عناصر الخطبة
1/تأمر الكفار على إخراج النبي المختار 2/حب الوطن فطرة وطبيعة 3/الخروجَ من الأوطانِ يعادلُ قتلَ النفسِ 4/تعلق الإنسان بوطنه وحبه له 5/من فضل بلاد الحرمين 6/مخالفات شرعية في اليوم الوطنياقتباس
إن هذا الوطنَ الذي تعيشونَ فيه قد حوى بينَ جوانبِه الخيرَ الكثيرَ؛ فهذا بيتُ اللهِ عامرٌ تهوي إليه أفئدةُ المسلمينَ في كلِ مكان؛ وهذا مسجدُ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- تُشدُ إليه الرحالُ في كلِ زمانٍ، أمنٌ وأمانٌ، وتحكيمٌ بشريعةِ الإيمانِ، شعائرُ التوحيدِ ظاهرةٌ، ومظاهرٌ الشركِ داحرةٌ، أمرٌ...
الخطبة الأولى:
إن الحمدَ للهِ، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِه اللهُ فلا مضلَ له، ومن يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
انطلقتْ خديجةُ بالنبي -صلى الله عليه وسلم- بعدما سمعتْ منه ما حدثَ في الغار؛ حتى أتتْ به ورقةَ بنَ نوفلٍ، وكان امرأً تنصرَ في الجاهلية، وكانَ يكتبُ الإنجيلَ بالعبرانيةِ ما شاءَ اللهُ أن يكتبَ، وكانَ شيخاً كبيراً قد عَميَ، فقالتْ له خديجةُ: يا ابنَ عمٍ، اسمعْ من ابنِ أخيك. فقالَ له ورقةُ: يا بنَ أخي، ماذا ترى؟ فأخبرَه رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- خبرَ ما رأى، فقال له ورقةُ: هذا الناموسُ الذي نزَّلَ اللهُ على موسى، يا ليتني فيها جذعاً، ليتني أكونُ حياً إذ يُخرِجَكَ قومُك، فقالَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أو َمُخْرِجِيَّ هم؟" قالَ: نعم، لم يأتِ رجلٌ قط بمثلِ ما جئتَ به إلا عُوديَ، وإن يُدركْني يومَك أنصرُك نصراً مؤزراً.
عبادَ اللهِ: لقد آدرك ورقةُ وهو العالمُ بالكتبِ السابقةِ جميعَ الابتلاءاتِ التي اُبتليَ بها الأنبياءُ، وهم أشدُ الناسِ بلاءً؛ كما جاءَ في الحديثِ، وذكرَ للنبي -عليه الصلاة والسلام- بلاءً عظيماً يصيبُ الأنبياءَ وهو إخراجُهُم من أوطانِهم، وهو ظاهرٌ لمن تأملَ سيَرَهم عليهم الصلاةُ والسلامُ.
وبعدَ سنينَ من البعثةِ يجتمعُ كفارُ قريشٍ في دارِ الندوةِ في مناقشةِ الطريقةِ المثلى في التخلصِ من محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-؛ كما وصفَهم اللهُ -تعالى-: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال: 30].
فكانتِ الخياراتُ بينَ القتلِ والحبسِ والإخراجِ من مكةَ، ثم اتفقوا على قتلِه ولكن أنقذَه اللهُ -تعالى-من القتلِ فخرجَ مهاجراً إلى المدينةِ؛ كما قالَ عز وجل: (إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا)[التوبة: 40].
وتأملوا معي ذلكَ الموقفَ المحزنَ الذي يصفُهُ عبدُ اللهِ بنُ عَدي -رضي الله عنه- بقولِه: "رأيتُ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- واقفا على الحَزْوَرَةِ، فقالَ: "واللهِ إنكِ لخيرُ أرضِ اللهِ، وأحبُ أرضِ اللهِ إلى اللهِ ولولا أني أُخرجتُ منكِ ما خرجتُ".
وفي حديثِ ابنِ عباسٍ -رضي الله عنهما- أنه قال: "ما أطيبَكِ من بلدٍ، وأحبَّكِ إليَّ، ولولا أن قومي أخرجوني منكِ ما سكنتُ غيرَكِ".
يا أهلَ الإيمانِ: إن حبَ الأوطانِ متأصلٌ في فطرةِ الإنسانِ، فيه الماضي والذكرياتُ، فيه المستقبلُ والأمنياتُ، فيه الأهلُ والأحبابُ، ومفارقتُه قطعةٌ من العذابِ.
وقد جاءَ في كتابِ اللهِ -تعالى- أن الخروجَ من الأوطانِ يعادلُ قتلَ النفسِ في البلاءِ، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا) [النساء: 66].
وفي قولِه تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ) [البقرة: 84].
لذلك مدحَ اللهُ -عز وجل- المهاجرينَ بتضحيتِهم وخروجِهم من ديارِهم في سبيلِ اللهِ -تعالى-: (لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [الحشر: 8].
ولما كانَ مفارقةُ البلدانِ، مثيرةً للأحزانِ، جعلَها اللهُ -تعالى- من العقوباتِ العظيمةِ التي تساوي القتلَ والصلبَ، فقالَ تعالى: (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[المائدة: 33].
وقد أخبرَنا ربُنا -عز وجل- عن قومٍ أُخرجوا من ديارِهم فأصابَهم الهمُ والغمُ، ثم طلبوا الجهادَ في سبيلِ اللهِ -تعالى- ليرجعوا إلى وطنِهم الغالي على نفوسِهم: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا)[البقرة: 246].
فأقرَهم اللهُ -تعالى- على ذلك، وبعثَ لهم طالوتَ ملِكاً.
يقولُ الجاحظُ في كتابِه "الحنينُ إلى الأوطانِ": "وكانتِ العربُ إذا غزتْ وسافرتْ حملتْ معها من تُربةِ بلادِها رملاً وعَفْراً تستنشقُه عندَ نزلةٍ أو زكامٍ أو صداعٍ".
وأما الشعراءُ فكانَ في أشعارِهم نصيبٌ من حب الوطنِ، فيقول أبو تمام:
كم منزلٍ في الأرضِ يألفُه الفتى *** وحنينُه أبداً لأولِ منزلِ
نقِّل فؤادَك حيثُ شئتَ من الهوى *** ما الحبُ إلا للحبيبِ الأولِ
بل يحبونَ أوطانَهم ولو لم يكن فيها شيءٌ جميلٌ:
بلادٌ ألفناها على كلِ حالةٍ *** وقد يُؤْلَفُ الشيءُ الذي ليسَ بالحَسنْ
وتُسْتعذبُ الأرضُ التي لا هواءَ بها *** ولا ماؤها عذبٌ ولكنها وَطَنْ
أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم من كلِ ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ حمدُ الشاكرين، تباركَ ربُنا وتقدسَ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له تمتْ كلمتُه، وعمّتْ رحمتُه، وفاضتُ نعمتُه، وأشهدُ أن سيدَنا ونبيَنا محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه، المبعوثُ رحمةً للعالمين، صلى اللهُ وسلمَ وباركَ عليه وعلى آلهِ وأصحابِه والتابعينَ ومن تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ وسلمَ تسليماً كثيراً.
أما بعد:
إن هذا الوطنَ الذي تعيشونَ فيه قد حوى بينَ جوانبِه الخيرَ الكثيرَ؛ فهذا بيتُ اللهِ عامرٌ تهوي إليه أفئدةُ المسلمينَ في كلِ مكان؛ وهذا مسجدُ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- تُشدُ إليه الرحالُ في كلِ زمانٍ، أمنٌ وأمانٌ، وتحكيمٌ بشريعةِ الإيمانِ، شعائرُ التوحيدِ ظاهرةٌ، ومظاهرٌ الشركِ داحرةٌ، أمرٌ بالمعروفِ والخيرِ، ونهيٌ عن المنكرِ والشرِ؛ فلكَ الحمدُ ربنَا حتى ترضى ولكَ الحمدُ إذا رضيتَ.
اللهم أعنا على ذكرِكَ وشُكرِكَ وحُسنِ عبادَتِكَ.
عبادَ اللهِ: ما يحدثُ في اليومِ الوطني من الفوضى والمنكراتِ، والأغاني والرقَصاتِ، والتفحيطِ والمسيراتِ، وما يصاحبُ ذلك من الاختلاطِ وتكسيرِ المحلاتِ، وصبغِ الوجوهِ والسياراتِ، ليسَ من شكرِ اللهِ -تعالى- على نعمةِ "لا إلهَ إلا اللهُ، محمدٌ رسولُ اللهِ" وهي العبارةُ التي كُتبتْ على ذلكَ العلمِ الذي يحملونَه بين أيديِهم.
فاحذروا -يا أهلَ البلادِ- فإن اللهَ -تعالى- إذا شُكرَ باركَ وزادَ، وإذا كُفرِ عاقبَ وأبادَ: (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) [النحل: 112].
اللهم آمنا في أوطانِنا، اللهم آمنا في أوطانِنا، وأدمْ نعمةَ الأمنِ والاستقرارِ في بلادِنا.
اللهم من أرادَنا وبلادَنا والمسلمينَ بسوءٍ فأشغلُه في نفسِه، واجعلْ كيدَه في نحرِه، واجعلْ تدبيرَه تدميرَه.
اللهم وفق إمامَنا لما تحبُ وترضى وخذْ بناصيته للبرِ والتقوى، اللهم وفقه لهداك، واجعل عملَه في رضاك، وهيئ له البطانةَ الصالحةَ الناصحةَ التي تدلُه على الخيرِ وتعينُه عليه، واصرفْ عنه بطانةَ السوءِ يا ذا الجلالِ والإكرام.
التعليقات