي ساحة سيقام.

 

وهذا الحكم الحتمي العام والقضاء النافذ المطلق الذي لا ريب فيه لم يُخص به مخلوق دون آخر، بل كل نفس منفوسة -الملك المقرب والنبي المرسل والعبد الصالح والعبد الشقي الطالح وغيرهم- ليبقى بعد ذلك الملك والحياة والقيومية لله وحده، وهنا تظهر قمة العدل الإلهي سبحانه في شمولية هذا الحكم الصادر من محكمة العدل الإلهية لكل الكائنات وكافة المخلوقات؛ قال الله -تعالى-: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)[العنكبوت: 57].

 

هو الموت ما منه ملاذ ومهرب *** متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب

 

نشاهد ذا عين اليقين حقيقة ***  عليه مضى طفل وكهل وأشيب

 

ونبني القصور المشمخرات في الهوا *** وفي ظننا أنا نمـوت وتخــرب

 

 

 

فإذا كان إعدامنا حتمًا محققًا، وأكبر من هذا أنه مجهول الوقت والزمان والمكان، فهذا يحتم علينا أن نكون على استعداد تام وجاهزية تامة؛ إذ نحن أحرى من أي إنسان جنى على نفسه جناية فحكم عليه بالإعدام في محكمة دنيوية قد حدد له فيها الزمان والمكان، وعلَّك تسأل: كيف سيكون حاله بعد أن أدرك مصيره وعرف قراره!!

 

وهذا ما لفت انتباهنا إليه -عليه الصلاة والسلام- في وصيته لابن عمر -رضي الله عنهما- بقوله له: "يا ابن عمر: إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح". [البخاري: (6416)].

 

ومن هنا ندرك ويدرك الجميع أيًّا كانت منزلته ومكانته وحجمه ومكانه أن القرار ليس بيده، وأن الأمر خارج السيطرة والتحكم، والحكم لا تأخير فيه ولا يقبل فيه شفاعة ولا يرجى فيه تعديل، شعاره دائمًا ومنصوص على قائمته قول : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ)[الأعراف: 34].

 

والعجيب والأغرب أنه لما كان القرار ليس بيدك لماذا الغفلة عن الله والتفريط في حقه؟ ولماذا التكاسل في طاعته والتواني في قربه؟ ما الذي غرك بربك حتى نسيته وقد كان الأصل أن تحث السير إليه وتسرع الخطى وترتقب البشير أو النذير إما إلى جنة وإما إلى سعير؟!.

 

أليس لك في جواب إبراهيم بن أدهم موعظة وذكرى واستعدادا لدار هي خير من الأولى! يوم جاءه رجل فقال له يا أبا إسحاق إني مسرف على نفسي فأعرض علي ما يكون لها زاجرا ومستنقذا لقلبي قال إن قبلت خمس خصال وقدرت عليها لم تضرك معصية ولم توبقك لذة.

قال هات يا أبا إسحاق.

قال أما الأولى فإذا أردت أن تعصي الله عز وجل فلا تأكل رزقه قال فمن أين آكل وكل ما في الأرض من رزقه قال له يا هذا أفيحسن أن تأكل رزقه وتعصيه قال: لا، هات الثانية قال: وإذا أردت أن تعصيه فلا تسكن شيئا من بلاده قال الرجل هذه أعظم من الأولى يا هذا إذا كان المشرق والمغرب وما بينهما له فأين أسكن قال يا هذا أفيحسن أن تأكل رزقه وتسكن بلاده وتعصيه قال: لا، هات الثالثة: قال إذا أردت أن تعصيه وأنت تحت رزقه وفي بلاده فانظر موضعا لا يراك فيه مبارزا له فاعصه فيه قال يا إبراهيم كيف هذا وهو مطلع على ما في السرائر قال يا هذا أفيحسن أن تأكل رزقه وتسكن بلاده وتعصيه وهو يراك ويرى ما تجاهره به قال: لا، هات الرابعة قال: إذا جاءك ملك الموت ليقبض روحك فقل له أخرني حتى أتوب توبة نصوحا وأعمل لله عملا صاحلا قال لا يقبل مني قال يا هذا فأنت إذا لم تقدر أن تدفع عنك الموت لتتوب وتعلم أنه إذا جاء لم يكن له تأخير فكيف ترجو وجه الخلاص قال هات الخامسة قال: إذا جاءتك الزبانية يوم القيامة ليأخذونك إلى النار فلا تذهب معهم قال لا يدعونني ولا يقبلون مني قال فكيف ترجو النجاة إذا قال له: يا إبراهيم حسبي حسبي أنا أستغفر الله وأتوب إليه ولزمه في العبادة حتى فرق الموت بينهما.

 

وأعظم شاهد من سياق هذه الموعظة البليغة قوله: "إذا جاءك ملك الموت ليقبض روحك فقل له أخرني حتى أتوب توبة نصوحا وأعمل لله عملا صاحلا ."

 

إن لك أخي في هذه تذكرة وعبرة وفي كلماتها دعوة للفرار إلى مولاك ونفرة !! فوقّف نفسك على المسير وارفع يديك وناجي ربك وقل:

إلهي لست للفردوس أهلا*** ولا أقوى على نار الجحيم

 

فهب لي توبة واغفر ذنوبي*** فإنك غافر الذنب العظيم

 

ولعلك تلحظ حين تمعن النظر وتديم التأمل في كل الآيات التي وردت بهذه الصيغة وحول هذا الأمر أنه يقدم التأخير على التقديم؛ لأن هذا ما يحصل وهذا ما يكون من العبد المفرط وفي صور كثيرة تحدث القرآن عنها منها قوله: (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ)[المؤمنون: 99-100]، وهذا ما لا يكون له رد من الله تعالى ولا تجاوب معه إلا بقوله: (كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)[المؤمنون: 100]، وقوله في موضع آخر: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ)[فاطر: 37].

 

ولأنه سبحانه اللطيف بمن خلق الخبير بأحوالهم يعلم من عباده أنهم لو أعطيت لهم فرصة وفرص كثيرة لما تذكروا ولما استعتبوا، بل سيظلون في غيهم يعمهون، وفي ضلالهم يترددون؛ كما أخبر الله عنهم مسبقًا: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)[الأنعام: 28].

 

فدعوة لنا جميعًا بالتحضير المسبق للقاء مشرِّف ولجواب صحيح وافٍ يبشر بخير ويرجى من ورائه سعادة الأبد، مع الأنبياء والمرسلين والشهداء وصحبة النبي الكريم محمد؛ وذلك قبل أن يسدل الستار، وتنزل الحجب، وتغلق السوق، وتكسد البضائع، ويقفل الباب، وينادي المنادي بموعد الرحيل، وبعد أن انتهت فترة البقاء والظلال تحت شجرة الدنيا، فأي نازل إلى الدار الآخرة ستكون! وأي رحلة ستقطعها! وعقبة كئود ستتجاوزها! وما الزاد الذي سينفعك! وأي وسيلة نقل ستنقلك؟!

التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life