عناصر الخطبة
1/ أمر الله بطاعته وطاعة رسوله -صلى الله عليه وسلمَ- ووجوب ذلك 2/ نماذج رائعة في سرعة تنفيذ أمر الله وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلمَ- 3/ صور معاصرة في الطعن في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- 4/ التحذير من الطعن في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- 5/ التحذير من دعاة تمييع الديناهداف الخطبة
اقتباس
لقد كان هذا التنفيذ العجيب من صحابة النبي -صلى الله عليه وسلمَ- للأوامر فرديا وجماعيا، بل كان هذا التنفيذ ينطوي على فقه عظيم، واسمع معي إلى هذه الحادثة العجيبة التي تبين لك فقههم رَضي الله عنهم في دقتهم لتنفيذ الأوامر...
الخطبة الأولى:
الحمد الله الأول الآخر، الظاهر الباطن، أحمده -سبحانه وتعالى- وأستغفره وأتوب إليه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حيٌ دائمٌ لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله الهادي إلى أقومِ سبيل، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الحشر الكبير.
أما بعد:
عباد الله: فإن الله -سبحانه وتعالى- أمرنا بطاعته وطاعةِ نبيه -صلى الله عليه وسلمَ- في أكثرَ من موضعٍ في كتابه الكريم؛ فقال جل وعلا: (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [الأنفال: 1].
وجعل طاعته وطاعةَ نبيه -صلى الله عليه وسلمَ- فرضا مؤكدا؛ فقال: (مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ) [النساء: 80].
ونبه سبحانه إلى أن كمال الانقيادِ لا يكون إلا بالطاعة والتنفيذ والتسليم له عليه الصلاة والسلام فقال: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) [النساء: 65].
وعلق سبحانه وعلا الفوز العظيم لمن أطاعه وأطاع رسوله -صلى الله عليه وسلمَ- فقال: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 71].
وأكد أن حصول الرحمةِ متحققةٌ فيمن أطاعه وأطاعَ رسوله -عليه الصلاة والسلام- فقال: (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [آل عمران: 132].
وحث سبحانه على أهميةِ الاستجابةِ لله ورسوله، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ) [الأنفال: 24].
ورهب وخوف من معصيته ومعصية نبيه -صلى الله عليه وسلمَ-، فقال: (وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ) [النساء: 14].
وحكم سبحانه بالضلال المبين على من خالف أمره وعصاه؛ فقال: (وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا) [الأحزاب: 36].
وتوعده بالفتنة وزيغِ القلب؛ فقال: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63].
عباد الله: إن أمر الطاعة لله -تعالى- ولرسوله -صلى الله عليه وسلمَ- ينبغي أن تكون في حسِّ الإنسان المسلمِ وحياته واقعا مقررا لا يمكنُ تركه ولا المحيدُ عنه؛ لأن الأصل في هذه الطاعةِ الوجوب: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) [الأحزاب: 36].
أيها المسلمون: ولقد حفل التاريخ بأمثلة عظيمة لهؤلاء المنفذين للأوامر، المطيعين لله ورسوله -صلى الله عليه وسلمَ-، والأمرُ إذا جاء ووقع كان لا بد لزما من التنفيذ، وقد تقبل الأوائل من الأنبياء والرسل والصالحين هذه الأوامر، يقول صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- أبو بكر -رضي َالله عنه-: "لست تاركا شيئا كان رسولُ الله -صلى الله عليه وسلمَ- يعمل به إلا عملت به، فإني أخشى إنْ تركت شيئا من أمره أن أزيغ".
ولم يرض ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- معارضةَ قولِ النبي -صلى الله عليه وسلمَ- بأي قول وإن كان قول العمرين، يقول رضي َالله عنه: "يوشك أن تنزل عليكم حجارةٌ من السماء، أقول لكم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- وتقولون قال أبو بكر وعمر".
ويرغب النبي -صلى الله عليه وسلمَ- في الجنة، فيمن يأتيه بخبر القوم في غزوة الخندق، فيقول: "من يأتيني بخبر القوم وله الجنة؟".
والشدة والخوف والبرد والجوع والحصار يحيط بالصحابة الكرام -رضي َالله عنهم-، فلما لم يقم أحد قال عليه الصلاة والسلام: "قم يا حذيفة"، فما كان منه إلا أن قام؛ لأن الأمر انتقل من الترغيب إلى الأمر، فلما أن كان في البداية ترغيبا ووعدا منه أنه صاحبه في الجنة أصبح الأمرُ الآن واجبا على حذيفة أن يقوم، فقال: "قم يا حذيفة، واتينا بخبر القوم، ولا تذعرهُم علي"، قال حذيفة -رَضي الله عنه-: "فلم أجد بُدا إذ دعاني باسمي أن أقوم، فقام يمشي، ومن كرامة الله له أصبح وكأنه يمشي في حمامٍ من الدفء مع شدةِ البرد الذي كانوا فيه طيلة ذهابه لتنفيذ الأمر ورجوعه إلى النبي -صلى الله عليه وسلمَ-، فوصل إلى معسكر القوم وجلس إليهم ودنا من زعيمهم أبي سفيان، قال حذيفة: فوضعت سهما في كبدي قوسي لأرميه، ولو رميته لأصبته، لكني تذكرت النبي -صلى الله عليه وسلمَ- ونهيه لي، فأرجعت سهمي في كنانتي، إنها الطاعة والانقياد.
عباد الله: ما رأيكم في المجتمع المسلم إذا كان مدمنا على الخمر؟ ماذا تقولون في أناس من العرب درجوا على الخمر أجيالا يشربونها، تجري في دمائهم كما الدم يجري؟ ثم يأتي الأمر بعد مدة من الزمن أن يجتنبوا هذه الخمرة وينتهوا عنها ولا يشربوها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ) [المائدة: 90 - 91]، يقول أنس -رَضي الله عنه-: "أمرَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلمَ- مناديا ينادي: ألا أن الخمر قد حرمت، فقال لي أبو طلحة: اخرج فانظر ما هذا الصوت؟ فخرجت فقلت: هذا منادٍ ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت، فقال لي: اذهب فأهرقها، قال أنس: فجرت في سكك المدينة" (رواه البخاري ومسلم) وفي رواية: "قال أبو طلحة: يا أنس قم إلى هذه الجرار فاكسرها، قال : فقمت إلى مِهراس لنا، فضربتها بأسفله حتى انكسرت"، وفي رواية لمسلم: "قال: قم يا أنس فأرق هذه القلال، قال: فما راجعوها ولا سألوا عنها بعد خبر الرجل".
الله أكبر! إنه الانقياد والتسليم لأمر الرسول -صلى الله عليه وسلمَ- فما راجعوها ولا سألوا عنها بعد خبر الرجل، لم يكن هناك توسلاتٌ وإعفاءاتٌ واستثناءاتٌ وفترة تأجيلية حتى يتعودوا على هذا الأمر، لا، لقد كُسرت تلك العبوات، وشقت تلك الأوعية، وسُكبت في شوارع المدينة إنفاذا لهذا الأمر النبوي.
عباد الله: لقد كان مجتمع الصحابة -رضي َالله عنهم- مجتمعا إسلاميا حقيقيا منضبطا على مستوى الذكورة والأنوثة، على مستوى الرجل والمرأة، فلم يكن تنفيذُ الأوامر خاصا بالرجال فقط، تقول أم سلمةَ -رضي َالله عنها-: "لما نزلت آية: (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ) [الأحزاب: 59] خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من الأكسية" (رواه أبو داود)، وروى البخاري عن عائشة -رَضي الله عنها- قالت: "يرحم الله نساءَ المهاجرات الأول، لما أنزل الله: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) [النور: 31] شقّقّن مروطَهن فاختمرن بها".
إنه كساء واحد فقط، والمرأة تريد حجابا للرأس فورا؛ لأنه لا وقت لها في تفصيل أحجبة للرأس؛ لأن القضية تكمن في التنفيذ، وهذا التنفيذ لا يحتمل التأخير، وتصوِرُ عائشةُ -رضي الله عنها- المشهدَ في رجال هؤلاء النسوةِ، فتقول: لقد أُنزلت سورة النور: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) [النور: 31] فانقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أُنزل فيها (وهذه وظيفة الرجل في تثقيف الزوجة وتعليمها ونقل الفوائد لها من الدروس والخطب والمحاضرات وما يجب عليها أن تتعلمه من أحكام) قالت: "فانقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أُنزل فيها، ما منهن امرأةٌ إلا قامت إلى مِرطها، فأصبحن يصلين الصبح مُعْتجِراتٍ كأن على رؤوسهن الغربان".
إنه تنفيذ الأمر: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) [النور: 31]، (يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ) [الأحزاب: 59] من الأعلى إلى الأسفل، شاملا كل الجسد.
أيها المسلمون: لقد كان هذا التنفيذ العجيب من صحابة النبي -صلى الله عليه وسلمَ- للأوامر فرديا وجماعيا، بل كان هذا التنفيذ ينطوي على فقه عظيم، واسمع معي إلى هذه الحادثة العجيبة التي تبين لك فقههم رَضي الله عنهم في دقتهم لتنفيذ الأوامر، روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر -رَضي الله عنه- قال: "بينما الناس في قُباء في صلاةِ الصبح إذْ جاءهم آتٍ فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- قد أُنزل عليه الليلةَ قرآنٌ، وقد أُمر أن يستقبل الكعبة فاستقبِلوها، وكانت وجُوههم إلى الشام قِبَلَ المقدس (وهذه القبلة -عباد الله- هي عكس القبلةِ الحالية) قال: فاستداروا إلى الكعبة أثناء صلاتهم" تنفيذٌ فوري بدونِ اضطراب، وليس العجب في الاستقبال، لكن العجب كل الجب في كيفية استدارتهم وهم في الصفوف، الإمامُ والرجال والنساء، والأمر جاء فورا بدون تدريبات ولا تمرينات، لكنهم استداروا لأن الأمر لا يحتمل التأخير، وانظر إلى سرعة استجابتهم رضي َالله عنهم وهم مع النبي -صلى الله عليه وسلمَ- في الصلاة، فقد كانوا يصلون معه عليه الصلاة والسلام وفجأة يخلع البني -صلى الله عليه وسلمَ- نعليه، فخلع الناس نعالهم، فلما انصرف، قال عليه الصلاة والسلام: "لم خلعتم نعالكم؟" قالوا: يا رسول الله رأيناك خلعت فخلعنا" أنهم قوم ليسوا بإمعة، ليس القوم ينقصهم الذكاء والعمق في التفكير، أبدا، لكنهم قوم لهم قواعد أساسية مستقرة وإيمان قوي في قلوبهم يدعوهم إلى التنفيذ مباشرة، فبمجرد ما خلع النبي -صلى الله عليه وسلمَ- نعليه خلعوا، فالأمر لم يكن يحتمل التفكير ولا وقتا لتقليب الأمور، قال عليه الصلاة والسلام: " إنه أتاني جبريل عليه السلام وأخبرني أن بهما خبثا".
وتأتي معركة أحد الشهيرة لتخلف حاولي سبعين قتيلا من الصحابة ومن لم يمت جرح بالجراحات العظيمة، وتبين للمشركين أن النبي -صلى الله عليه وسلمَ- وأبو بكر وعمر لم يُقتلوا كما علم أبو سفيان من المحاورة التي دارت بعد المعركة، فخشي الصحابة أن يرجع الكفار وأن يستديروا لاستئصالهم، لكن الأمر من النبي -صلى الله عليه وسلمَ- صدر بالخروج من ميدان المعركة أحد، إلى حمراءِ الأسد وعدم الرجوع إلى المدينة، والقومُ تعلوهم الجراحات الأليمة والإنهاك والتعب الشديد من آثار المعركة، إلا أنه لما صدر الأمر من النبي -صلى الله عليه وسلمَ- نفذوا الأمر مباشرة، قال الله: (الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ * الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) [آل عمران: 172 - 174].
وهذا أحد الصحابة -رَضي الله عنه- يلبس خاتما من ذهب لا يدري أنه قد نزل حكم بتحريم لبس الذهب للرجال، فلما رآه النبي -صلى الله عليه وسلمَ- نزعه من يديه وطرحه، وقال: "يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده، فقيل للرجل بعد ما ذهب النبي -صلى الله عليه وسلمَ-: خذ خاتمك انتفع به، قال: لا والله لا آخذه أبدا وقد طرحه النبي -صلى الله عليه وسلمَ-"، فانظر إلى سرعة التنفيذ والانقياد مع أنه يجوز له أخذ الخاتم والانتفاعِ به، ولكنْ لأن النبي -صلى الله عليه وسلمَ- طرحه فلا يمكنه أخذه أبدا.
أيها المسلمون: قولي لي بربكم كيف هي حال أصحاب العلاقات مع النساء والذين دخلوا في المغامرات العاطفية وهاموا في العشق وربما تمادى بعضهم إلى الوقوع في الفواحش؟ إن قطع مثل هذه العلاقات أمر صعب عسير، لكن الأمر ليس صعبا على ذلك الجيل الفريد.
لقد كان لمرثد بن أبي مرثد سجلا حافلا في علاقة مع امرأة زمن النبي -صلى الله عليه وسلمَ- وفي نفسه منها ما في نفسه، وكانت هذه المرأة بغي يقال لها: عَنَاق، وكانت صديقته قبل الإسلام، فلما أسلم مرثد قطع علاقته بهذه المرأة وهاجر إلى المدينة، وكان يقوم بتهريب أناس من المسلمين المستضعفين من مكة إلى المدينة، فكان ذاتَ ليلة أن وعد رجلا من أسارى المسلمين ليحمله، قال: "فجئته فحملته حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة، فجاءت عناق فأبصرت سواد ظلي بجنب الحائط، فلما انتهت إليّ عرفتني، فقالت: مرثد! فقال: مرثد، فقالت: مرحبا وأهلا، هلمّ فبِت عندنا الليلة، قلت: يا عناق إن الله حرم الزنا، فما كان منها إلا أن صاحت وقالت: يا أهل الخيام (وجعلت تنادي الكفار الذين في داخل الخيام) يا أهل الخيام: هذا مرثد، يحمل أسراكم، قال: فتبعني ثمانية وسلكت الطريق وحملت صاحبي ونجاني الله منهم حتى قدمت المدينة النبوية، فأتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- فقلت: يا رسول الله أَنْكِح عناقا؟ فأمسكَ رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- فلم يردّ علي شيئا، فأنزل الله: (الزَّانِي لَا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [النور: 3]، فقال صلى الله عليه وسلمَ: "يا مرثد الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة فلا تنكحها" لقد انتهت المسألة وطوي قيد العلاقة من قبل ومن بعد.
عجيب أمر هؤلاء الرجال، يتبعون الأوامر ولا يسألون لماذا وكيف ولمه؟ ينفذون الواجب والمستحب ومستحبِ المستحب وأيُّ شيء يمكن أن يمُتّ بصلة إلى رغبة النبي -صلى الله عليه وسلمَ- بالتنفيذ ينفذ، فما أجمل هذا التنفيذ وما أكرم هؤلاء المنفذين.
اللهم اجعلنا لك وقافين، عند حدودك رجاعين، اللهم اجعلنا لك ولنبيك مطيعين يا رب العالمين.
بارك الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد الله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أشهد أن لا إله إلا الله الحليم الكريم، ربُ السمواتِ السبعِ وربُ الأرضِ ربُ العرش العظيم، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسولُه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وخلفائه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: ماذا يفعل المعاصرون في هذا الزمن بهذا التنفيذ العجيبِ الذي كان الصحابة لا يترددون في تنفيذه في حياة الآمر به صلى الله عليه وسلمَ؟ ماذا عن الذين يخْرجون بكتابات يومية في الصحف وأحاديثَ في هذه القنوات يردون أمر الله -تعالى- وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلمَ-؟ لماذا نسمع بين الفينة والأخرى طعنا في كتاب الله -تعالى- وسنةِ النبي -صلى الله عليه وسلمَ-؟ لماذا يردون الأشياء التي لا تعجبهم، فهذا أحدهم يرد الحديث الصحيح، وآخر يعارض الدليل النقلي المتواتر بعقله، وثالث يعارض قواعد الشريعة، ورابع يروج للناس كلمة أن الدين يسر، ولن يشاق هذا الدين إلا غلبة، ويسروا ولا تعسروا بحجة أن الذهاب إلى صلاة الفجر شاقة، وأن الجهاد شاق، وأن ترك المحرم الذي اعتاد عليه صاحبه شاق، فلماذا هذا التعقيد في هذا الدين الذي جاء باليسر ونبذ المشقة؟ ولا يتورعون عن الكلام فتارة يقولون: هذا حديث يخالف العلم الحديث، وتارة يقولون: يخالف الذوق، وأصبح الحديث الصحيح عندهم والدليل القرآني الجلي يخالف الذوق، إن حديث الذباب الذي خرجه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه يخالف الذوق: "إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه فإن أحد في أحد جناحيه داء والآخر دواء"، حديث يخالف الذوق والعقل والمنطق.
وتارة يقولون: يخالف المصلحة، وتارة يقولون: يخالف الواقع، وهذا أحدهم لما خرجت خطيبة الجمعة في إحدى الولايات الأمريكية قبل شهر ونصف الشهر تصلي الجمعة وتخطب بالناس نادى بأعلى صوته على المخالفين والمعارضين لهذه الظاهرة قائلا: إنكم تخالفون قوانين الأمم المتحدة، ويتناسى قول النبي -صلى الله عليه وسلمَ-: "لا يفلح قوم ولو أمرهم امرأة"، ويجهل جهلا مركبا أن الإمامة بمثابة الولاية وليست إلا للرجال.
وهذه قبيحة تخرج في إحدى القنوات لتقول للعالم: بأي حق يعقد الرجل على زوجته، إنها تملكه ولا يملكها، وليس هناك شيء يسمى مهرا، إنما هو تقاليد أهل البادية، وهكذا.. غرور وجهل وإعلان وتحد للرب -جل وعلا- وشرعه.
وإذا قيل لهم: قال النبي -صلى الله عليه وسلمَ-، قالوا: دعونا من السنة وهاتوا القرآن.
إنك تعجب من هؤلاء، يتجرؤون على الخالق ويخالفون النبي -صلى الله عليه وسلمَ- ويرمون بسنته عرض الحائط، دعونا من السنة، لا نريد قول النبي -صلى الله عليه وسلمَ-، هكذا يقولون، إعلان للكفر على العالمين، إنهم يطعنون في الكتاب والسنة وعلى الملأ، واستضافات ومشاركات وحوارات في رد الكتاب والسنة، ويتجاهلون قول الله: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النور: 63]، (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) [النساء: 65].
هكذا -عباد الله- يردُ قولُ الله ورسوله على الملأ ويخالف ويكفر به، وتثبت الشهادة بالكفر بالملايين من الناس.
عباد الله: إننا اليوم نواجه حملة ضد الإسلام وتعاليمه، فلم يعد الحرب اليوم بالتحذير من الإسلام والتشهير به وأنه دين إرهاب وترويع، لا، لقد سلك الأعداء حربا من نوع آخر، ونحو منحى آخر لحرب الإٍسلام، إنه تمييع الدين، تمييع أحكامه، تمييع أدلته الواضحة من الكتاب والسنة.
فما الحرج في أن تتبرج المرأة وتظهر للناس بأحلى حلة وأبهى زينة وتخرج من البيت كي ما تشاء بلا إذن من الزوج، لكن المهم أن لا تدع الصلاة؟ ما الحرج في أن تشارك الفتاة في الموسيقى المحرمة وتشترك في الاختلاط المحرم لكن المهم أن تصوم؟ وهكذا يؤخذون من الدين ما يوافق عقولهم ويردون ما لم يتوافق مع عقولهم وشهواتهم، وصدق الله: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [البقرة: 85].
اللهم إنا نسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدنيا والآخرة.
اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك، وحب كل عمل يقربنا إلى حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلينا من الماء البارد على الظمأ.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها ما علمنا منها وما لم نعلم.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وأن تثبت أقدامنا.
اللهم انصر المجاهدين على القوم الكافرين الذين يحاربون دينك وأولياءك يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك فرجا قريبا، ونصرا عزيزا، وأمنا وطيدا، اللهم انشر رحمتك على بلادنا وبلادِ المسلمين يا رب العالمين، واجعلها آمنة مطمئنة بذكرك عبادتك يا أرحم الراحمين.
(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصافات: 180 - 181].
التعليقات