عناصر الخطبة
1/ أمة الإسلام ومواجهتها لكثير من المحن 2/ الطريق الحق لتحقيق أسباب الانتصاراهداف الخطبة
اقتباس
أمة الإسلام اليوم تمر بمحن وأزمات ومصائب وابتلاءات تسلط فيها الأشرار على الأخيار، بث فيها أعداء الإسلام سمومهم وأفكارهم، واشتد الأمر وعادت غربة الإسلام في دياره، وعظم الخطب بركون المسلمين إلى الدنيا وترك الكثير من شعائر دينهم وتفلت أعداد منهم من أحكامه وأوامره، وأعرضوا عن وحي الله المنزل، وأخذوا بما عليه الأمم من قبلهم فما عذرنا، وكتاب الله بين أيدينا، وماذا فعلنا بأنفسنا وهذه سنة نبينا محفوظة؟!
الخطبة الأولى:
الحمد لله كاشف البلوى، وسامع النجوى، له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله عظيم يعلم السر وأخفى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى وخليله المجتبى، صلَّى الله عليه وعلى آله وخلفائه الراشدين وزوجاته وصحابته الأكرمين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر:18]، وصحّ عن نبينا -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "اتق الله حيثما كنت"، وودع ابن عون رجلاً فقال له: "عليك بتقوى الله؛ فإن المتقي ليست عليه وحشة"، وقال زيد بن أسلم: "كان يقال: من اتقى الله أحبه الناس وإن كرهوا".
فعليكم بتقوى الله، وذلك بفعل أوامره وترك نواهيه والتماس رضاه، وتمسكوا بدين الإسلام فإنه الدين الحق، وادعوا إليه وانشروا محاسنه تفلحوا.
عباد الله: أمة الإسلام اليوم تمر بمحن وأزمات ومصائب وابتلاءات تسلط فيها الأشرار على الأخيار، بث فيها أعداء الإسلام سمومهم وأفكارهم، واشتد الأمر وعادت غربة الإسلام في دياره، وعظم الخطب بركون المسلمين إلى الدنيا وترك الكثير من شعائر دينهم وتفلت أعداد منهم من أحكامه وأوامره، وأعرضوا عن وحي الله المنزل، وأخذوا بما عليه الأمم من قبلهم فما عذرنا، وكتاب الله بين أيدينا، وماذا فعلنا بأنفسنا وهذه سنة نبينا محفوظة؟! ولماذا ضعفنا أمام أعدائنا وهذه ملة الإسلام ودين ربنا يدعونا إلى القوة والعمل والجد والاستعداد والقوة والنشاط: (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ) [محمد:35].
ما عذرنا -نحن المسلمين- والله سبحانه قد أنار لنا الطريق ويسر لنا أسباب النصر والتوفيق، فحدد المعالم ورسم المنهاج: (قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ) [الأنعام:104].
الطريق -يا عباد الله- الطريق الحق للخلوص من كيد أعدائنا في قول الله: (وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) [آل عمران:120].
فلماذا نخاف من أعدائنا؟! الطريق في قول الله: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق:3]، الطريق الحق تحقيق عبادة الله وحده ونبذ الأنداد والشركاء: (مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [الذاريات:57، 58].
الطريق الحق ما خطب به رسول الله وخليله محمد -صلى الله عليه وسلم- وأمته تبع له: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ * وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود:117].
الطريق الحق في قول الحق: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ...) إلى قول الله: (لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى).
الطريق الحق في لزوم صراط الله المستقيم ودين الله القويم: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ).
الطريق الحق في الإيمان الصادق والتوكل على فاطر السماوات والأرض، فمن سرَّه أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)، (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ).
لقد آن للمسلمين -حكامًا ومحكومين- أن يدركوا ألا عزة لهم إلا بالإسلام الحق، بإقامة شرع الله والحكم بكتاب الله، لا مجرد التسمي بذلك، آن للمسلمين -أفرادًا وجماعات- أن يدركوا جيدًا خطر الأعداء من اليهود والنصارى والرافضة والمنافقين والوثنيين، فيحذروهم ويتبرؤوا من موالاتهم، ويكتفوا بمولاهم -سبحانه وتعالى-: (بَلِ اللّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ)، (وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) [المائدة:56].
لقد تجرّع المسلمون الذل والهوان، ورأوا بأعينهم فشل المذاهب الأرضية من قومية وعلمانية ومادية، وأنها ما حققت لهم نصرًا ولا أرجعت لهم حقوقًا ولا أذلت لهم عدوًا ولا جلبت لهم سعادة، ولم تفعل من ذلك شيئًا أبداً، فأين هم عن مصدر العز والفوز!! أين هم عن أصل المجد!! (لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)، (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى)، (فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)، (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا).
أيها المسلمون: التمسك بالإسلام الحق هو الحل لما نعيشه من ضعف وهوان، والإسلام الذي يتضمن إقامة الأركان الخمسة وأصول الإيمان الستة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعميق الولاء والبراء وإحياء شعيرة الجهاد في سبيل الله، فبهذا يرجع للمسلمين مجدهم وعزهم، ويسعدون في الدنيا والآخرة، وهذا والله هو الحق: (يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ).
فلنبدأ بأنفسنا أولاً، ونتضرع إلى ربنا -جل وعلا-، فلقد قال سبحانه: (وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ)، وقال: (ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً)، وقال -عز وجل-: (وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ).
فلنصلح أنفسنا ومن تحت أيدينا، ولنعلم أننا بأمس الحاجة إلى أن نستجير بربنا ونذل، إن ربنا -عز وجل- جعل لنا في رسولنا -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة، ولقد كان -عليه الصلاة والسلام- يلتجئ إلى ربه ويتضرع إليه دائمًا، ولاسيما عند النوازل والكروب والخطوب والشدائد.
في صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً، فاستقبل نبي الله -صلى الله عليه وسلم- القبلة، ثم مد يديه فجعل يهتف بربه: "اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آتِني ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض". فما زال يهتف بالدعاء ماداً يديه، مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه وألقاه على منكبه ثم التزمه من ورائه وقال: "يا نبي الله: كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك". فأنزل الله: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ) [الأنفال:9].
فأمدّه الله بملائكته، فكذلك كونوا -يا عباد الله-، تضرع ودعاء وإنابة ورجاء، إنها من أسباب النصر على الأعداء، فهي من سنن الهدى، فكم دفع الله بالدعاء من شر وبلاء!! وكم فتح الله بالتضرع والإنابة أبواب النصر والإجابة!! فأروا الله من أنفسكم خيرًا.
يا رهبان الله، يا أصحاب الأسحار: الله الله في الدعاء لأمة الإسلام المكلومة والدعاء على أعدائها، الذين أضروا بالإسلام وأفسدوا بها، ولا زالوا يحاربون بلاد الإسلام، ففي سوريا بلغ عدد الذين قتلوا من الأطفال والنساء ما يزيد على ألف، وفي فلسطين ما زالت الدماء تنزف وفي غيرها من بلاد الله.
فالله الله في الدعاء، فما قيمة الأمة إذا لم يكن فيها من يرفعون الدعاء في ظلم الليالي إلى الحي القيوم الذي لا ينام!! ما قيمة أمة لا يشعر الفرد فيها بآلام أمته ولا يدعو لإخوانه ولا يتضرع إلى مولاه.
أيها المسلمون: ثقوا بأن الله سبحانه لا يمكن أن يضيع أمة الإسلام أبداً، وأنه ناصر دينه ولو كره الكافرون، لكن نحن ماذا فعلنا؟! أين تعلقنا بالله -جل وعلا-؟! أين تضرعنا ودعاؤنا؟! أين صدقنا وإخلاصنا؟! أين صبرنا وتقوانا؟! فلن نؤتى إلا من قبل أنفسنا.
قال جعفر بن محمد الصادق: "عجبت بمن بُلي بالضر كيف يذهب عنه أن يقول: (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)، والله يقول: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ)، وعجبت لمن بُلي بالغم كيف يغفل عنه أن يقول: (لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)، والله يقول: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ)، وعجبت لمن خاف شيئًا كيف يذهل عنه أن يقول: (حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)، والله يقول: (فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ)، وعجبت لمن كوبد في أمر، كيف يذهل عنه أن يقول: (وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)، والله يقول: (فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا)، وعجبت لمن أنعم الله عليه بنعمة فخاف من زوالها كيف يذهل عنه أن يقول: (وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاء اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ)!!".
اللَّهُمَّ إنِّي أسْألُكَ عِيشَةً نَقِيَّةً، ومِيتَةً سَوِيَّةً، ومَرَدّاً غَيْرَ مَخْزٍ ولا فاضِحٍ، واعف عنا يا كريم، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم- وعبادك الصالحين، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل المسلمين، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه...
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فإن الإنسان الكريم الذي خلقه الله في أحسن تقويم لا يرضى لنفسه أن يكون عبدًا إلا لله -جل وعلا-، فيطلب النصر والخير والرزق منه سبحانه لا من غيره؛ قال -جل وعلا-: (فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ)، فبيده سبحانه العطاء والمنع والخفض والرفع، وأزمَّة قلوب العباد بيده يصرفها كما أراد، يقلبها كيف يشاء، والملك بيده يعطيه من يشاء وينزعه ممن يشاء: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران:26].
فمن أقبل على الله بقلبه إنابة وتضرعًا وعبودية وإخلاصًا كفاه الله ما أهمه، ويسّر أمره، وأدر رزقه، أما من تعلق بالمخلوقين، وأعرض عن رب العالمين، فإن الله يكله إلى من تعلق به، ويا بؤس لمخلوق وُكِل لمخلوق، (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ).
أيها المسلم: اجتهد في الذل والانكسار والحب والخضوع والافتقار للرب -جل جلاله-، فالدموع والدماء لا تبذل إلا لرب الأرض والسماء، وكل حب ليس له ولا في سبيله فهو عذاب على أصحابه.
يا عين سحي أبدًا *** يا نفس موتي كمدًا
ولا تحبـي أحـدًا *** إلا الإلـه الصـمدَ
قال بعض الصالحين لرجل: "لا تكن عبدًا لله حقًا وأنت لشيء سواه مسترقًا"، وقال آخر: "من جعل الهم همًا واحدًا جعله في الله لا يزال الله يرقيه طبقًا بعد طبق ومنزلاً بعد منزل إلا أن يوصله إليه، ويمكن له بين يديه، والسعيد كل السعادة والموفق كل التوفيق من لم يلتفت عن ربه -تبارك وتعالى- يمينًا ولا شمالاً، ولا اتخذ سواه ربًا ولا وكيلاً ولا حبيبًا ولا مدبرًا ولا حكمًا ولا ناصرًا ولا رازقًا".
قال ابن القيم: "إذا استغنى الناس بالدنيا استغن أنت بالله, وإذا فرحوا بالدنيا فافرح أنت بالله, وإذا أنسوا بأحبابهم فاجعل أنسك بالله, وإذا تعرفوا إلى ملوكهم وكبرائهم وتقربوا إليهم لينالوا بهم العزة والرفعة فتعرف أنت إلى الله, وتودد إليه تنل بذلك غاية العز والرفعة".
إننا إذا تمسّكنا بدين الله وأخذنا بالإسلام كما أنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم- وعملنا به في العقائد والمعاملات وجميع نواحي الحياة بدّل الله ضعفنا قوة، وهزيمتنا نصرًا، وفرقتنا اجتماعًا: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ).
عن ثوبان -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمُ الأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَتَدَاعَى الأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا، قُلْنَا: مِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ؟! قَالَ: لا، أَنْتُم يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، يَنْزَعُ اللَّهُ الْمَهَابَةَ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ، وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ، قِيلَ: وَمَا الْوَهنُ؟! قَالَ: حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ". رواه أبو داود.
فيا أيها المسلم: جاهد نفسك على فعل الخيرات، واجتهد في الدعوة إلى سبيل ربك والنصح لإخوانك، واتهم نفسك دائمًا بالظلم والتقصير، وخوّفها من سوء المصير، وأدم التضرع في الأسحار داعيًا لنفسك ولمن له حق عليك، وتذلل لربك وأدم ذكره على كل حال، واتل كتابه واعطف على أهل المسكنة والحاجة ليلين قلبك وتدرك حاجاتك، وثق بأن دين الله منصور، ولله عاقبة الأمور.
اللهم اجعلنا من أنصار دينك، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واجعل الدائرة على المنافقين.
التعليقات