اقتباس
الخطاط بن مقلة: يذكر أنه كان يعاني من عدم مقدرته على نطق حرف الراء ولكن عنايته بلسانه من حيث كثرة المفردات اللغوية والمترادفات جعلته يحسن البدائل اللغوية وقت ما شاء"، ولقد أراد بعضهم أن يحرج الخطاط أمام الأمير بعدم...
تحدثنا في بداية هذه السلسلة عن فن الخطابة، وعن بعض النقاط المهمة التي ينبغي مراعاتها حتى تكون متحدثًا بارعًا ومؤثرًا، وأشرنا إلى بعض المواقف التي سببت إحراجًا لبعض الخطباء، وماذا ينبغي على الخطيب فعله لكي يكون مستعدًا لها، ونحب أن نطرح بين أيديكم اليوم بعض النماذج التي اعتنت بتطوير ذاتها في جانب اللغة وتحصيل الكم الهائل من ثروة لغوية جعلها لا تهاب المواقف، ولا تقع في مواقف محرجة بل كان لها الأثر الفعّال في الخطابة، ولعلنا نقتدي بهم في العناية بهذا الجانب المهم، ومن هذه الشخصيات:
• محمد -صلى الله عليه وسلم- كان أفصح الناس لسانًا وأبلغهم بيانًا، تقول عائشة: " كان كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصلا يفهمه كل من يسمعه"، يعني (واضحًا بينا).
• علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-؛ فقد اشتهر بفصاحته وبلاغته، فله من المقولات والخطب الرائعة التي تكتب بماء الذهب.
• واصل بن عطاء: هو أبو حذيفة واصل بن عطاء المخزومي الملقب بالغزال الألثغ، وكان معجزة في اللغة بحق؛ حيث أنه يجتنب حرف الراء فلا ينطقه ويتكلم بسرعة بديهة بحيث لا يعلم من جالسه أنه ألثغ، وهو معتزلي سمي بذلك لأنه اعتزل حلقة الحسن البصري - رحمه الله، وقد خطب خطبة طويلة لا راء فيها سأذكرها لك لتعلم أخي القارئ أن هذه الثروة اللغوية التي لديه ما جاءت من فراغ وإنما بعنايته بها، وإلا فكم من العرب عاش قبله وبعده ولم تذكر براعته في هذا الفن كما ذكر واصل بن عطاء، وهذا يدل على التميّز الذي امتاز به عن غيره، وإليك خطبته:
"الحمد لله القديم بلا غاية، والباقي بلا نهاية، الذي علا في دنوه، ودنا في علوه، فلا يحويه زمان، ولا يحيط به مكان، ولا يؤوده حفظ ما خلق، ولم يخلقه على مثال سبق، بل أنشأه ابتداعًا، وعد له اصطناعًا، فأحسن كل شيء خلقه وتمم مشيئته، وأوضح حكمته، فدل على ألوهيته، فسبحانه لا معقب لحكمه، ولا دافع لقضائه، تواضع كل شيء لعظمته، وذل كل شيء لسلطانه، ووسع كل شيء فضله، لا يعزب عنه مثقال حبة وهو السميع العليم، وأشهد أن لا إله إلا وحده لا مثيل له، إلهًا تقدست أسماؤه وعظمت آلاؤه، علا عن صفات كل مخلوق، وتنزه عن شبه كل مصنوع، فلا تبلغه الأوهام، ولا تحيط به العقول ولا الأفهام، يُعطي فيحلم، ويدعى فيسمع، ويقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات ويعلم ما يفعلون. وأشهد شهادة حق، وقول صدق، بإخلاص نية، وصدق طوية، أن محمد بن عبد الله عبده ونبيه، وخاصته وصفيه، ابتعثه إلى خلقه بالبينات والهدى ودين الحق، فبلغ مألُكتَهَ، ونصح لأمته، وجاهد في سبيله، لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا يصده عنه زعم زاعم، ماضيًا على سنته، موفيًا على قصده، حتى أتاه اليقين. فصلى الله على محمد وعلى آل محمد أفضل وأزكى، وأتم وأنمى، وأجل وأعلى صلاة صلاها على صفوة أنبيائه، وخالصة ملائكته، وأضعاف ذلك، إنه حميد مجيد.
أوصيكم -عباد الله- مع نفسي بتقوى الله والعمل بطاعته، والمجانبة لمعصيته، فأحضكم على ما يدنيكم منه، ويزلفكم لديه، فإن تقوى الله أفضل زاد، وأحسن عاقبة في معاد. ولا تلهينكم الحياة الدنيا بزينتها وخدعها، وفوائن لذاتها، وشهوات آمالها، فإنها متاع قليل، ومدة إلى حين، وكل شيء منها يزول، فكم عاينتم من أعاجيبها، وكم نصبت لكم من حبائلها، وأهلكت ممن جنح إليها واعتمد عليها، أذاقتهم حلوًا، ومزجت لهم سمًا. أين الملوك الذين بنوا المدائن، وشيدوا المصانع، وأوثقوا الأبواب، وكاثفوا الحجاب، وأعدوا الجياد، وملكوا البلاد، واستخدموا التلاد، قبضتهم بمخلبها، وطحنتهم بكلكلها، وعضتهم بأنيابها، وعاضتهم من السعة ضيقا، ومن العز ذلًا، ومن الحيلة فناء، فسكنوا اللحود، وأكلهم الدود، وأصبحوا لا تعاينُ إلا مساكنهم، ولا تجد إلا معالمهم، ولا تحسس منهم أحد ولا تسمع لهم نَبسًا، فتزودوا عافاكم الله فإن أفضل الزاد التقوى، واتقوا الله يا أولى الألباب لغلكم تفلحون. جعلنا الله وإياكم ممن ينتفع بمواعظه، ويعمل لحظه وسعادته، وممن يستمع القول فيتبع أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب. إن أحسن قصص المؤمنين، وأبلغ مواعظ المتقين كتاب الله، الزكية آياته، الواضحة بيناته، فإذا تلي عليكم فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم تهتدون.
أعوذ بالله القوي، من الشيطان الغوي، إن الله هو السميع العليم -بسم الله الفتاح المنان- (قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد).
نفعنا الله وإياكم بالكتاب الحكيم، وبالآيات والوحي المبين، وأعاذنا وإياكم من العذاب الأليم. وأدخلنا جنات النعيم. وأقول ما به أعظكم، وأستعتبُ الله لي ولكم."
فلاحظ مع طول هذه الخطبة البليغة إلا أنه لم يوجد فيها حرف الراء، وقد سجّل شاعران معاصران لواصل هذا الحادث تسجيلا صادقًا، أحدهما بشار، يقول في كملة له:
أبا حذيفة قد أوتيت معجبةً *** في خطبة بدهَتْ من غير تقدير
وإن قولًا يروق الخالَدينِ معا *** لمسكت مخرِسٌ عن كل تحبير
وقال بشار أيضًا:
تكلّفوا القول والأقوام قد حفلوا *** وحبَّروا خطبًا ناهيك من خطب
فقام مرتجلا تغلى بُداهته *** كمِرجل القين لما حُفّ باللهب
وجابَ الراء لم يشعر بها أحد *** قبل التصفيح والإغراق في الطلب
وقال أيضًا:
فهذا بديهٌ لا كتحبير قائل *** إذا ما أراد القوال زوّره شهرا
والشاعر الآخر المعاصر هو صفوان الأنصاري، يقول في كلمة له:
فسائل بعيد الله في يوم حفلهِ *** وذاك مقام لا يشاهده وغدُ
أقام شبيبًا وابن صفوان قبله *** يقول خطيبٍ لا يجانبهُ القصد
أقام ابن عيس ثم قفّاه واصل *** فأبدع قولًا ما له في الورى ندٌّ
فما نقصته الراء إذ كان قادرًا *** على تركها واللفظ مطرّد سَرْد
ففضّل عبد الله خطبهَ واصلٍ *** وضوعف في قَسم الصلات له الشُّكْد
فأقنع كلَّ القوم شكر حبائهم *** وقلل ذاك الضعف في عينه الزهدُ
وقد ذكر صاحب كتاب (البلاغة الميسرة للحربي/ 7) قال: "مرّ يومًا بأناس فأرادوا أن يتضاحكُوا من لَثغته، فقالوا له: كيفَ تقولُ: جرَّ رمحَه، وركبَ فرَسَه، وأمرَ الأميرُ بحفر بئر على قارعة الطّريق؟
فقال من فوره: سحبَ ذَابلَه، وامتطى جوادَه، وأوجبَ الخليفةُ نقْبَ قليب على الجادّة. اهـ.
فانظر إلى هذه البلاغة والفصاحة وأين نحن منها نسأل الله أن يوفقنا للعناية بلغتنا عناية فائقة.
الخطاط بن مقلة: يذكر أنه كان يعاني من عدم مقدرته على نطق حرف الراء ولكن عنايته بلسانه من حيث كثرة المفردات اللغوية والمترادفات جعلته يحسن البدائل اللغوية وقت ما شاء"، ولقد أراد بعضهم أن يحرج الخطاط أمام الأمير بعدم قدرته على نطق حرف للراء فكتب رقعة وملأها بالراءات واستوصى بسطر منها حيث حشاه راءات فقال فيه: أمر أمير المؤمنين أن تحفر بئر على قارعة الطريق ليشرب منها الشارد والوارد.
وطلب من الخطاط أن يقرأها أمام الأمير، فلما تفاجأ الخطاط بالرقعة وما فيها من الراءات اسعفته سرعة بديهته وثروته اللغوية التي استدعاها من مخزون ذاكرته في لحظة لا تفكير فيها فقال: حكم حاكم الحكام أن تجعل جبّ على حافة الوادي ليستقي منها الغادي والبادي".
فلاحظ أن الكلمات تغيرت ولكن المعنى هو المعنى لم يتغير فلولم يكن معتنيا بلغته ولسانه لأضحك الحاضرين عليه ولأوقع نفسه في إحراج بسبب لثغته التي ابتلي بها.
فانظر إلى هذه النماذج المؤثرة التي سردتها لك، كيف جذبت الناس وأثّرت فيهم من خلال عنايتهم بأقوى سلاح إنه: اللسان الذي تمتلكه بين فكيك، فهو إن اعتنيت به سحبت به الرجال إلى ما تريد، وإن أطلقته من غير رعاية واهتمام، سحوبك به الرجال إلى ما يريدون.
هذه نماذج ذكرتها لك لتزرع فيك الحماس وترفع لديك الهمّة وقد أطلت فيها الحديث لأهميتها في قوة التأثير وجذب الناس، فاعتن بلسانك لكي تكون جذابا في حديثك.
تنبيه:
احذر من أول كلمة تطرق بها أسماع الناس أن تكون جذابة فهي التي تعطي عنك انطباعا لدى الآخرين لن ينسوه أبدًا.
الألوكة
التعليقات