عناصر الخطبة
1/ مناسبة الذكر لأحوال الناس 2/ فوائد الذكر 3/ تصحيح مفهوم الذكر 4/ بيان معانيه 5/ صيغ ذكر يستحب ترديدهااهداف الخطبة
اقتباس
والفارق بين مؤمن يذنب وفاسق يذنب أن المؤمن سرعان ما يعود ومْض الإيمان إلى ضميره إذا استطاع الشيطان أن يكسف نوره بشيء من الظلمة، أو ينفث فيه من الدخان؛ أما الفاسق فإنه يبقى على ظلمته ما يرى فيها بصيص نور، فيبقى على نجاسته ما يعرف طريق التطهر. قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ) ..
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير؛ اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا، محمد وعلى آله، وأصحابه، والتابعين.
أما بعد: فحديثنا اليوم -إن شاء الله- عن ذكر الله تبارك اسمه، وتعالى جَدُّه، ولا إله غيره؛ وذكر الله تعالى في هذه الأيام يقع بين طوائفَ متناقضةٍ بينها بُعدٌ ساحق، هناك المادِّيُّون الذين لا يعترفون بوجود الله، ولا يُقِرُّون بشيء له بتَّةً، وإذا حدث أن عزفوا عن الجدل، ورغبوا عن الحوار، فإنهم في سلوكهم لا ترى لله أثراً في أحوالهم، ولا في أعمالهم، لا يعترون به في كلامهم، ولا يرعونه بتة في أمرهم أو نهيهم، في رغبتهم أو رهبتهم، وهؤلاء الآن يمثلهم في العالم الشيوعيُّون والمادِّيُّون، ومَن إليهم ممن رفضوا الدين، وكرهوا أن ينقادوا له.
وهناك من يذكرون ربهم وقد عجزوا عن أن يفهموا معنى الذكر، فهم يظنون الدين لغوٌ على الألسنة، وربما فهموا الذكر مجالسَ جَذْبٍ ووثْبٍ وقَفْزٍ، ثم قلوبهم بعد ذلك بعيدة عن استشعار جلال الله، وإدراكِ هيبته، وقَدْرِه حَقَّ قَدْره.
إنَّ ذِكْر الله تعالى يجب أن يأخذ صوراً كثيرة لمناسبة الأحوال التي يكون الناس بإزائها، فمثلاً، أمام مَن يرفضون الاعتراف بالخالق، ويكرهون الإيمان به، نقول لهم: (لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [الزمر:63]. أما الذين يتخذون مع الله شركاء فيكون ذكر الله بتوحيده، وإفراده بالعبودية، والتوجه إليه وحده بالدعاء والرجاء : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ * وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الزمر:64، 65].
ولهذا فنحن نشرح الذكر على نحوٍ يتَّفق مع كتاب الله -عزَّ وجل- وسنة رسوله -عليه الصلاة والسلام-.
إن ذكر الله تعالى أشرف ما يخطر بالبال، وأشرف ما يمر بالفم، وأشرف ما يتألق به العقل الواعي، وأشرف ما يستقر في العقل الباطن؛ والذكر له معان نحب أن نضرب لها أمثلة، ونسوق لها نماذج حتى تُعرف.
الناس قد يقلقون للمستقبل، أو قد يشعرون بالعجز أمام ضوائق أحاطت بهم، ونوائب نزلت بساحتهم، وهم ضعاف من أن يدفعوها، إنهم إذا كانوا مؤمنين تذكروا أن الله على كل شيء قدير، وأنه بكل شيء بصير، وأنه غالبٌ على أمره، وأن شيئاً لن يفلت من يده؛ ولذلك يشعرون بالطمأنينة، وهذا معنى قول الله عز وجل: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ، أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ * الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) [الرعد:28، 29].
فذكر الله هنا يُشعر الإنسان بالسكينة النفسية؛ لأنه يعلم أنه في جوارٍ لا يضام، وأنه إذا أوى إلى الله فإنما يأوي إلى ركن شديد؛ ولذلك يشعر بالطمأنينة؛ وهذا نوع من الذكر.
وعندما ينطلق ناس صوب الدنيا يعبدونها، يتشهون ملذاتها، ويربطون حاضرهم ومستقبلهم بها، فذكر الله هنا أن يستعف الإنسان، وأن يشعر بأن مع اليوم غداً، وأن مع الدنيا آخرة، وأن الإنسان يجب أن يقسم مشاعره بين حاضره ومستقبله، فيعمل لمعاشه كما يعمل لمعاده؛ وهذا معنى قول الله جل شأنه: (فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى) [النجم:29، 30].
وذكر الله يخامر قلب المؤمن عندما يزله الشيطان إلى ذنب يرتكبه في جنب الله، إنه لا يبقى في وهدته التي انزلق إليها، إنه لا يبقى في سقطته التي جره الشيطان عندها، إنه يذكر أن له رباً يغفر الذنب، ويقبل التوب؛ ولذلك فهو ينهض من كبوته، ويطهِّر نفسه، ويعود إلى ربه، ويستأنف الطريق إليه، كما قال الله: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ، وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ؟ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران:135].
والفارق بين مؤمن يذنب وفاسق يذنب أن المؤمن سرعان ما يعود ومْض الإيمان إلى ضميره إذا استطاع الشيطان أن يكسف نوره بشيء من الظلمة، أو ينفث فيه من الدخان؛ أما الفاسق فإنه يبقى على ظلمته ما يرى فيها بصيص نور، فيبقى على نجاسته ما يعرف طريق التطهر. قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ) [الأعراف:201-202].
يجيء ذكر الله -مثلاً- في موقف المرء من المال؛ فالمال صنو الروح، والإنسان يعشقه ويحب جمعه وادخاره؛ ولكن الله يطلب إلى الإنسان أن ينفقه، وأن يرعى فيه غيره، كما يرعى فيه نفسه، عندئذ يحاول الشيطان أن يغل يديه عن النفقة، وأن يملأ فؤاده بخشية المستقبل، وأن يغيره بالكزازة والشح؛ ولكنّ ذكر الله يفك قيود البخل، ويغري المرء بالنفقة، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ... ) [المنافقون:9، 10]، ويقول الله تعالى: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء، وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً، وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة:268].
ذكر الله يجيء للأفراد وللأمم وهي على طريق الكفاح والجهاد، يجيء للفرد عندما يقال له: ما الذي يعرضك للجهاد تفقد فيه مالك، وقد تفقد فيه روحك؟ ولو أنك قعدت في أهلك وولدك لكان ذلك أطول لعمرك، وأضمن لنجاتك. هنا يجيء الذكر معلِّماً للإنسان أن التعرض للحتوف لا يقرب أجلاً، ولا ينقص عمراً، وأن القعود في البيوت الآمنة أو التحصن في البروج المشيدة لا يدفع موتاً، ذكر الله يجيء هنا عن طريق تعليم الإنسان الثبات: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ) [الأنفال:45].
وقد يجيء للأمم عندما تكون في طريق الكفاح، وهي تواجه عدواً صلب العود، قوى العدد، كثير البطش، فتشعر بالخوف؛ ولكن إذا سيطر الإيمان فإن المؤمن ينظر إلى تاريخه الذي مضى ثم يعلم أن الله هو الذي يسوق النصر وحده، وأنه ساق النصر للمسلمين في أيامٍ عصبية بلغ الهرج فيها أن كاد المسلمون يختنقون من الضيق والضياع! (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً) [الأحزاب:9].
ذكر الله تعالى يجيء للإنسان في أوقات فراغه، وما أكثر أوقات الفراغ التي يخلو الإنسان فيها بنفسه! وقد يسرح فكره في غير طائل، ويضرب في ميادين الوهم على غير هدى، ولكنه إذا أحسن استغلال هذه الفترات فذَكَرَ وتساءل: مَن خلَقه؟ من رزقه؟ من علَّمه؟ من ربَّاه؟ من ستره؟ من أكرمه؟ من كساه؟ من آواه؟ إذ ذكر ربه، وأحس بنعمته، واعتبر، ورق قلبه، ودمعت عينه؛ فإنه يُغفر له، فإن من بين من يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله: "رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه" رواه البخاري.
من نماذج ذكر الله أن تكون وحدك قديراً على ارتكاب أية رذيلة، ولكنك تشعر برقابة الله عليك، ويتحرك قلبك في جنبك ليعصمك من الزلل؛ هذا ذكر الله!.
إن ذكر الله عز وجل معنى كبير، إنه يجيء ضداً للنسيان، قال تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [الحشر:19]، إنه يجيء ضداً للغفلة، قال تعالى: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُون * مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) [الأنبياء:1، 2]، ويجيء في محاربه الغفلة، وما أكثر الغفَلات! في محاربه النسيان، وما أكثر ما يغشى عقل الإنسان من أسباب النسيان! يجيء ذكر الله شعوراً معنوياً قبل أن يكون حركة شفتين، يجيء هذا الذكر تحريكاً لأقفال القلب حتى تنفتح، كما قال تعالى : (وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ) [الأعراف:205].
تضرعاً وخِيفة، تذللاً وخوفاً من الله، هذا هو الذكر الذي حوله المسلمون إلى مجالس عبث، وإلي صيحات منكرة، وإلي نوع من المجون والعبث، يساق فيه قول الله عز وجل: (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا... ) [الأنعام:70].
ونحن مكلفون أن نذكر الله كثيراً؛ لماذا؟ لأن الإنسان في هذه الدنيا تشغله مطالب نفسه، ومطالب أهله وولده، تشغله مظاهر الحس والحركة حوله، تستحوذ على انتباهه مظاهر الدنيا في فجاجها التي لا نهاية لها، فلابد أن يقاوم هذا كله؛ وهذه المقاومة إنما تكون بالذكر، والذكر هنا يعني محاربة النسيان، يعني محاربة الغفلة. خذ مثلاً: الواحد منا قد يغتر، قد يشعر بشيء من القوة، فإذا ذكر الله بالكلمات المأثورة كان هذا الذكر دواء له. وما الكلمات المأثورة هنا؟ إنها: لا حول ولا قوة إلا بالله. أي: ليس لك حول من ذاتك، أنت صفر بقواك الخاصة، أنت تافه! ولكن، مع عون الله عز وجل، أنت شيء كثير! وهذا معنى كلمة ابن عطاء الله في حكمه: "ما تيسر طلب أنت طالبه بنفسك، وما تعسر طلب أنت طالبه بربك".
هذا ذكر، وإنما خُذل ناسٌ كثير من العرب والمسلمين لأنهم -مع تفاهتهم- ظنوا أنفسهم شيئاً! بينما كان العمالقة قبلهم مع قوتهم يرون أنفسهم صفراً، فكانت النتيجة أن وضع الله يده بالبركة واليُمن على من لاذوا به فنجحوا وانتصروا، وسحب رضوانه وتأييده وكنفه عمن اعتز بنفسه؛ فتركه مكشوف السوأة، عريان العورة!.
إن الذكر معنىً كبير، وليس له هذا المفهوم الضيق الذي يشيع بين الناس. لذكر الله معانٍ شتى، ووسائل شتى، وكما يحتاج الجسم الإنساني إلى وجبات يتغذى بها صباحاً وظهراً ومساءً حتى يحتفظ بالحرارة، ويتمكن من العمل والإنتاج، فكذلك قلب الإنسان -وهو مستودع إيمانه- يحتاج إلى وجبات روحية من ذكر منتظم يعرف بها المرء ربه، ويؤدي حقه، ويزود بها القلب الإنساني بالطاقة الروحية التي تجعله يتحرك على هدى، ولا يعمى في ضوضاء الحياة ولججها الطويلة العريضة. ولا شك أن أول هذه الوجبات هي الصلاة، فإن الله -عز وجل- إنما شرع الصلوات ليذكره الناس. قال تعالى: (... وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) [طه:14].
والناس عندما يقرؤون أم الكتاب فإنما يناجون ربهم، يشكرون نعمته، ويحمدونه على أفضاله، ويعاهدونه أن يبقوا عبيداً له مستعينين به، ثم يستلهمون منه أن يهديهم، ويحنون أصلابهم ركوعاً وسجوداً ليذكروا الله باسمه العظيم والأعلى؛ حتى يتعلموا في زحام الحياة أن العظيم هو الله، وأن الأعلى هو الله، وأن الخلائق صغُرت أو كبرت ليست شيئاً! فالله هو العظيم، والله هو الأعلى، ثم يجلسون ليحيوا ربهم: التحيات لله!.
هذه هي الصلوات، وأثرها ليس تربية فردية فقط، ولكن الصلاة عصمة اجتماعية، فهي للشعوب ضمانُ ألَّا تفتك بها الشهوات، وألا تستشري بها العلل؛ ولذلك فإن الأجيال المنحطة هي التي تنصرف عن الصلاة؛ لأن الشيطان يومئذ يستهلك أوقاتها في الضياع والشتات، قال تعالى: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً) [مريم:59].
وعندما أُبصر في شوارع القاهرة غلماناً نمت أجسادهم، وضمرت أفئدتهم وقلوبهم وعقولهم، يلهثون وراء الوهم، وينطلقون لا يحدوهم هدف رفيع، ولا غرض شريف؛ أنظر إليهم فأقول: ما ربتهم الصلوات، ما تعلموا أن يصفّوا أقدامهم بين يدي الله، إنهم بهذا المظهر والخبر ما يصلحون لشيء، لعنة الله على من رباكم بهذه المثابة من الحكام الشيوعيين، ومن الآباء المفرِّطين، الكسالى المضيِّعين!.
إن الصلوات ما أضاعها وما صرف الناسَ عنها إلا مَن يريدون لأمتنا أن تتهيأ لمدافع بني إسرائيل، ولو أنهم علَّموا الأمة كيف تصطف في الصلاة، وتناجي ربها؛ لما استطاعت أمة أن تقر معها في ميدان، ولا أن تُخذل راية الإسلام في معركة! وكذلك القرآن، إنه طريق للذكر، وهل نزل إلا للذكر؟ إن الله تعالى يقول: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ؟) [القمر:17]، ويقول سبحانه: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَاب) [ص:39]، ويقول سبحانه: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ؟ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) [محمد:24].
يبدو أن على القلوب أقفالاً كثيرة! فإن أعداء العرب، أعداء المسلمين، يذيعون القرآن من محطات الإذاعة؛ لأنهم واثقون من أن المسلمين لا يفهمون، ولا يتدبرون، ولا ينفذون أمراً، ولا يقيمون حداً. وهم واثقون من أن القرآن يُذاع لتضطرب به أمواج الهواءِ وكفى!؛ لذلك تذيع "تل أبيب" القرآن، وتذيع "لندن" القرآن! فهي تدري أن المسلمين يهزون رؤوسهم، أو يتمتمون بألسنتهم، ثم ينتهي الأمر عند هذا الحد! وما نزل القرآن لهذا. إن القرآن نزل فأحيا أمة ميتة، وخلق من العرب –وكانوا شعباً لا قيمة له في دنيا الناس– خلق منهم شعباً ورَّث العالمين أضخم حضارة عرفتها الدنيا، وجهدنا الآن أن نصل الناس بالقرآن، لا بالسماع الميت، ولا بالخشوع المصطنع, لكن بالعمل، بإحياء أحكامه، بالاستجابة إلى ما أودع الله فيه من ينابيعَ دفاَّقةٍ بالخير والحق: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ، وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ، وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُون) [الأنفال:24].
لذكر الله تعالى بغير شك معان كثرة، وقد رأيت أن أشرح هذه المعاني، ولكن لا يمنع هذا من أن إسلامنا العظيم زوَّد الاتِّباع بصيغ للذكر، هي صيغ يستحب أن تردد كما قال العلماء، لكن ما يستحب ترداده من صيغ شيء غير ما وجب استشعاره من ذكر الله.
إننا نختم الصلاة بالتكبير والتسبيح والتحميد، ترديد الكلمات مستحب، لكن الشعور بأن الله الأكبر، وأن الحمد لله، وأنه منزه عن الضد، والند، والكفؤ، والزوجة والصاحبة، تنزيهه عن هذا كله ركن؛ وإذا أضعنا الركن وردَّدنا صيغاً لا نفهمها فلا قيمة لهذا الترديد! نريد إحياء الفريضة أولاً؛ أما الصيغ فكثيرة.
وللعلماء كلام أثبتوا فيه من معاني الذكر، ومن صوره، ومن صيغه ما يهز القلوب، ويشرح الصدور، ويفعم النفوس نوراً وتقى، ومعروف في تاريخ النبي -عليه الصلاة والسلام- أن أحداً من الأولين والآخرين لم يتقن فن ذكر الله كما أتقنه، لقد كان ذكر الله تعالى في قلبه وعلى لسانه يأخذ صوراً بلغت حد الإعجاز، لا أقصد الإعجاز البياني في شرف صياغتها، ونقاء أسلوبها، وجمال جُمَلها؛ ولكن ما تضمنته من حب لله، وحرارة في مناجاته، وإقبال عليه، ودوام على صحبته.
إن الصيغ التي وردت في هذا كثيرة إلى حد كبير يحتاج إلى عرض خاص، منها أن النبي -عليه الصلاة والسلام- كان إذا أوى إلى فراشه قال: "اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجي منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، ونبيك الذي أرسلت " رواه البخاري.
وكان إذا استيقظ من نومه قال : " الحمد لله الذي عافاني في جسدي، وردَّ عليَّ روحي، وأذن لي بذكره " رواه الترمذي؛ وكان إذا لبس ثوباً جديداً قال: " الحمد لله الذي كساني هذا الثوب ورزقَنيه من غير حول مني ولا قوة ". رواه أبو داود؛ وكان إذا بدأ سفراً قال: "اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم أصبحنا بنصحك، واقلبنا بذمتك، اللهم ازو لنا الأرض، وهون علينا السفر، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب" رواه الترمذي؛ وكان إذا عاد من سفر أو غزو قال: " آيبون تائبون عابدون حامدون" أخرجه الترمذي، وكان فن الدعاء على لسانه، كان يقول :" اللهم اجعلني لك شكاراً، لك ذكاراً، لك رهاباً، لك مطيعاً، إليك مخبتاً، إليك أواهاً مبنياً " رواه ابن ماجة. وأدعتيه -صلى الله عليه وسلم- وأذكاره في هذا كثيرة.
نفعنا الله بصاحب الرسالة -صلى الله عليه وسلم- وبما نزل عليه من كتاب جليل. أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله (الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) [الشورى:25]. وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.
أما بعد:
عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، واعلموا أيها الإخوة أننا مكلفون أن نذكر ربنا كثيراً في هذه الأيام، أقصد الذكر بالمعنى الذي شرحته؛ ذلك أن "مصر" كان يجرها إلى الكفر بالله وترك دينه ناس كثيرون في ميدان الحكم وفي ميدان القلم، كانت مراكز القوة تقود بلدنا إلى الشيوعية بيقين، وقد جربنا مراحل طويلة في هذا الطريق, ونحن لا نريد أن نكفر بالله، ولا نريد أن ننسى وجوده، ولا أن نجحد بحقه في سيرتنا، وفي سلوكنا، وفي أعمالنا.
وهناك طلاب كثيرون الآن حريصون على أن تبقى "مصر" مؤمِنة، وعلى أن يختفي كل أثر للمد الشيوعي في بلادنا، ونحن بقلوبنا ودعواتنا نريد فعلاً أن يختفي من نفوسنا ومن صفوفنا كل تهوين للعلاقة بالله، وكل إساءة إلى دين الله، وكل تفريط في جنب الله.
نريد أن تعود مرة أخرى إلى النفوس خشيتها من الله، وانتظامها في صفوف الصلاة، وإعزازها للمساجد، وتعلق القلوب بعبادة الله في ساحاتها؛ نريد أن نعرف أن الإنسان ليس حيوانا تاريخيا كما يقول بعض الكتاب اليوم! لا، فالإنسان عبد لله في هذه الدنيا، خُلق ليؤدي حق الله، وليقوم إن كان مسلماً بأكمل رسالة نضرت وجه الإنسانية وأعلت قدرها، رسالة الإسلام.
إن الفكر المادي الوضيع يفرض نفسه عن طريق لغط لا آخر له، وبُغام دوابٍّ ملكت ناصية الكتابة والتوجيه.
ونريد أن يعلم الناس أن هؤلاء ومَن ساندهم من أسباب السلطة قديماً جرُّوا بلدنا في ميدان المادية، وفي منحدرات الشيوعية، حتى كانت النتيجة أن هان ربنا علينا، هان القرآن علينا، هان ديننا علينا، هنَّا على أنفسنا فسقطنا من عين الله، ومن أعين الناس في الميدان العالمي!.
إننا -لكي نسترجع ما فقدنا، ولكي نسترد خسائرنا- يجب أن نذكر الله، ومعنى الذكر هنا أن ننعش تعاليم الإسلام بردِّ الحياة إليها بعد أن كادت تموت، وأن نعيد للإيمان نضارته وقوته بعد أن كاد يذبل ويذوى، ويضعف ويتلاشى.
إذا كنا قد جُرِرنا في طريق المادية والشيوعية، ومشينا طوعاً أو كرهاً خطوات في هذا الطريق فينبغي أن نعود أدراجنا إلى كتاب ربنا، وسنة نبينا -عليه الصلاة والسلام-. إن الموت أفضل من أن نعيش بلا دين، الموت أفضل من أن نعيش وقد انقطعت صلتنا بمحمد -صلى الله عليه وسلم- وكتابه، الموت أفضل من هذا الضياع والشتات.
"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر". رواه مسلم.
(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيم) [الحشر:10].
عباد الله: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون) [النحل:90].
التعليقات