اقتباس
يأخذ بأيدي المدعوين إلى الخيار الوسط ويسلك بهم السهل القريب من غير غلو وإفراط ولا تساهل وتفريط، لا يرضى لأتباعه الحرج ولا يجرهم إلى المشقة وهو يعرف ضعف الإنسان وما جبل عليه؛ لذا كان يفرق بين المثالية....
بلغ غاية الكمال الإنساني وجاوز التفوق الروحي وتعدى السمو الوجداني؛ حتى صار القدوة المثلى والأسوة العظمى وخير أهل الأرض والسماء، أكمل الناس خلقا وأعلاهم وصفا وأرفعهم قدرا وأعظمهم تقوى وأجملهم سلوكا؛ إنه رسول الله -عليه الصلاة والسلام- محمد، الداعية الأول والمربي الحكيم.
لسنا مبالغين في نبيينا، ومن حقنا أن نقول أكثر من هذا وصفا وثناء ومدحا ورثاء، ولمكانته لسنا مغالين ولا لحبه مزايدين؛ لأن عمدتنا في ذلك وسندنا فيه وصف ربه له: (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٌ).
حسبنا أن ربه منحه تزكيات عالية وأضفى عليه ترقيات سامية؛ فشملت تلك التزكيات خلقه وخلقه قوله وعمله باطنه وظاهره سلوكه ومنهجه فكره وعقيدته تصوراته وخواطره..
ألم يزكه في عقله؛ فقال: (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمۡ وَمَا غَوَىٰ)!، وزكه في صدقه؛ فقال: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلۡهَوَىٰٓ)!، وزكه في فؤاده؛ فقال: (مَا كَذَبَ ٱلۡفُؤَادُ مَا رَأَىٰٓ)!، وزكه في بصره؛ فقال: (مَا زَاغَ ٱلۡبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ)!، وزكه في معلمه؛ فقال: (عَلَّمَهُۥ شَدِيدُ ٱلۡقُوَىٰ)!، وزكه في صدره؛ فقال: (أَلَمۡ نَشۡرَحۡ لَكَ صَدۡرَكَ)!، وزكه في طهره؛ فقال: (وَوَضَعۡنَا عَنكَ وِزۡرَكَ) !، وزكه في ذكره؛ فقال: (وَرَفَعۡنَا لَكَ ذِكۡرَكَ)!، وزكه في حلمه؛ فقال: (بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ)! بل زكاه كله؛ فقال تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٌ)، وأنعم بها من شهادة وأكرم بها من تزكية.
أيها الدعاة المربون: لقد علم الله فاقة الدنيا إليه فأرسله إليها، وحاجة البشرية له فاصطفاه لها؛ فلا يناسب أمة كهذه إلا نبي كأحمد، ولا يصلح لحال كهذا إلا رسول كمحمد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
والمتتبع لسيرة النبي الزاخرة ومرحلة رسالته الفاخرة خلال حياته الدعوية، والتي استمرت ثلاثا وعشرين سنة يجد أنه -عليه الصلاة والسلام- واجه فيها كل صنوف المعرضين وعموم نماذج المخالفين؛ فقابل الوثنين المشركين وعاصر الكتابيين كما عايش المنافقين والفاسقين وكذلك العصاة من المسلمين وأصحاب الهفوات من الخلص من المؤمنين، وكل هذه المعاصي وتلك المخالفات ابتداء من الشرك بالله -تعالى- وانتهاء بالهفوة أو المخالفة اليسيرة كل هذه عاشها وعاصرها وكان تعامله فيها تعامل المربي الحكيم والمعلم الخبير، ومعالجته لها معالجة الطبيب المتفرس، ورده فيها هو رد الكريم المتأدب واللطيف الساتر.
والغريب في واقعنا -أيها الدعاة المصلحون- وليس بغريب عليه -صلى الله عليه وسلم- كيف وسع تلك الشرائح بحكمةٍ وعدل وتعامل مع تلك الفئات بإنصاف ولطف؟! بينما -للأسف- حمل بعضنا دعوته عليه الصلاة والسلام وامتطى صهوة فرسها دون ضابط أو لجام، من غير معرفةٍ لآدابها أو إدراكٍ لأساليبها، فرض عليه فيها طبعه الشديد وحَكَمه عليها خلقه الجاف وحدته المفرطة أو جهله بهدي المعلم القدوة والمربي الحكيم..
ومن كان هذا طبعه ودأبه فلا تعجب حينها أن تسمع بالتبعات المؤسفة والأحكام الجائرة والردود الشنيعة والتعامل السيء من هجر فلان وتفسيق لعلان وتضليل هذا وتبديع لذاك، وغيرها مما يهدم بناء هذه الدعوة ولا يشيدها ويهلك حرثها ولا ينبته ويفسد ثمرها ولا ينضجه.
وإني وفي هذا المقام أود جاهدا -مستعينا بالله الولي- أن أعرج على أمثلة نبوية رائدة ومواقف تربوية من هديه راقية؛ ندرك من خلالها كيف تعامل -عليه الصلاة والسلام- مع المخالفين بكل طوائفهم؟!
فمن حسن تعامله مع المخالف: أنه كان حسن الاستماع لهم جميل الإنصات؛ حتى ولو كان المخالف مشركا وثنيا فإنه يستمع إليه ويصغي له؛ فهذا أبو الوليد عتبة بعثه قومه إلى رسول الله ليكن آخر المفاوضين إلى محمد -عليه الصلاة والسلام- حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستمع منه، قال: أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم، قال: فاسمع مني؛ قال: أفعل... "(مسند عبد بن حميد (1 / 421)].
ومن حسن تعامله: أنه يعطي للآخر فرصة للقرار ومساحة للتفكير معتبرا ذلك حقا للآخر بعد بيان الحجة عليه وإقامة البرهان دون حجْر عليه أو استغلال له لينظر الآخر في أمره ؛ كما في قصة ثمامة بن أثال -رضي الله عنه-؛ فإنه لما جيء به وشد وثاقه ورآه رسول الله قال: أتدرون من أخذتم؛ هذا ثمامة بن أثال الحنفي، أحسنوا إساره ورجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أهله؛ فقال: اجمعوا ما كان عندكم من طعام، فابعثوا به إليه، وأمر بلقحته أن يغدى عليه بها ويراح فجعل لا يقع من ثمامة موقعا ويأتيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقول أسلم يا ثمامة، فيقول: إيها يا محمد، إن تقتل تقتل ذا دم وإن ترد الفداء فسل ما شئت، فمكث ما شاء الله أن يمكث؛ ثم قال النبي -صلى الله عليه وسلم- يوما: أطلقوا ثمامة، فلما أطلقوه خرج حتى أتى البقيع، فتطهر فأحسن طهوره، ثم أقبل فبايع النبي -صلى الله عليه وسلم- على الإسلام. ..
ومن حسن تعامله: أنه لم يكن عليه الصلاة والسلام مثاليا ولا متعسفا؛ بل كان وسطا معتدلا؛ يأخذ بأيدي المدعوين إلى الخيار الوسط ويسلك بهم السهل القريب من غير غلو وإفراط ولا تساهل وتفريط، لا يرضى لأتباعه الحرج ولا يجرهم إلى المشقة وهو يعرف ضعف الإنسان وما جبل عليه؛ لذا كان يفرق بين المثالية التي تتنافى مع الإمكانيات المتوفرة والظروف غير الملائمة وبين الواقعية التي تتناسب مع واقع المرء وظروفه وإمكانياته؛ فيحثهم على فعل الممكن عند عدم القدرة على المفترض؛ وهذا واضح في قوله عليه الصلاة والسلام: "لن يشاد الدين أحد إلا غلبه"، وجلي لما دخل عليه الصلاة والسلام المسجد فإذا حبل ممدود بين الساريتين، فقال: ما هذا الحبل؟، قالوا: هذا حبل لزينب إذا فترت تعلقت به، فقال النبي -ﷺ-: حلوه، ليُصلِّ أحدُكم نشاطَه، فإذا فتر فليرقد"(متفق عليه)، وكلا التصرفين مخالفة.
ومن حسن تعامله: اعتباره للآخر وتقديره له ولا ينظر لشخصه ومقامه؛ فقد كان يجعل لأسئلة الآخرين نحوه وما جاء به اعتبارا ولم يكن يسفهها أو يتجاوزها؛ بل يحترم سؤال السائل وحرصه ويقدر تفكيره وتأنيه، وهو ما فعله تجاه الأعراب الذين كانوا يسألونه عما يثبت لهم نبوته، فيستشهد لهم بشيء؛ فذات مرة وهو راجع من سفر أقبل إليه أعرابي فدنا منه؛ فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- أتشهد ان لا إله إلا الله وأني محمد رسول الله قال الأعرابي ومن يشهد بما تقول فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه الشجرة ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا الشجرة وهي بشاطئ الوادي فأقبلت اليه وهي تخط الأرض حتى قامت بين يديه فاستشهدها ثلاث مرات فقالت أنت محمد رسول الله ثم أمرها فرجعت إلى منبتها... فأسلم".
ومن حسن تعامله: تعليمه الجاهل وحلمه عنه دون أن يحمل عليه أو يعنفه أو يخاطبه مخاطبة من يعلم، كما في قصة معاوية بن الحكم السلمي؛ إذ يقول: بينا نحن نصلي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذ عطس رجل من القوم فقلت يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم فقلت وا ثكل أمياه ما شأنكم تنظرون إلي قال فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم فلما رأيتهم يصمتوني لكني سكت فلما صلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبأبي هو وأمي ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه والله ما كهرني ولا شتمني ولا ضربني قال إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس هذا إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن..".
ومن حسن تعامله: مجادلته بالحسنى أصحاب الشهوات التي أشربت في قلوبهم وصعب عليهم مفارقتها، وبالتي هي أحسن مع العاكفين على الموبقات التي سرت في دمائهم وعز عليهم تركها؛ فيقبل ما قبلوا ويحاول أن يصل بهم إلى ما لم يقبلوا به؛ كما في قصة الشاب الذي أصر على البقاء على الزنى إن فتىً شاباً أتى النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فقال: يا رسول الله ائذن لي في الزنا، فأقبل القوم فزجروه، وقالوا: مه مه! فقال له: "ادنه" -أي اقترب مني-، فدنا منه قريبا، قال: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله، جعلني الله فداءك. قال: "ولا الناس يحبونه لأمهاتهم". قال: أفتحبه لابنتك؟ قال: "لا والله يا رسول الله، جعلني الله فداءك" قال: "ولا الناس يحبونه لبناتهم" .قال: أفتحبه لأختك؟ قال: "لا والله، جعلني الله فداءك". قال: "ولا الناس يحبونه لأخواتهم". قال: أفتحبه لعمتك؟ قال: "لا والله، جعلني الله فداءك". قال: "ولا الناس يحبونه لعماتهم". قال: أفتحبه لخالتك؟ قال: "لا والله، جعلني الله فداءك". قال: "ولا الناس يحبونه لخالاتهم". قال -رواي الحديث –: فوضع يده عليه، وقال: "اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه، وحصن فرجه" فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء"(أخرجه أحمد ( 5 / 256 - 257)].
ومن حسن تعامله: أنه يسأل المخالف المتورط ليستطلع دواعي فعله ويدرك أسباب خطئه قبل أن ينزل به عقوبة أو يصدر في حقه حكماً؛ كما فعل مع حاطب بن أبي بلتعة؛ فقد سأله النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما حملك على ما صنعت؟" قال حاطب: والله ما بي إلا أن أكون مؤمنا بالله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، أردت أن تكون لي عند القوم يد يدفع الله بها عن أهلي ومالي وليس أحد من أصحابك إلا له هناك من عشيرته من يدفع الله به عن أهله وماله، فقال: "صدق لا تقولوا له إلا خيرا".
فقال عمر: إنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين فدعني فلأضرب عنقه، فقال: "أليس من أهل بدر؟ ـ فقال ـ لعل الله قد اطلع إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة ـ أو قد غفرت لكم"؛ فدمعت عينا عمر وقال: الله ورسوله أعلم، فينقلب الرسول بميزانه العدل من معاقب إلى مدافع عنه.
وهذا المنهج استقاه المربي الحكيم من ربه الخبير في كتابه المجيد الذي أنزله عليه؛ فالله -تعالى- قبل إنزال عقوبته على إبليس بسبب امتناعه عن السجود لآدم سأله عن سبب ذلك! (مَنَعَكَ أَلَّا تَسۡجُدَ إِذۡ أَمَرۡتُكَۖ)؟!
وبرغم علم الله المحيط بذلك؛ لكن الله أراد تعليم هذا المنهج رسوله وعباده حتى لا يستعجلوا حكما على مخالف قبل معرفة دوافع مخالفته؛ وهو ما يعرف اليوم عند الفقهاء ب (توفر شروط وانتفاء موانع).
ومن حسن تعامله عليه الصلاة والسلام: كان يقبل الظاهر من العذر ويصدق به دون تخوين أو احتمال، وهذا ما رأيناه في تعامله مع المتخلفين عن غزوة العسرة؛ فإنه لما وصل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للمدينة بدأ بالمسجد وجلس للناس، فجاء المخلفون وجعلوا يعتذرون له ويحلفون، فيقبل منهم ظواهرهم ويستغفر لهم، وكانوا بضعا وثمانين رجلا، فجئت فسلمت عليه، فتبسم تبسم المغضب، فقال لي، ما خلفك؟ قلت: يا رسول الله والله لو جلست إلى غيرك من أهل الدنيا، لخرجت من سخطه بعذر ولقد أعطيت جدلا، والله ما كان لي عذر حين تخلفت عنك، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أما هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك".
ومن حسن تعامله: يعتبر لمن وقع في عثرة متأولا ولمن سقط في زلة محتملا، لا يشنع بهم ولا يقسوا عليهم؛ ففي قصة خالد التي أخرجها البخاري عن ابن عمر قال: بعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خالد بن الوليد إلى بني جذيمة فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا، فجعل خالد يقتل فيهم ويأسر، فذكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فرفع النبي -صلى الله عليه وسلم- يده؛ فقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد، اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد".
ومن حسن تعامله: أنه يحفظ للمرتكسين في المعاصي سوابقهم المشرقة ويوازن بين حسناتهم وسيئاتهم، ويربط بين ماضيهم وحاضرهم ولا يصفر بمعصيتهم كل سجلاتهم السابقة المضيئة؛ كقوله في شارب الخمر إنه يحب الله ورسوله؛ فعن عمر -رضي الله عنه- أن رجلا كان على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وكان اسمه عبد الله، وكان يلقب حمارا، وكان يضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد جلده في الشراب، فأتي به يوما فأمر به فجلد؛ فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به! فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تلعنوه، فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله" أ.هـ.
بأبي أنت وأمي -أيها المربي المشفق والمعلم الحنون والقاضي الحكيم-؛ فرغم فداحة المعصية وعكوف صاحبها عليها وإدمانه لها؛ إلا إنه عليه الصلاة والسلام نظر إلى ضعفه أمامها وعجزه عن الإقلاع عنها؛ فلم ينظر إليه نظرة استحقار أو ازدراء؛ بل نظر للجانب الإيجابي له وشهد له بحبه لله ورسوله؛ فدل على أن معصيته لم تستحوذ على إيمانه أو تسلبه منه..
ومن حسن تعامله: طيه صفحة ماضي العاصين الملوثة وتمجيده صفحات المقبلين المشرقة ومواقفهم الجميلة من غير تشهير أو شماتة، دون العودة بهم لماضيهم الجريح معاتبا أو موبخا؛ كقصة الغامدية التي ورد خبرها في حديث عمر أن بن الحصين الخزاعي -رضي الله عنه-ما أم امرأة من جهينة أتت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهي حبلى من الزنا فقالت يا رسول الله أصبت حدا فأقمه علي.
فدعا الرسول -صلى الله عليه وسلم- وليها فقال: أحسن إليها فإذا وضعت فأتني ففعل فأمر بها نبي الله -صلى الله عليه وسلم- فشدت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت ثم صلى عليها فقال له عمر: تصلي عليها يا رسول الله وقد زنت؟.
قال: لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لو سعتهم، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله عز وجل..."؟(رواه مسلم).
من حسن تعامله: توقفه عن الحكم على شخص ما أو تنفيذ حكما بحقه لوجود أدنى شبهة تستدعي التأني، وأكبر من ذلك أن يدافع عنه وينتصر لحقه؛ كما فعل بماعز -رضي الله عنه-؛ فقد روي عن أبي عثمان بن نصر الأسلمي، عن أبيه، قال: كنت فيمن رجم ماعزا، فلما غشيته الحجارة قال: ردوني إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأنكرنا ذلك فأتيت عاصم بن عمر بن قتادة، فذكرت ذلك له فقال لي الحسن بن محمد: لقد بلغني ذلك فأنكرته فأتيت جابر بن عبد الله، فقلت له: لقد ذكر الناس شيئا من قول ماعز: ردوني فأنكرته فقال: أنا كنت فيمن رجمه إنه لما وجد مس الحجارة قال: ردوني إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإن قومي غروني قالوا: ائت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإنه غير قاتلك فما أقلعنا عنه حتى قتلناه فلما ذكرنا ذلك له قال: ألا تركتموه؟ حتى أنظر في شأنه.
وبالنسبة لمدافعته عن المخالف؛ فقد روى من حديث أبي هريرة في قصة ماعز ورجمه في الزنا وإن رجلا قال لصاحبه انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم يدع نفسه حتى رجم رجم الكلب؛ فقال لهما النبي -صلى الله عليه وسلم- كلا من جيفة هذا الحمار - لحمار ميت - فما نلتما من عرض هذا الرجل أشد من أكل هذه الجيفة".
وهذا المنهج يخالفه واقعنا الدعوي -للأسف-؛ فترى كثيرا ما يحكم بعض الدعاة على بعضهم بالظنة ويشنعون لمجرد النقل غير الموثوق الذي لم تستوفى شروطه..
وأما دفاعه عن المخالف فمن أمثلته قصة الغامدية؛ فإنه لما أمر برجمها أقبل خالد بن الوليد بحجر، فرماها فانتضح الدم على وجه خالد، أو جبهته فسبها فسمع النبي -صلى الله عليه وسلم- سبه إياها فقال: مهلا يا خالد لا تسبها فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لقبل منه، فأمر بها فكفنت وصلى عليها ودفنت"(مسلم (1695).
ومن حسن تعامله: إنصافه من نفسه إذا كان الحق لغيره، ولم يكن يرى لنفسه مزية أو يرى لنفسه اعتبارا على الحق؛ كما في قصة زيد بن سعنة وعمر حيث قال زيد بن سعنة: ما من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في وجه محمد -صلى الله عليه وسلم- حين نظرت إليه، إلا اثنتين لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلما، فكنت ألطف له لأن أخالطه فأعرف حلمه من جهله... إلى أن قال زيد بن سعنة: فلما كان قبل محل الأجل بيومين أو ثلاثة أتيته فأخذت بمجامع قميصه وردائه، ونظرت إليه بوجه غليظ، فقلت له: ألا تقضيني يا محمد حقي، فوالله ما علمتكم يا بني عبد المطلب لمطل، ولقد كان لي بمخالطتكم علم، ونظرت إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- وإذا عيناه تدوران في وجهه كالفلك المستدير، ثم رماني ببصره، وقال: يا عدو الله تقول لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أسمع، وتصنع به ما أرى، فوالذي بعثه بالحق، لولا ما أحاذر قوته لضربت بسيفي رأسك. ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينظر إلى عمر في سكون وتؤدة وتبسم، ثم قال: "يا عمر، أنا وهو كنا أحوج إلى غير هذا، أن تأمرني بحسن الأداء، وتأمره بحسن التباعة، اذهب به يا عمر فأعطه حقه وزده عشرين صاعا من تمر مكان ما رعته".
ومن حسن تعامله: يعتبر للجاهل جهله فلا يثرب عليه ولا يشنع؛ كما فعل مع مالك بن الحويرث بعد تشميته للعاطس في الصلاة؛ فإنه لما رأى حسن تعامله عليه الصلاة والسلام معه وإعذاره له وصفه قائلا: "ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه والله ما كهرني ولا شتمني ولا ضربني إنما قال إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس هذا إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن".
ومن حسن تعامله: رفقه بالمذنب بسبب غفلته وجهله وضعفه وأكبر من ذلك إحسانه إليه؛ فعن أبي هريرة قال: أتاه رجل فقال يا رسول الله هلكت قال: وما أهلكك قال: وقعت على امرأتي في رمضان قال: هل تستطيع أن تعتق رقبة قال: لا قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين قال: لا قال: فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا قال: لا قال: اجلس فجلس فأتي النبي -صلى الله عليه وسلم- بعرق فيه تمر والعرق المكتل الضخم قال: تصدق به فقال ما بين لابتيها أحد أفقر منا قال: فضحك النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى بدت أنيابه قال فخذه فأطعمه أهلك".
فما أعظمه من معلم رحيم! توقع المذنب الهلكة فوجد مع المربي السلامة احتمل الخسارة والتغريم فرجع بالمال لزوجته والبنين توقع اللوم والعتاب فوجد الرفق والتبسم.
ومن حسن تعامله: يستر التائب ولا يفضحه ويخفي العيب ولا يكشفه كماعز والغامدية؛ وقد مر معنا موقفه عليه الصلاة والسلام منهما؛ حيث سعى جاهدا أن يستر عليهما ويوجد لهما من التبريرات ما يسلمهما من العقوبة، ويضع لهما من الوسائل ما يمكنهم من السلامة والنجاة من التبعات؛ حتى أصرا بتوبتهما وتطبيق حكم الله فيهما رجاء أن يلقيا الله طاهرين.
ومن حسن تعامله: تهوينه على العاصي التائب والمقبل المنيب والخائف المستجير ودلالته على ما يغفر ذلك؛ فعن مكحول قال: جاء شيخ كبير هرم، قد سقط حاجباه على عينيه فقال: يا رسول الله، رجل غدر وفجر، ولم يدع حاجة ولا داجة إلا اقتطفها بيمينه، لو قسمت خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم، فهل له من توبة؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أأسلمت؟ فقال: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: فإن الله غافر لك غدارتك وفجراتك، ومبدل سيئاتك حسنات ما كنت كذلك، فقال: يا رسول الله، وغدراتي وفجراتي؟ فقال: وغدراتك وفجراتك، فولى الرجل يكبر ويهلل.
ومثال آخر وهو ما رواه عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن رجلا أصاب ذنبا فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فذكر ذلك له فأنزلت عليه؛ (وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ طَرَفَيِ ٱلنَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ ٱلَّيۡلِۚ إِنَّ ٱلۡحَسَنَٰتِ يُذۡهِبۡنَ ٱلسَّيِّـَٔاتِۚ ذَٰلِكَ ذِكۡرَىٰ لِلذَّٰكِرِينَ)؛ قال الرجل: ألي هذه قال صلى الله عليه وسلم لمن عمل بها من أمتي".
ومن حسن تعامله: حرصه على كسب الآخرين لا خسارتهم وتجميع الناس لا تفريقهم وتحبيب الخصم لا تبغيضه وتأليف القلوب لا تشتيتها وتقليل الأعداء لا تكثيرهم واستعداؤهم، يهدئ النفوس ولا يستفزها، ليس فضا غليظا ولا عبوسا مقطبا، بل حليما متأنيا لا عجولا متهورا ولا مفرطاً مميعا ناصحا لطيفا لا شاتما مشنعا ولا مبدعاً مضللا ولا عن الحق ساكتا عليه الصلاة والسلام.
وأخيرا: أيها المربون والدعاة المصلحون؛ هذه نماذج يسيرة وأمثلة سريعة من تعامله عليه الصلاة والسلام مع المخالفين باختلاف طوائفهم؛ وما دمتم قد جعلتم أنفسكم ورثته وتصدرتم البلاغ عنه؛ فأحسنوا في كيف تدعون كما تحسنون فيما إليه تدعون، وتجملوا بطريقته وتحلوا بأسلوبه، وكونوا رحماء بأتباعه وأمته، خذوهم إلى ربهم برفق وانتشلوهم من عثراتهم بلين، رجوهم بالله كما تخوفنهم منه.
والحمد لله رب العالمين
التعليقات