د. محمد بن سعد الدبل
فمِن خطبة لعمر بن عبدالعزيز - رحمه الله - مما أورده ابن قتيبة في "عيون الأخبار" قال: "حدَّثني أبو سهل، عن إسحاق بن سليمان، عن شعيب بن صفوان، عن رجل مِن آل سعيد بن العاص قال: كان آخِر خطبة خطَب بها عمر بن عبدالعزيز - رحمه الله - أن حمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
"أما بعد، فإنكم لم تُخلَقوا عبثًا، ولن تُتركوا سدًى، وإن لكم معادًا ينزل الله للحكم فيكم والفصل بينكم، فخاب وخسر مَن خرَج مِن رحمة الله وحُرم جنة عرضها السموات والأرض، ألم تعلموا أنه لا يأمن غدًا إلا مَن حذر اليوم وخاف، وباع نافدًا بباقٍ، وقليلاً بكثيرٍ، وخوفًا بأمان، ألا ترون أنكم في أسلاب الهالكين، وسنكون مِن بعدكم للباقين كذلك، حتى نُردَّ إلى خير الوارثين، ثم إنكم في كل يوم تُشيِّعون غاديًا ورائحًا إلى الله قد قضى نحبه حتى تُغيِّبوه في صدع مِن الأرض في بطن صدع غير موسَّد ولا ممهَّد، قد فارق الأحباب، وباشرَ التراب، وواجه الحساب؛ فهو مُرتهن بعمَلِه، غنيٌّ عما ترك، فقير إلى ما قدم، فاتقوا الله قبل انقضاء مواقيته، ونزول الموت بكم، أما إني أقول هذا وما أعلم أن عند أحد من الذنوب أكثر مما عندي، فأستغفر الله وأتوب إليه"، ثم رفع طرف ردائه على وجهِه فبكى وأبكى مَن حوله[1].
وبعد، فإن من خصائص هذه الخطبة النادرة:
ليس غريبًا أن يحظى الأدب في العهد الأموي ببدائع مِن جيِّد المنظوم والمنثور سواء مِن كلام الطبَقة العامَّة أو الخاصة؛ ذلك لأن العهد الأموي أقرب العهود إلى عصر النبوة وعصر الخلفاء الراشدين علمًا وأدبًا وخلُقًا واجتماعًا، فلا بد أن يكون أدباء ذلك العصر سلائل مدرسة النبوة، بل مدرسة القرآن الكريم، وبخاصة إذا كان الأديب حاكمًا يَسوس المجتمع المسلم ويَحكمه بشرع لا يَنزع عن رأي أو كلمة إلا بميزان عدل في جميع الحقوق، وإذا كان للتأثير بالرأي والفعل مكانته، فإن للكلمة قيمتها في التأثير والإمتاع إذا صدرت مِن أديب حاكم عادل كعمر بن عبدالعزيز - رحمه الله.
والفيصل في ذلك ما أورده أبو هلال العسكري في وصف اللسان المبين وتأثير الكلمة بواسطته إذ قال: "قال بعض الحكماء لابنه: يا بني، اللسان أداة يظهر بها البيان، وشاهد يُخبر عن الضمير، وحاكم يُفصل به الخطاب، وناطق يُراد به الجواب، وشافع تُدرك به الحاجة، ومُعزٌّ يردُّ الأحزان، وواعظ ينهى عن القبيح، ومُزيِّن يدعو إلى الحسن، وزارع يَحرث المودة، وحاصد يذهب بالضغين، ألا ترى أن الله - تعالى - رفع درجة اللسان بأن أنطقه بالتوحيد، وليس شيء من الجوارح ينطق به غيره؟"، قال أبو هلال - في معرض كلامه على المعاني الأدبية السامية المؤداة باللسان المبين الذي يُحتجُّ به في تفضيل الكلام على الصمت -: "ومِن أجود ما احتجَّ به للكلام ما أخبرنا به أبو أحمد، قال: حدثنا أبو تمام قال: تذكَّرنا الكلام في مجلس سعيد بن عبدالعزيز التنوخي، وحُسنَه والصمْت ونُبلَه، فقال سعيد: "ليس النجم كالقمر، إنك إنما تمدح السكوت بالكلام، ولا تمدح الكلام بالسكوت، وما أنبأ عن شيء فهو أكبر منه"، قال: وذُكر الكلام في مجلس سليمان بن عبدالملك فذمَّه أهل المجلس فقال سليمان: "كلا، إن مَن تكلم فأحسَنَ، قَدَرَ أن يَسكت فيُحسن، وليس كل مَن سكَت فأحسن، قَدَرَ أن يتكلم فيُحسن"[2].
وإذا كان مِن خصائص الكلام الأدبي ما نوَّه عنه أبو هلال في هذه النصوص؛ من حيث إحراز الفضيلة لمعالي الأمور من خلال الكلمة، فأين نضع خطبة الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز في نصِّها لفظًا ومعنى؟
قبل أن نتبيَّن شيئًا مِن الخصائص الفنية في هذه القطعة الأدبية البديعيَّة يَحسُن أن نشير إلى ما يتناقله النقاد العرب - قديمًا وحديثًا - عن الأسس الخطابية التي وطَّد دعائمها - في نظر هؤلاء النقاد - رائد الفكر اليوناني "أرسطو"؛ حيث جعل منها عددًا من الأسس الهامة في إنشاء الخطبة لفظًا ومعنى، وجعل هذه الأسس النقدية في تقويم هذا اللون من الأدب الذي عزا جودته إلى اعتماد الخطبة على ما يلي:
1- المقولات؛ وتعني الأدوات التعبيرية التي يؤدى بها المعنى.
2- التفسير؛ أي: بسط الفِكرة وشرحها للمُتلقين.
3- تحليل القياس؛ ويجري ذلك في تطبيق فكرة على فكرة، مما يجري في الأعرف لدى كل مجتمع.
4- البرهان؛ ويعني سطوع الحُجَّة وقيام الدليل العقلي على ما يَرمي إليه الخطيب.
5- الجدل[3]؛ ويعني ذلك قوة المحاكمة والعرض والبرهنة على ما يُختلف عليه مِن معانٍ تَفرض نظامًا، أو تدعو إلى إسقاط نظام آخَر، وإيجاد بديل عنه.
إن كل هذه الأسس التي كثر ذكرها في آثار "أرسطو" وبخاصة كتابه "الخطابة" وكتابه "الشعر" قد أصبحت مجال بحث ونظر لعدد من علماء الإسلام ومفكِّريه على الرغم من غناء الفكر الإسلامي ومدده الفياض النابع مِن هدي القرآن الكريم والسنة الشريفة وكلام الأنبياء والأدباء من مفكري الإسلام قديمًا وحديثًا.
وإنما أوردتُ هذا الكلام لكي تتَّضح الرؤية الأدبية في كلام عمر بن عبدالعزيز في ذلك الطراز العالي من الأدب الإسلامي الذي لم يكن بحاجة إلى الأخذ بآراء "أرسطو" في تقويم العبارة الأدبية.
وإذا كان في الفكر اليوناني مَن أسَّس دعائم النصِّ الأدبي في تقويمه كأرسطو وغيره، فإن في أدباء الإسلام مَن أربى على أُسُس أرسطو، وانطلق بالرؤية الأدبية نحو الجودة والإبداع.
وحسبُنا في ذلك أدب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأدب صحابته وأدب الأمة من الرعيل الأول والسلف، ومَن حذا حذوهم في تقويم العمل الأدبي مِن الخلف، أولئك الذين يَقِفون عند اللفظة الواحدة، ويُشبعون الكلام عليها، حتى تستقرَّ في نسق الكلام مؤثرة أو تنفر منه نابية مستكرهة.
وحسبُنا في ذلك بـ: "البيان والتبيين"؛ للجاحظ، و"الصناعتين"؛ لأبي هلال العسكري، و"سر الفصاحة"؛ لابن سنان الخفاجي، وآثار عبدالقاهر الجرجاني، و"المثل الثائر"؛ لابن الأثير، و"زهر الآداب"؛ للحصري، و"يتيمة الدهر"؛ للثعالبي، و"العقد الفريد"؛ لابن عبدربه، وغيرها مما لا يُحصى عددًا.
وإذا كان من الخصائص الفنية - التي تُضفي على النص الأدبي مما يَجعل النقاد وصفًا للألفاظ - كالقوة والوضوح والجمال؛ فإن هذه النعوت مِن أجلِّ الخصائص الفنية لخطبة عمر بن عبدالعزيز.
"والوضوح ألزم صفات الأسلوب الأدبي، وأَولاها بالرعاية؛ لأنه يحقِّق الغاية الأساسية وهي الإفهام، ويكون ذلك بإيقاظ العقول الخامدة، وبعْث الشعور والحماسة، وإثارة العواطف في نفوس المتلقِّين، وبذلك يهب النص الأدبي للأفكار حياةً أقوى مِن حياتها العقلية لتكون مُمتعة مؤثِّرة، فهذه الحياة أو هذه الخصوصية هي التي تسمَّى القوة، والقوة صفة نفسية تَنبع أول أمرها مِن نفس الأديب الذي يجب أن يكون متأثِّرًا مُنفعلاً إذا شاء مِن قرَّائه حماسة وقبولاً وانفعالاً، والقوة بذلك تَعني صفة العاطفة والإرادة والأخلاق قبل أن تكون صفة الأسلوب"[4].
وإذا فحصنا كلام عمر - رحمه الله - ووضعناه على محك هذا المقياس النقدي - أعني مقياس قوة الألفاظ ووضوحها وجمالها - فسنلقى عددًا من الفقرات ذات الطابع الفني الجميل الذي يَحمل تلك الخصائص؛ مثل قوله: "فإنكم لم تُخلقوا عبثًا"، "وإن لكم معادًا ينزل الله للحكم فيكم، والفصل بينكم"، "ألم تعلموا أنه لا يأمن غدًا إلا مَن حذر اليوم وخاف"، "وباع نافدًا بباقٍ"، "وقليلاً بكثير"، "وخوفًا بأمان".
إن هذه الألفاظ في هذه الجمل والتراكيب تشكِّل أسلوبًا بيانيًّا فريدًا رائعًا؛ حيث لا غرابة ولا تعقيد، وإنما سلاسة وعذوبة ووضوح وجزالة وجمال.
وفوق أنها بهذه النعوت فهي خدمة للمعنى؛ حيث تناسُق رصف الجملة والتركيب في عدد من الفقر التي تتراوح بين الطول والقصر، مع ما ازدان بها نظمًا مِن تلك المُقابَلات الفنية العجيبة بين قوله:
"نافدًا بباق"، "قليلاً بكثير"، "خوفًا بأمان"، "الهالكين والباقين"، "غاديًا ورائحًا إلى الله"، "غني عما ترك، فقير إلى ما قدَّم".
وإذا كان من الخصائص الفنية التي تُجلي النص الأدبي، وتغشيه بالقبول، وتمنحه سِمة التأثير والخلود، مما يَجري على لسان قائله؛ مِن سَوق الحِكَم الصائبة، وضرب الأمثال السائرة، والاقتباس اللطيف من آيات القرآن الكريم والحديث النبويِّ الشريف، فإن في كلام عمر - رحمه الله - مِن هذه الخصائص ما جعل خطبته تلك في أعلى الطبقة العُليا مِن مدارج البيان بعد القرآن الكريم والحديث الشريف، ومِن جُملة هذه النعوت التي تميَّزت بها كلمات هذا النص قوله: "وحُرِم جنَّة عرضها السموات والأرض" مِن آية قرآنية، "فهو مرتهن بعمله، غني عما ترك، فقير إلى ما قدَّم"، هذه الجمل المتساوقة مِن حديث نبويٍّ شريف، وهو قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا مات الرجل صحبَه ثلاثة؛ أهله، وماله، وعمله، فيرجع اثنان ويبقى الثالث؛ يرجع أهله وماله، ويبقى عمله))[5].
ومِن الحكم الصائبة قوله: "لا يأمن غدًا إلا مَن حذر اليوم".
[1] عيون الأخبار لابن قتيبة ص 246 جـ2، المؤسسة المصرية العامة.
[2] ديوان المعاني لأبي هلال العسكري جـ1 ص 149، تصحيح: الدكتور كرنكو، مكتبة القدس، القاهرة.
[3] دائرة المعارف الإسلامية جـ2 ص 589، إعداد: إبراهيم خورشيد، أحمد الشنتاوي د. عبدالحميد يونس.
[4] الأسلوب لأحمد الشايب، ص 164، بتصرف.
[5] الحديث في البخاري.
التعليقات