اقتباس
ولقد أعطى المأمون في خطبته هذه عطاء مَن يَعرف الأدب، ويدرك مدى تأثير الكلمة قبل إخراجها؛ ولذلك تنوعت أفكار خطبتِه في إطارها التعبيري، فانتظمَت في ثناياها عددًا مِن بسط القيَم الخلُقية؛ كشَرحِ مفهوم التقوى، والحذر مِن الركون إلى الدنيا، وشرح معنى الصلاح..
وما دام الكلام على نصوص الخطابة لم يزل متَّصلاً أولاً بآخَر، فهذه خطبة أخرى للخليفة العباسي أبي العباس عبدالله بن هارون الرشيد؛ حيث أشرنا إلى اختيارها فيما تحدثنا عنه سابقًا.
ذكر ابن قتيبة -في عيون الأخبار- خطبة أبي العباس المأمون عبدالله بن هارون الرشيد في يوم الفطر بعد التكبير ما نصُّه:
"إن يومكم هذا يوم عيد وسنَّة، وابتهال ورغبة، يومٌ ختَم الله -تعالى- به صيام شهر رمضان، وافتتح به حجَّ بيته الحرام، فجعله خاتمة الشهر، وأول أيام شهور الحج، وجعله معقِّبًا لمفروض صيامكم، ومُتنقِّل قيامكم، أحلَّ فيه الطعام لكم؟ وحرَّم فيه الصيام عليكم، فاطلبوا إلى الله -تعالى- حوائجكم، واستغفروه لتَفريطِكم؛ فإنه يُقال: لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار، ثم التكبير والتحميد وذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- والوصية بالتقوى، ثم قال: فاتقوا الله -عباد الله-، وبادروا الأمر الذي اعتدل فيه يَقينُكم، ولم يَحتضر الشك فيه أحدًا منكم، وهو الموت المكتوب عليكم؛ فإنه لا تُستقال بعده عثرَة، ولا تُحظَر قبله توبة، واعلموا أنه لا شيء قبله إلا دونه، ولا شيء بعده إلا فوقه، ولا يُعين على جزعه وعلَزه [*] وكربه، ولا يُعين على القبر وظلمته وضيقه ووحشته وهول مطلعه ومسائلة ملائكته، إلا العمل الصالح الذي أمر الله -تعالى- به، فمَن زلَّت عند الموت قدمه فقد ظهَرت ندامته، وفاتته استقالته، ودعا من الرجعة إلى ما لا يُجاب إليه، وبذل مِن الفدية ما لا يُقبل منه.
اللهَ اللهَ عباد الله، كونوا قومًا سألوا الرجعة فأعطوها؛ إذ منعها الذين طلَبوها، فإنه ليس يتمنى المُتقدِّمون قبلَكم إلا هذا المَهَل(1) المبسوط لكم، واحذروا ما حذركم الله -تعالى- منه، واتقوا اليوم الذي يجمعكم الله فيه لوضع موازينكم، ونشر صحفكم الحافظة لأعمالكم، فلينظر عندما يضع في ميزانه مما يَثقُل به، وما يُمِل(2) في صحيفته الحافظة لما عليه وله، فقد حكى الله -تعالى- لكم ما قال المُفرِّطون عندها؛ إذ طال إعراضهم عنها قال: (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ)[الكهف: 49]، وقال: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ)[الأنبياء: 47].
ولستُ أنهاكم عن الدنيا بأعظم مما نهتْكُم الدنيا عن نفسها؛ فإنه كل ما لها يَنهى عنها، وكل ما فيها يدعو إلى غيرها، وأعظم مما رأته أعينكم مِن عجائبها ذمُّ كتاب الله -تعالى- لها، ونهْيُ الله عنها؛ فإنه يقول: (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ)[لقمان: 33]، وقال: (إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ)[محمد: 36].
فانتفعوا بمعرفتكم بها، وبإخبار الله -تعالى- عنها، واعلموا أن قومًا مِن عباد الله أدركتهم عصمة الله -تعالى- فحذروا مصارعها، وجانبوا خدائعها، وآثروا طاعة الله -تعالى- فيها، فأدركوا الجنة بما تركوا منها(3).
أيها الأفاضل: إذا تأملنا أفكار هذا النص مِن خطبة المأمون أدركْنا سِرَّ الإيمان وعظمته، وكيف يَصنع في القلوب اليَقِظة والضمائر الحيَّة والنفوس الزكية والأرواح المطمئنَّة.
فإن تعابير هذه الخطبة مواعظ زاجرة، وعِبر مؤثرة، وأقوال تنمُّ عن حصافة عقل ونضْح عاطفة دينيَّة، وَقُودها الآيات، والأحاديث الشريفة، والتفكير في عظمة الخالق، على حدِّ ما قال الإمام ابن الجوزي:
"تأملت على أكثر الناس عباداتهم فإذا هي عادات، فأما أرباب اليقظة فعاداتهم عبادة حقيقية، فإن الغافل يقول: "سبحان الله" عادةً، والمتيقِّظ لا يزال فكره في عجائب المخلوقات، أو في عظمة الخالق، فيُحرِّكه الفِكر فيقول: "سبحان الله".
ولو أن إنسانًا تفكَّر في رمانة فنظر في تصفيف حبها وحفظه بالأغشية لئلا يتضاءل، وإقامة الماء على عظم العجم، وجعل الغشاء عليه يَحفظه، وتصوير الفرخ في بطن البيضة، والآدمي في حشا الأم، إلى غير ذلك من المخلوقات، دفعه كل ذلك إلى تعظيم الخالق، فقال: "سبحان الله"، وكان هذا التفكير ثمرةَ الفِكر(4).
وثمر هذا التفكير لدى الأديب المسلم يعني أن مِن أرقى وظائف الأدب أن يظلَّ مرآة صادقة تَعكِس ما للأمة والشعب مِن دَور حضاري، وأن يُعبِّر الأدب عن خلجات وأفكار نفسٍ إنسانيَّة حيَّة تَعمل لرفعة الفرد والجماعة على حدٍّ سواء، والأدب الإسلامي أدعى إلى التأثير بما يعيشه المجتمع المسلم في مكان وزمان مِن تفاعلات وأحداث، ووقائع وسِيَر، يَزنها الأديب شاعرًا أو ناثرًا بالقسطاس المستقيم، ناصحًا ومرشدًا وموجِّهًا، أو متألمًا نادبًا متحسِّرًا، إن كانت هذه الأحداث والوقائع والتفاعلات تسير في خط مُعاكس لما يجب أن يكون عليه المسلم مِن تبصُّر وتبصير بحياته، وفردًا مُسلمًا يَنتمي إلى مجتمع مسلم، له كيانه ومآله ومصيره وقيمته بين الناس كافة.
وما دام الأمر كذلك فإن الأدب الإسلامي هو ذلك العامل الأساس، والأداة الفعالة التي تحرِّك عجلة المجتمع المسلم وتديره، لتعمل وَفْق ناموس طبيعي يؤثر ويُنتج بقدر ما تتَّحد الأهداف، وتتَّجه الآمال، ويحسن العطاء معطيه، ويحسن المتلقي أخذ ما يُسدى إليه.
ولقد أعطى المأمون في خطبته هذه عطاء مَن يَعرف الأدب، ويدرك مدى تأثير الكلمة قبل إخراجها؛ ولذلك تنوعت أفكار خطبتِه في إطارها التعبيري، فانتظمَت في ثناياها عددًا مِن بسط القيَم الخلُقية؛ كشَرحِ مفهوم التقوى، والحذر مِن الركون إلى الدنيا، وشرح معنى الصلاح.
فمفهوم التقوى -كما جاء في نص الخطبة- أن تُقرن بالعمل الصالح والاستعداد لما اعتدل فيه اليقين، ولم يحتضر الشك فيه، وهو الموت، وأن يبادر بالأعمال الصالحة؛ لتحقيق تقوى الله -عز وجل- "فاتقوا الله عباد الله، وبادروا الأمر الذي اعتدل فيه يقينكم، ولم يحتضر الشكُّ فيه أحدًا منكم".
والتحذير من الركون إلى الدنيا يأتي في أسلوب مِن السهل المُمتنِع؛ فعبارة تذمُّ وتقدح في الدنيا والركون إليها، وعبارة تَعتدِل في تقويم النظرة إلى هذه الحياة، وأنها وسيلة لا غاية.
فمِن الصيغة الأولى قوله -رحمه الله-: "ولستُ أنهاكم عن الدنيا بأعظم مما نهتْكم الدنيا عن نفسها؛ فإن كل ما لها يَنهى عنها، وكل ما فيها يدعو إلى غيرها".
ومِن الصيغة الثانية قوله: "فانتفعوا بمعرفتكم بها، وبإخبار الله عنها، واعلموا أن قومًا مِن عباد الله أدركتْهم عصمة الله -تعالى- فحذروا مصارَعها، وجنبوا خدائعها، وآثروا طاعة الله فيها، فأدركوا الجنة بما تركوا منها".
ويأتي شرح معنى الصلاح والاستقامة على منهج الله -تعالى- يأتي في أسلوب رصين محكم تتراوح فِقَره بين الطول والقِصَر؛ كقوله - رحمه الله -: "كونوا قومًا سألوا الرجعة فأُعطُوها، إذ مُنعها الذين طلبوها، فإنه ليس يتمنى المتقدِّمون قبلكم إلا هذا المهَل المبسوط لكم..." إلى قوله: "فلينظر عبدٌ ما يضع في ميزانه مما يثقل به، وما يُمِل في صحيفته الحافظة لما عليه وله".
والخلاصة: أن هذا النصَّ قد جمع مِن القيَم الخلُقية في إطاره ما يثقل به الكلام في التأثير؛ لأن مجمع الخلق القويم إنما يكون في السلوك، ومتى حَسُن سلوك المرء حَسُن خُلقه، ومتى حسن خلقه حَسُن كلامه، ومتى اجتمعت له هذه القيم مال إلى الصلاح والتقوى التي هي الأصل الخلُقي الذي تتفرَّع منه القيم الإسلامية كلها؛ فهي الباعث المُلهِم لمَحامِد الأخلاق، وهي الصمام الذي يَحكم كل قول ويَضبِط كل فعل؛ ولذلك نلحظ في نصِّ هذه الخطبة وفي غيرها من نصوص الخطابة الإسلامية أن نص الخطابة في الإسلام قد سايَر هذه التعاليم الدينيَّة الهادفة المُلتزِمة لمَحامد الأخلاق(5)
وكثرة تلك النصوص التي سارت في هذا الاتجاه منذ عهد محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى العهد الأموي كله والصدر الأول من العهد العباسي، وما وليه من عصور الأدب، إلى عصر النهضة الحديثة الذي لم تزل منابر الخطابة فيه تضجُّ بعبارة الوعظ والإرشاد والتوجيه، وحسْبُنا في هذا خطب الدعاة والعلماء الذين لا يزالون ينافحون عن دين الله بالكلمة الطيبة، ويَنشرونه بين الناس وَفق منهج سليم فكريًّا وأدبيًّا وعلميًّا، فهو جهاد بالنفس والمال والسلاح والكلمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ونلحظ في جميع الخطب الإسلامية خلوَّها مِن زخرُف القول والصنعة؛ لاتجاهها إلى شرح حقائق الإسلام وتبيُّن نظامه وبسْطِ أحكامه، ومثل هذا الشأن لا يَصلُح فيه أسلوب المَجازات وأسلوب الصنعة الكلاميَّة، فهو إلى أسلوب الحقيقة أحوَج؛ لقيامه بشرح الحقيقة المتمثِّلة في حقيقة هذا الدين الحنيف.
وإذا كان للخطابة الإسلامية من التأثير ما أمكن أن نوضِّح شيئًا منه على غرار ما سبق ذكره من شواهد هذا اللون الأدبي، فإن في نصوص القصة الإسلامية ما ينهض بمثل هذه القيم، وهذا ما سنقف عليه في الفصل الثاني من هذه الدراسة.
________
[*] العلز بالتحريك: الضجر، والعلز - أيضًا - شبه رعشة تأخذ المريض أو الحريص على شيء، والعلَز - أيضًا - القلق والكرب عند الموت؛ لسان العرب، مادة " علز" ص 380.
[1] المهَل - بالتحريك - أي: اتَّأد وتقدَّم في الخير، أساس البلاغة للزمخشري، من مادة "مهل".
[2] يُمِل - بضم الياء وكسر الميم - أي: أملى الكتاب، والمليُّ: الزمان الطويل؛ مختار الصحاح للرازي، مادة ملل.
[3] عيون الأخبار لابن قتيبة ج2 ص 255، 256.
[4] صيد الخاطر لابن الجوزي ص341 - دار الفكر، مراجعة وتحقيق: علي الطنطاوي، وناجي الطنطاوي.
المصدر/ الألوكة
التعليقات