عناصر الخطبة
1/ هبت رياح الحج 2/ مناسك الحج تذكرنا بتاريخ وذكريات جليلة 3/ وصف أجزاء من حجة النبي -صلى الله عليه وسلم- 4/ معالم من خطبة النبي -صلى الله عليه وسلم- في عرفة 5/ وجوب مخالفة المشركين 6/ فضائل مكة والحرم وبركتهما 7/ الواجب على الحجاج وواجبات أهل مكة نحوهماهداف الخطبة
اقتباس
شُعورٌ يهفُو بالفُؤاد إلى الأرض المُقدَّسة، يملأ النفسَ أشجانًا تسمُو به الروحُ، وتأسِرُ القلب .. عواطِفُ يمتزِجُ فيها الأملُ بالوجل، والإشفاقُ بالرَّجاء، والحبُّ بالشوق والحَنين.. تمُورُ بالنفس تلك العواطِفُ والأشجان منذ أن عزَمَت على الرحيل إلى بيت الله الحرام، فتتمثَّلُ لها مكةُ ومُقدَّساتُها، وطيبةُ وأنوارُها، وتصعَدُ بها ذاكرتُها إلى الماضِي البعيد، فتستعرِضُ قُريشًا وآثارَها، والدعوةَ الأولى وأسرارَها، وأماكِنَ إن ذُكِرَت أهاجَت القلبَ الساكِنَ، وحرَّكَت الغرامَ الكامِن .. وما ذِكراها إلا رمزٌ لكل ما تعلَّق بها من مشاعِر وذِكريات.
الخطبة الأولى:
الحمد لله خلق الأفئدةَ ويعلمُ سرائرَها، وأهاجَ نفوسَ أصفيائِه لحجِّ بيته الحرام، فحرَّك منها إليها مشاعِرهَا، وجعل الحجَّ المبرورَ ماحيًا للخطايا سرائرِها وكبائرِها، يقِي الله به من كل نفسٍ شرَّها وعواثِرَها، أحمدُ ربي تعالى وأشكرُه، قدَّسَ هذه العرَصَات وأعلى في العالمين مآثِرَها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه شهادةً تُردَّدُ في محارِيبِ المساجِد وتعلُو منائِرَها.
أما بعد: فأُوصِيكم ونفسي بتقوى الله تعالى؛ فهي العُدَّةُ والزاد، وهي المُدَّخرُ ليوم المعاد، (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [البقرة: 197].
أيها المسلمون: في هذه الأيام يستقبلُ المسجدُ الحرامُ طلائعَ الحُجَّاج ووفودَ الرحمن، وتتزيَّنُ مكةُ والمدينةُ لقاصِديها .. فقد هبَّت رياحُ الحجِّ وحلَّت أيامُه المُبارَكات، وها هُم الحُجَّاجُ ومن يتهيَّئون في بلادِهم للحجِّ، تسبِقُهم أشواقُهم، وتُسابِقُهم أحلامُهم لعِناقِ البيت العتيق.
شُعورٌ يهفُو بالفُؤاد إلى الأرض المُقدَّسة، يملأ النفسَ أشجانًا تسمُو به الروحُ، وتأسِرُ القلب .. عواطِفُ يمتزِجُ فيها الأملُ بالوجل، والإشفاقُ بالرَّجاء، والحبُّ بالشوق والحَنين.
تمُورُ بالنفس تلك العواطِفُ والأشجان منذ أن عزَمَت على الرحيل إلى بيت الله الحرام، فتتمثَّلُ لها مكةُ ومُقدَّساتُها، وطيبةُ وأنوارُها، وتصعَدُ بها ذاكرتُها إلى الماضِي البعيد، فتستعرِضُ قُريشًا وآثارَها، والدعوةَ الأولى وأسرارَها، وأماكِنَ إن ذُكِرَت أهاجَت القلبَ الساكِنَ، وحرَّكَت الغرامَ الكامِن .. وما ذِكراها إلا رمزٌ لكل ما تعلَّق بها من مشاعِر وذِكريات.
فالكعبةُ والبيت الحرام .. وحِراءُ وزمزمُ ومقامُ إبراهيم .. وغارُ ثورٍ وخيفُ مِنَى .. ووادي عرفة، ومسجد نمرة، وبطنُ الصفا، ودارُ الأرقم، والمشعَرُ الحرام، وشامةُ وطَفيل .. ومُزدلِفةُ وثَبير .. وحرَّةُ واقِم .. وبنُو سالِم بن عوف، ومسجدُ قُباء، وبئرُ أريس، وجبلُ أُحُد، والبقيع، والروضةُ بين بيت النبي ومِنبَره، وآثارُ الخندَق وغيرُها.
كلُّ هذه الأسماء في مكَّة والمدينة لها على نفسِك سُلطانٌ حين تذكُرُها، وحين تُمنِّي نفسَك برؤيَتها ومُشاهَدتها، وما تُصوِّرُه لك مما كان فيها من حادِثاتٍ جِسام، فتندفِعُ في بُكاءٍ صامِت، أو مغمورًا في فيضٍ من الشعور بالسرور، أو ذاهِلاً تسيرُ مع تاريخ الإسلام الحيِّ .. فإذا ساعاتٌ عظيمةٌ وانتِصاراتٌ تسمُو على البشريَّة، وإذا ساعاتٌ من الضعف تُثيرُ الشُّجون وتستدِرُّ العيون.
هبَّت رياحُ الحجِّ وحلَّت أيامُه المُبارَكات، فتتذكَّرُ يوم أذَّن النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في الناس بالحجِّ، فجاء الناسُ من كل حدَبٍ وصوبٍ .. من القُرى والبوادِي .. من السهل والجبل .. والوِديان والصحارى .. مُشاةً ورُكبانًا، تحدُوهم الرغبةُ الصادقةُ في حجِّ بيت الله الحرام.
خرجَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بالناس يوم السبت الخامس والعشرين من ذي القعدة، بعد أن صلَّى الظهر بالمدينة، وقد اجتمعَ حولَه أكثرُ من مائةِ ألفِ حاجٍّ.
قال جابرُ - رضي الله عنه - يصِفُ لنا المشهدَ المهيبَ: "فصلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجِد، ثم ركِبَ القصواء، حتى إذا استوَت به ناقتُه على البيداء، نظرتُ إلى مدِّ بصري بين يدَيه من راكبٍ وماشٍ، وعن يمينه مثلُ ذلك، وعن يسارِه مثلُ ذلك، ومن خلفِه مثلُ ذلك، ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهُرنا .. الحديث" (رواه مسلم).
وكأنَّ هذا المشهَدَ العظيمَ يُترجِمُ قولَ الله - عز وجل -: (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال: 62].
وتتذكَّرُ قبل الهِجرة يوم أن كان - صلى الله عليه وسلم - يطُوفُ على القبائِل، قائلاً لهم: «من يُؤوِيني حتى أُبلِّغَ رسالةَ ربِّي وله الجنة؟!». فلا يجِدُ مُلبِّيًا لدعوته، ولا نصيرًا حولَه، ولكنهم اليوم يأتونه من كل فجٍّ عميق. تتأمَّلُ يوم أن خرجَ من مكَّة مُهاجِرًا مُطارَدًا، فلم يكن معه إلا الصدِّيقُ - رضي الله عنه -، يتذكَّرُ الطلبَ فيمشِي أمامَه وخلفَه وعن يمينه وعن شِماله.
أما اليوم فمدُّ بصره من الرجال، يحُوطونَه ويحتَفُّون برِكابِه، (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) [الروم: 47]. إنها السُّنن .. وإنها معالِمُ يهتدِي بها أتباعُ الرُّسُل، كلما كثُر الخبَث، أو ضاقَت بهم السُّبُل.
أيها المؤمنون: هبَّت رياحُ الحجِّ وحلَّت أيامُه المُبارَكات .. وكأننا نستمِعُ إلى خُطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - الخالِدة في حجَّة الوداع؛ حيث خاطبَ أمَّتَه إلى يوم الدين بكلامٍ حقٍّ ووحيٍ لا يُعقَّبُ عليه ولا يُستدرَك، فكان مما قالَه لهم ولنا ولمن سيأتي بعدَنا: «إن دماءَكم وأموالَكم عليكم حرام، فلا ترجِعوا بعدي كفارًا يضرِبُ بعضُكم رِقابَ بعضٍ، وإن رِبا الجاهليَّة موضوع، وقضَى الله أنه لا رِبا، واستَوصُوا بالنساء خيرًا؛ إن لنسائِكم عليكم حقًّا، ولكم عليهنَّ حقٌّ. إن ربَّكم واحد، وإن إلهَكم واحد، كلُّكم لآدم، وآدمُ من تُراب، (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13]».
إنها كلماتُ نبيِّ الله .. أصلُ العدل والصلاح. قرَّر فيها قضايا العقيدة والوحدة والدماء، والأموال والنساء، والإنسانية.
هي القضايا التي يُحدِّثُك تاريخُ البشرية، ويشهَدُ لك واقِعُها المُعاصِر أن جبابِرَة الأرض ومُفسِديها كانوا على الدوامِ يُخلخِلُونها .. فيسعَون لإفساد عقائِد الأنبياء ليسهُلَ اختِراقُ الإنسان بعدَها، ويُكثِرون القتلَ وسفكَ الدماء، وامتِهانَ النساء ليصِلُوا إلى المال والشهَوات، ويُشرِّعون الرِّبا لتكثير المُدَّخرات، والنتيجةُ هي سحقُ الأمم والمُجتمعات، والخرابُ الأخلاقي والأُسري، والدمار النفسي والصحِّي، والأزماتُ المالية والاقتصادية.
أيها المؤمنون: هبَّت رياحُ الحجِّ وحلَّت أيامُه المُبارَكات.. وفيها نُتابِعُ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم-وهو يُعلِنُ في كل موقِفٍ أن نُسُكَه وشِرعتَه مُخالفةٌ لنُسُك المُشركين وشِرعة الكافرين، فتميَّز عنهم وتباعَدَ عن طريقتِهم؛ كان المُشرِكون لا يُفِيضُون من مُزدلِفة حتى تطلُع الشمس، ويقولون: "أشرِق ثَبير كي ما نُغير"، فخالفَهم النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-، وأفاضَ قبل أن تطلُع الشمس، وقال - صلى الله عليه وسلم -: «خالفَ هديُنا هديَ المُشركين»؛ (رواه الإمام أحمد).
يُريدُ لأمَّته أن تكون مُتميِّزةً بهديِها كلِّه؛ فلا تُقلِّدُ الشرق، ولا تتبَعُ الغرب، ولا تخلِطُ شعائِرَها بشعائِرِهم، ولا تُقدِّمُ هديَهم على هديِها.
نبَّه الناسَ إلى أن هذه الأمة هي الأمةُ الوارِثةُ للأنبياء، وأنها موصولةُ التُّراث دومًا بالسماء؛ لما مرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بوادِي عُسفان، قال: «يا أبا بكرٍ! أيُّ وادٍ هذا؟»، قال: وادِي عُسفان. قال: «لقد مرَّ به هودٌ وصالِحٌ على بَكرَين أحمرَين، خُطمُهما اللِّيف، وأُزُرُهم العباء، وأرضيتُهم النِّمار، يُلبُّون يحُجُّون البيتَ العتيق» (أخرجه الإمام أحمد في "المسند").
وحجَّ البيتَ موسى بن عمران ويونسُ بن متَّى -عليهما السلام-، وسيَحُجّه آخر الزمان عيسى - عليه السلام-، قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «والذي نفسي بيدِه؛ ليُهلَّنَّ ابنُ مريمَ بفَجِّ الرَّوحاء، حاجًّا أو مُعتمِرًا، أو ليُثنِّيَهما» (رواه مسلم).
ليُذكِّر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- هذه الأمة، حينما تحُجُّ بيتَ الله الحرام برَكبِ الأنبياء الكِرام الذي تنتمِي إليه، وتمتدُّ جُذورُها لتتَّصِلَ به؛ ليُذكِّرَ هذه الأمةَ أنها في حجِّها على صراط الذين أنعمَ الله عليهم من النبيين والصدِّيقين والشهداء .. أنها على آثار أنبياء الله تقتدِي تسير، (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام: 90].
وقد لفَتَ القرآنُ العظيمُ لهذا بقولِ الحقِّ -سبحانه-: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) [البقرة: 125]، مُوافقةً لإمام الحُنفاء، وأبي الأنبياء إبراهيم -عليه السلام-، ولما دعَا إليه محمدٌ -صلى الله عليه وسلم-.
ترى هذه المواقِفَ والمقامات، وتتمثَّلُ أمامَك قولَ الله -تعالى-: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [البقرة: 127- 129].
وقد كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يقول للناس في حجَّة الوداع: «قِفُوا على مشاعِركم؛ فإنكم على إرثٍ من إِرثِ أبيكم إبراهيم» (أخرجه أصحابُ السُّنن).
(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة: 3]، بهذه الآية تُختَمُ الرسالة، ويُنبِّهُ النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «خُذوا عنِّي مناسِكَكم، فلعلِّي لا ألقاكُم بعد عامِي هذا».
يختِمُ مهمَّته .. ويُودِّعُ أمَّتَه .. ويستودِعُ اللهَ أمانتَه .. ويُشعِرُهم أن الحقَّ لا يموتُ بموتِ أصحابِه.
عن عاصِم بن حُمَيدٍ، أن مُعاذَ بن جبلٍ - رضي الله عنه - لما بعثَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمَن، فخرجَ معه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُوصِيه، ومُعاذٌ راكِبٌ ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يمشِي تحت راحِلَته، فلما فرغَ قال: «يا مُعاذ! إنك عسَى ألا تلقَاني بعد عامِي هذا، ولعلَّك أن تمُرَّ بمسجِدي وقبري». فبكَى مُعاذٌ شَأً لفِراقِ النبي - صلى الله عليه وسلم -.
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تبكِي يا مُعاذ، لا تبكِي يا مُعاذ .. الحديث» (أخرجه الإمام أحمد وغيرُه). وكان الأمرُ كما قال.
أيها المسلمون: هبَّت رياحُ الحجِّ وحلَّت أيامُه المُبارَكات .. ومعها تتشوَّقُ النفوسُ إلى الظَّفَر بالفضل العظيم، وحجِّ بيت الله الكريم، مُستجيبةً لنداء الرحمن: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) [آل عمران: 97]، وقولِ النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أيها الناس! إن الله كتبَ عليكم الحجَّ فحُجُّوا» (رواه مسلم).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: «من حجَّ هذا البيتَ فلم يرفُث ولم يفسُق رجع من ذنوبِه كيومِ ولدَتْه أمُّه» (متفق عليه).
وعنه - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «العُمرةُ إلى العُمرة كفَّارةٌ لما بينهما، والحجُّ المبرورُ ليس له جزاءٌ إلا الجنة» (متفق عليه).
وعن عبد الله بن مسعودٍ -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «تابِعوا بين الحجِّ والعُمرة؛ فإنهما ينفِيَان الفقرَ والذنوبَ كما ينفِي الكِيرُ خبثَ الحديدِ والذهبِ والفضَّة، وليس للحجَّة المبرورة ثوابٌ إلا الجنة»؛ (أخرجه الترمذيُّ والنسائي).
وسُئِل النبي - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ العمل أفضل؟ قال: «إيمانٌ بالله ورسوله». قيل: ثم ماذا؟ قال: «الجهادُ في سبيل الله». قيل: ثم ماذا؟ قال: «حجٌّ مبرور»؛ (رواه البخاري ومسلم).
في الحجِّ غُفرانُ الذنوب ومحوُ السيئات، ومُضاعفةُ الأجور وإجابةُ الدعوات.
أما يومُ عرفة فهو اليوم المشهودُ، أقسمَ الله به في قوله: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) [البروج: 1- 3]، فاليومُ الموعود هو يوم القيامة، واليوم المشهود هو يوم عرفة، والشاهدُ هو يوم الجُمعة.
عن عائشة - رضي الله عنها -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما من يومٍ أكثر من أن يُعتِقَ الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنُو ثم يُباهِي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟!» (رواه مسلم).
وقال - صلى الله عليه وسلم -: «صيامُ يوم عرفة أحتسِبُ على الله أن يُكفِّرَ السنةَ التي بعدَه والسنةَ التي قبلَه» (أخرجه مسلم).
والحجُّ خيرٌ كلُّه، ومنافعُ في الدنيا والآخرة، (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ) [الحج: 27، 28].
فتعجَّلوا - أيها المسلمون - إلى الحجِّ .. فإن أحدَكم لا يدرِي ما يعرِضُ له.
بارَك الله لي ولكم في القرآن والسُّنَّة، ونفعنا بما فيهما من الآياتِ والحكمةِ، أقولُ قولي هذا، وأستغفِرُ الله تعالى لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، جعل البيتَ مثابةً للناس وأمنًا، وأسبغَ علينا نعمَه وإحسانَه فضلاً منه ومنًّا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وصحبِه أجمعين.
أما بعد، أيها المسلمون: لقد عظَّم الله بيتَه الحرام؛ فأقسَمَ به في كتابه فقال: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) [البلد: 1]، وقال - عز وجل -: (وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) [التين: 3].
وبيَّن فضلَه بقوله: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [آل عمران: 96، 97].
ومن بركته: أن الله ضاعفَ فيها الأجور؛ فعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «صلاةٌ في مسجِدي هذا خيرٌ من ألفِ صلاةٍ في غيره من المساجِد إلا المسجِدَ الحرام»؛ (رواه مسلم).
وهي أحبُّ بلاد الله إلى الله ورسولِه؛ روى الترمذيُّ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «والله إنكِ لخيرُ أرض الله، وأحبُّ أرض الله إلى الله، ولو أني أُخرِجتُ منكِ ما خرجتُ».
ومن فضلِ مكَّة - حرسَها الله -: شمولُ الأمن لكل من فيها من إنسانٍ، وحيوانٍ، ونباتٍ؛ قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن مكَّة حرَّمها الله تعالى ولم يُحرِّمها الناس، ولا يحلُّ لامرئٍ يُؤمنُ بالله واليوم الآخر أن يسفِك بها دمًا، أو يعضُدَ بها شجرة .. الحديث»؛ (رواه البخاري ومسلم).
وفي روايةٍ عندهما: «هذا البلدُ حرَّمه الله يوم خلقَ السماوات والأرض، فهو حرامٌ بحُرمة الله إلى يوم القيامة، لا يُعضَدُ شوكُه، ولا يُنفَّرُ صيدُه، ولا يُلتقَطُ لُقَطتُه إلا من عرَّفَها، ولا يُختلَى خلاه».
وتعظيمُ البلد الحرام دليلٌ على التقوى، وسببٌ لحصولها؛ قال الله - عز وجل -: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج: 32]، وقال - سبحانه -: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ) [الحج: 30].
وإن من أول ما يُعظَّمُ به هذا البلدُ الحرام: أن يُجتنَبَ فيه الشركُ وما يُؤدِّي إليه من البِدع والمُحدثات؛ قال الله - عز وجل -: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [الحج: 26]. فهو بيتٌ أُسِّس على التوحيد.
كما يجبُ تعظيمُ وتطهيرُ هذا البيت الحرام وهذه البُقعة الطيبة الطاهرة من المُنكرَات والمعاصِي الظاهرة، ويتحقَّقُ ذلك بالأمر بالمعروف، والنهي عن المُنكَر، والتواصِي بالبرِّ والتقوى؛ فالأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المُنكَر من شعائِر الله التي يجبُ تعظيمُها.
بل ذهبَ بعضُ السلَف إلى أن السيئات تُضاعَفُ في هذا البلد؛ قال مُجاهدٌ -رحمه الله-: "تُضاعفُ السيئاتُ في مكَّة كما تُضاعَفُ الحسنات".
فعلى المسلم أن يعِيَ هذه القُدسيَّة؛ مُعظِّمًا شعائِرَ الله وحُرُماته، ولتكن أعمالُه فيها مُوافقةً لأمر الله وشرعِه، وليُحسِن العمل، وينشغلُ بما جاء لأجله من طلبِ رِضوانِ الله، وليجتنِب ما يُنافِي مقاصِدَ الحجِّ؛ قال الله - عز وجل -: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [البقرة: 197].
كما ينبغي على أهل هذه البلاد تِجاهَ إخوانهم حُسن الوِفادة والإكرام، وإعانتَهم، وبذلَ الإحسان إليهم، وتخفيفَ المؤونَة عليهم، وتعليمَهم ما يحتاجُون إليه من أمور الشريعة، وأن يكونوا مُتعاوِنين مُتسامِحين مع وفد الله -عز وجل-، وأن يُحسِنوا أخلاقَهم معهم ببسطِ الوجه، والشَّفقة عليهم، وعدم إيذائِهم أو هضمِ حقوقهم.
حفِظَ الله الحُجَّاج والمُعتمِرين، وأتمَّ نُسُكَهم، وتقبَّل الله منَّا ومنهم.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على خير البريَّة وأزكَى البشريَّة: محمدِ بن عبد الله.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابتِه الغُرِّ الميامين، وارضَ اللهم عن الأئمة المهديين والخُلفاء المرضيين: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابةِ نبيِّك أجمعين، ومن سارَ على نهجِهم واتبعَ سُنَّتَهم يا رب العالمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مُطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين.
اللهم من أرادنا وأراد بلادَنا بسوءٍ أو فُرقةٍ فرُدَّ كيدَه في نَحره، واجعَل تدبيرَه دمارًا عليه.
اللهم آمنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتَنا ووُلاةَ أمورنا، وأيِّد بالحقِّ إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعل عملَه في رِضاك، وهيِّئ له البِطانةَ الصالِحةَ، اللهم وفِّقه ونائبَيه لما فيه الخير للعباد والبلاد، واسلُك بهم سبيلَ الرشاد.
اللهم وفِّق رجالَ أمننا، اللهم وفِّق رجالَ أمننا، وجميعَ العاملين لخدمة الحرمين الشريفين وقاصِديهما، اللهم سدِّدهم وأعِنهم ووفِّقهم، واحفَظهم من بين أيديهم ومن خلفِهم، وبارِك أعمالَهم وأعمارَهم، وجازِهم بالإحسانِ والإسعادِ يا رب العالمين.
اللهم ادفع عنا الغلا والوبا والرِّبا والزنا، والزلازل والمِحَن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطَن.
اللهم أصلِح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم اجمَعهم على الحقِّ والهُدى، اللهم احقِن دماءَهم، وآمِن روعاتهم، واحفَظ دينَهم، وأعراضَهم، وديارَهم، وأموالَهم.
اللهم كُن للمظلومين والمُضطَهدين والمنكوبين، اللهم انصُر المُستضعَفين من المسلمين في كل مكانٍ، اللهم انصُرهم في فلسطين، اللهم اجمعهم على الحقِّ يا رب العالمين.
اللهم انصُر دينَك وكتابَك وسُنَّة نبيِّك وعبادَك المُؤمنين، اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يُعجِزُونَك.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].
اللهم آتِ نفوسَنا تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها.
اللهم إنا نسألُك العفوَ والعافيةَ والمُعافاةَ الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
اللهم اغفر ذنوبَنا، واستُر عيوبَنا، ويسِّر أمورنا، وبلِّغنا فيما يُرضِيك آمالَنا، ربَّنا اغفر لنا ولوالدِينا ووالدِيهم وذُرِّيَّاتهم، وأزواجنا وذرِّيَّاتنا إنك سميع الدعاء.
سبحان ربِّك رب العزة عما يصِفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
التعليقات