عناصر الخطبة
1/الحكمة سمة من سمات الأنبياء والصالحين 2/نماذج من حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم 3/الحاجة الماسة للحكمة خاصة في الحياة الزوجية 4/طرق اكتساب الحكمةاقتباس
تزداد الحاجةُ إلى الحكمة في تعاملاتنا اليومية، وخاصةً بين الزوجين؛ لاستمرار المودة والرحمة، وفي تعامُل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أزواجه، وصبره وحِلمه، وتغافله وحُسن تصرفه، ما هو حريٌّ بالمؤمن أن يتأمَّلَه...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ، الحمدُ للهِ الذي وَسِعَ كلَّ شيءٍ رحمةً وعلمًا، -سبحانه- هو الواحد الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، أحقُّ مَنْ عُبِدَ، وأنصرُ مَنِ ابْتُغِيَ، وأرأفُ مَنْ مَلَكَ، وأوسعُ مَنْ أَعطى، أحمده -سبحانه- حمدًا كثيرًا، كما يحب ويرضى، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبدُه ورسولُه، ومصطفاه وخليلُه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعدُ، معاشرَ المؤمنينَ: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله -رحمكم الله-، واسلكوا سبل الهدى، وتجنبوا مسالك الغفلة والردى، واعمروا القلوب بالتقوى، فالآخرة خير وأبقى، والحكيم الحازم من تزود من دنياه لآخرته، وفي شبابه قبل هرمه، ومن صحته قبل سقمه، وفي فراغه قبل شغله؛ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ)[الْبَقَرَةِ: 281].
أُمةَ الإسلامِ: سمةٌ مِنْ سماتِ الأنبياءِ والصّالحينَ، والعلماءِ العاملينَ، بعَث اللهُ بها رسلَه، وأقام عليها كونَه وشرعَه؛ وهي نعمةٌ عظيمةٌ، ذكَّر اللهُ بها عبادَه؛ ألَا وهي الحكمةُ، قال عز وجلَّ: (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ)[الْبَقَرَةِ: 231]، والحكمة هي وضعُ الأمورِ في مواضعها اللائقة بها، وتكون بالعلم النافع والعمل الصالح، ومعرفة مقاصد الشرائع، وهي تَسُودُ بصاحبها، وتكسوه ثوبَ الوقار، وتحفظه عمَّا يُورِث الخزيَ والعارَ، قال ابْن عُيَيْنَةَ: كان يقال: "إِنَّ أَفْضَلَ مَا أُعْطِيَ الْعَبْدُ فِي الدُّنْيَا الْحِكْمَةَ، وَفِي الآخِرَةِ الرَّحْمَةَ"، وأعظمُ الناسِ حكمةً، الأنبياءُ والرسلُ؛ لِمَا اختصَّهم اللهُ به مِنَ الفضلِ، في حمل الرسالة، وإبلاغ الدعوة، قال -جل جلاله- عن نبينا -صلى الله عليه وسلم-: (وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا)[النِّسَاءِ: 113]، فكان -صلى الله عليه وسلم- أعلمَ الناس، وأنفعَ الناس، وأحكمَ الناس، فسيرتُه العطرةُ، كلُّها عين الحكمة؛ (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)[الْجُمُعَةِ: 2]، وفي الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: "فُرِجَ سَقْفُ بَيْتِي وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ، مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَأَفْرَغَهَا فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ"؛ فأسعد الناس بالحكمة من تعرف على سيرة سيد الأنبياء، وتأسى بهديه، واتبع سنته، وقد تجلَّت حكمتُه -صلى الله عليه وسلم-، سواءً مع مَنِ استجاب لدعوته، أو مع مَنْ خالَفه ولم يؤمن به؛ ففي الصحيحين: لَمَّا عاد -صلى الله عليه وسلم- من غزوة بني المصطلق، اختصَم رجل من الأنصار مع رجلٍ من المهاجرين، فقَالَ الأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ، وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، فَقال النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا بَالُ دَعْوَى أَهْلِ الجَاهِلِيَّةِ؟ دَعُوهَا فَإِنَّهَا خَبِيثَةٌ"، فلمَّا وصَل الخبرُ لرأس المنافقين، عبد الله بن سلول، عزَم على شَقِّ صفِّ المسلمينَ، وتمزيقِ وحدتِهم، وتفريقِ جمعِهم، وقَالَ: "لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ"، فشاع كلامُه بين الناس، وتلاسَنُوا حتى كادت أن تحصل بينهم فتنةٌ، فلمَّا بلَغ ذلك رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-، أمَر الجيشَ بالرحيل، وكانوا في حرٍّ شديدٍ، فسار بهم سيرًا متواصلًا، ليلًا ونهارًا، فانشغلوا بمسيرهم عما هم فيه، وبلغ بهم الجهد مبلغه، فلم يصبحوا إلا وقد زال من صدورهم ما أحدَثَه الشيطانُ بينهم، فبالحكمة تُدرأ الفتنةُ، ويُحفَظ الأمنُ، وتجتمع الكلمة، ويقوم الناس بمصالحهم الدنيوية والأخروية، وكم كان لغيابها، واتباع أرباب الهوى، من مفاسد وأضرار متعدية.
إخوةَ الإسلامِ: ومن نماذج حكمته -صلى الله عليه وسلم-، حديث أَنَس بن مالك -رضي الله عنه- حيث قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ، فَصَاحَ بِهِ النَّاسُ، -وفي رواية صحيح البخاري: فَثَارَ إِلَيْهِ النَّاسُ ليَقَعُوا بِهِ -أي: بالضرب ونحوه-، فلما رأى ذلك -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "دَعُوهُ، وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ"، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: "إِنَّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لَا تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا الْبَوْلِ وَلَا الْقَذَرِ؛ إِنَّمَا هِيَ لِذِكْرِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ"(رواه البخاري ومسلم).
إخوةَ الإيمانِ: لقد كان هذا الخُلُق النبيل من النبي -صلى الله عليه وسلم-، جانبًا من جوانب حكمته، ورِفقه ورحمته، التي أسَرَ بها قلوبَ مَنْ حولَه، على اختلاف طبائعهم، وتنوُّع مشاربهم؛ فالرفقُ ما كان في شيء إلا زانَه، ولا نُزع من شيء إلا شانَه، فالنبي -صلى الله عليه وسلم-، لم يُعنِّف ولم يَشتُم، بل علَّم الرجلَ بأرفقِ خطابٍ، وأجملِ عتابٍ، حتى قَالَ الأَعْرَابِيُّ فِي صَلاته: "اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا، وَلا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا"، فَلَمَّا سَلَّمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لَهُ: "لَقَدْ حَجَّرْتَ وَاسِعًا"؛ يُرِيدُ رَحْمَةَ اللَّهِ، ولو ترَك -صلى الله عليه وسلم- أصحابَه، في زجرهم له، لترتَّب على ذلك مفاسدُ عديدةٌ؛ (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)[آلِ عِمْرَانَ: 159].
مَعاشِرَ المؤمنينَ: وتزداد الحاجةُ إلى الحكمة في تعاملاتنا اليومية، وخاصةً بين الزوجين؛ لاستمرار المودة والرحمة، وفي تعامُل النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أزواجه، وصبره وحِلمه، وتغافله وحُسن تصرفه، ما هو حريٌّ بالمؤمن أن يتأمَّلَه؛ ففي صحيح البخاري: بينما النبي -صلى الله عليه وسلم- في بيت عائشة، أرسلَتْ أمُّ المؤمنينَ زينبُ صَحفةً فيها طعامٌ، فتحركت في قلب عائشة غَيرتُها، وهو ما تجده كلُّ امرأةٍ تجاهَ ضَرَّتِها، فضربتِ الصحفةَ، فتناثر الطعام، على مرأى ومسمع من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأهوى بتواضعه الجمِّ، إلى فِلَقِ الصَّحفةِ وأشلاء الطعامِ، يجمعهما من الأرض، وهو يتودَّدُ بأرق عبارة، وأعذب بيان، وأجمل اعتذارٍ، فيقول: "غَارَتْ أُمُّكُمْ، غَارَتْ أُمُّكُمْ"، فحافَظ -صلى الله عليه وسلم- على قلبِ حبيبتِه عائشةَ، فلم يَكسِرْه أو يَخدِشْهُ بكلمة، ومن عدله أرسَل لزينب صحفة عائشة، فغمر زينب بعدله وإنصافه، وشمل عائشة بعطفه ولطفه، فَرَضِيَ الجميعُ بحكمته، بأبي هو وأمي -صلى الله عليه وسلم-.
معاشرَ الإخوةِ: والمشورة من الحكمة؛ لِمَا فيها مِنَ التماسِ الرأيِ السديدِ، والعملِ الرشيدِ، وقد أمَر اللهُ -تعالى- بها نبيَّه، فكان -صلى الله عليه وسلم-، كثيرَ المشورةِ لِمَنْ حولَه، وهو نبيُّ اللهِ ورسولُه، أوفرُ الناسِ عقلًا، وأسدُّهم رأيًا؛ ففي صلح الحديبية، غَضِبَ الصحابةُ -رضي الله عنهم-، ظنًّا منهم أنهم بُخِسُوا حقَّهم، حتى جَاءَ الفاروق -رضي الله عنه- وأرضاه، لرَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَسْنَا عَلَى حَقٍّ وَهُمْ عَلَى بَاطِلٍ؟ قَالَ: "بَلَى"، قَالَ: أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ؟ قَالَ: "بَلَى"، قَالَ: فَفِيمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا، فَقَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، إِنِّي رَسُولُ اللهِ وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللهُ أَبَدًا"، وفي مسند الإمام أحمد: فَلَمَّا فَرَغَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ، قَالَ لِأَصْحَابِهِ: "قُومُوا، فَانْحَرُوا، ثُمَّ احْلِقُوا"، قَالَ: فَوَاللهِ مَا قَامَ مِنْهُمْ رَجُلٌ، حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، دَخَلَ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ وهو غضبانُ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟ اخْرُجْ، ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً، حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ، وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ، فَيَحْلِقَكَ. فَخَرَجَ -صلى الله عليه وسلم-، فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا، فَنَحَرُوا وحَلَقُوا"، فكان رأيُ أُمِّ سلمةَ -رضي الله عنها وأرضاها-، رأيًا موفَّقًا، ومشورةً مباركةً، والحكمةُ ضالةُ المؤمنِ، أنَّى وجدَها فهو أحقُّ بها، وإنَّ من علاماتها، أن يبتغي المرءُ الرشدَ في تصرفاته، ويبدأَ بالأهمِّ فالأهمِّ، فإذا تعارضَتْ مصلحتانِ، عامةٌ وخاصةٌ، قدَّم العامةَ على الخاصة، وإذا ترتَّب على تصرفه مصلحةٌ ومفسدةٌ، قدَّم ما فيه درءُ المفسدةِ على جلبِ المصلحةِ، والحكيمُ لا يَدخُل في أمر حتى يَنظُرَ في عواقبِه، ومِنَ الحكمةِ: أَنْ يَصمُتَ المرءُ حينَ يكونُ الصمتُ أفضلَ، ويتكلمَ حينَ يكونُ الكلامُ أفضلَ، فمَنْ كان يُؤمِن باللهِ واليومِ الآخِرِ، فليَقُلْ خيرًا أو لِيَصْمُتْ، ألَا فليتقِ اللهَ مَنْ يبثُّون أسبابَ النزاع والفُرقة، في الشبكات الاجتماعية، خلفَ أسماءٍ وهميةٍ؛ فاللهُ مُطَّلِعٌ عليهم، عالمٌ بما كتبَتْ أيديهم، وما تُخفِي صدورهم؛ (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[النُّورِ: 24].
ومن الحكمة -يا عباد الله- مُخاطَبةُ الناسِ بما تحتملُ عقولُهم، ومراعاةُ تنوُّعِ مشاربهم، قال ابنُ مسعودٍ -رضي الله عنه-: "ما أنتَ بمحدِّثٍ قومًا حديثًا لا تبلُغُه عقولُهم، إلَّا كان لبعضِهم فتنةً"، فاتقوا اللهَ عبادَ اللهِ، وتحلَّوْا بالحكمةِ في سائرِ الأحوالِ، فإنَّها مِنْ أعظمِ النوالِ، والله -جل جلاله- يقول: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ)[الْبَقَرَةِ: 269].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسُّنَّة، ونفعني وإيَّاكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)[سَبَأٍ: 1]، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، البشير النذير، والسراج المنير، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم البعث والنشور.
أما بعد، مَعاشِرَ المؤمنينَ: إنَّ مِنَ الحكمةِ ما هو محضُ هبةٍ مِنَ اللهِ، يُؤتِيها مَنْ يشاءُ مِنْ عبادِه، ومنها ما هو مكتسَبٌ؛ فإنما العِلم بالتعلم، والحِلْم بالتحلُّم، فيرزقها اللهُ -تعالى-، لمن بذَل أسبابَ تحصيلها، ومِنْ أسبابِ كسبِ الحكمةِ، الإخلاصُ والتقوى، ومخافةُ اللهِ -جلَّ وعلا-، فمَنْ خاف اللهُ، انتظمَتْ حياتُه، وصلحَتْ سريرتُه وعلانيتُه؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[الْحَدِيدِ: 28].
وأمَّا أهلُ البدعِ والأهواءِ، فهم محرومون من الحكمة؛ فالهوى يُعمي ويُصِمّ، ومنزلةُ الحِلم والأناة من الحكمة، كمنزلة الرأس من الجسد، قَالَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ: "إِنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ"(رواه مسلم)، والحِلْم هو العقلُ، والأناةُ هي التثبُّتُ وتركُ العجلةِ.
إخوةَ الإيمانِ: وإنَّ من الحكمة، التغافلُ عن أخطاء الناس وزلاتهم، وذِكْر محاسنهم ومَواطِن الخيرِ فيهم، فحينَ تظاهرَتْ بعضُ أزواجِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-، قال الله -تعالى- عن نبيه: (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ)[التَّحْرِيمِ: 3]؛ فالتغافلُ أدبٌ عظيمٌ، وخُلُقٌ نبويٌّ كريمٌ، والحكيمُ يُداري الناسَ ولا يُداهِنُهم، ويَخفِضُ الجناحَ لهم، ويُلِينُ الكلامَ معهم، وهي مِنْ أسبابِ الأُلفةِ، وسلِّ السخيمةِ؛ ففي فتحِ مكةَ، لَمَّا أعلَن أبو سفيان إسلامَه، قال العباسُ -رضي الله عنه-: يا رسول الله: إنَّ أبا سفيان رجلٌ يُحِبُّ الفخرَ، فاجعَلْ له شيئًا، قال: "نعم! مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ"(رواه مسلم) وأصحاب السنن؛ فأراد النبي -صلى الله عليه وسلم-بحكمته- تخصيصَ دار أبي سفيان، للأمن والأمان، إرضاءً لِمَا تتطلَّع إليه نفسُه، وتقويةً لإيمانه.
والتجاربُ تُنَمِّي المواهبَ، وتَجعَلُ العاقلَ حكيمًا، وتزيدُ الحليمَ حِلمًا؛ ففي حديثِ الإسراءِ والمعراجِ: قال موسى لنبينا -عليهما الصلاة والسلام-: "إِنَّ أُمَّتَكَ لا تَسْتَطِيعُ خَمْسِينَ صَلاةً كُلَّ يَوْمٍ، وَإِنِّي -وَاللَّهِ- قَدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ، وَعَالَجْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَشَدَّ المُعَالَجَةِ، فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ"، فما زال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُراجِعُ ربَّه، حتى قَالَ الرحمنُ: "يَا مُحَمَّدُ، قَالَ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، قَالَ: إِنَّهُ لا يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ، كَمَا فَرَضْتُهُ عَلَيْكَ فِي أُمِّ الكِتَابِ، فَكُلُّ حَسَنَةٍ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، فَهِيَ خَمْسُونَ فِي أُمِّ الكِتَابِ، وَهِيَ خَمْسٌ عَلَيْكَ"(رواه البخاري ومسلم)؛ فكان فضلُ اللهِ -تعالى- على أمة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- بأَنْ تُصلِّيَ في اليومِ خمسَ صلواتٍ، ولها في الأجرِ خمسون، فاللهمَّ لكَ الحمدُ على فضلكَ وكرمكَ، وجودكَ ومِنَّتِكَ.
هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله-، على سيد الأنام، فقد أمركم الله بذلك فقال قولا كريما: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما صليتَ على آلِ إبراهيمَ، وبارِكْ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ، كما باركتَ على آل إبراهيمَ، إنكَ حميدٌ مجيدٌ، وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدينَ، الأئمة المهديينَ؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، وعن سائر الصحابة أجمعينَ، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ، وعنَّا معهم برحمتكَ يا أرحمَ الراحمينَ.
اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، واجعَلْ هذا البلدَ آمِنًا مطمئنًّا وسائرَ بلاد المسلمينَ، اللهم أَصْلِحْ أحوالَ المسلمينَ في كلِّ مكانٍ، اللهم إنَّا نسألُكَ بفضلِكَ ومِنَّتِكَ، وجودِكَ وكرمِكَ، أن تحفَظَنا مِنْ كلِّ سوءٍ ومكروهٍ، اللهم ادفع عنا الغلا والوبا والربا والزنا، والزلازل والمحن، وسوء الفتن، ما ظهَر منها وما بطَن، اللهم إنَّا نعوذ بكَ من جَهد البلاء، ودَرَك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، وسوء القضاء، اللهم إنَّا نسألك من الخير كلِّه، عاجِلِه وآجِلِه، ما عَلِمْنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بكَ من الشرِّ كلِّه عاجلِه وآجلِه، ما عَلِمْنا منه وما لم نعلم، اللهم إنَّا نسألكَ الجنةَ وما قرَّب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بكَ من النار وما قرَّب إليها من قولٍ أو عملٍ، اللهم أحسِنْ عاقبَتنا في الأمور كلِّها، وأَجِرْنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم اشف مرضانا، وعاف مبتلانا، وارحم موتانا، وكن للمستضعفين منا برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، وفق خادم الحرمين الشريفين لما تحب وترضى، واجزه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، اللهم وفقه وولي عهده الأمين، لما فيه خير للإسلام والمسلمين، اللهم وفق جميع ولاة أمور المسلمين لما تحبه وترضاه، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم احفظ شباب المسلمين من الفرق الضالة، والمناهج المنحرفة، اللهم جنبهم التفرق والحزبية، وارزقهم الاعتدال والوسطية، اللهم حبب إليهم الإيمان، وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، واجعلهم من الراشدين، اللهم انفع بهم أوطانهم وأمتهم، برحمتك وفضلك وجودك يا أرحم الراحمين.
اللهم يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، وفق خادم الحرمين الشريفين، اللهُمَّ وفقه وولي عهده الأمين لما تحبه وترضى، واجزهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، اللهم بارك سعيهم، وحقق مبتغاهم، وكن لهم مؤيدا ونصيرا وظهيرا، اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين.
اللهُمَّ يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، عز جارك، وجل ثناؤك، وتقدست أسماؤك ولا إله غيرك، لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض ورب العرش الكريم، اللهم كن لأهلنا وإخواننا في غزّة، اللهمَّ احفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم، ومن فوقهم، ونعيذهم بعظمتكَ أن يُغتالوا من تحتهم، اللهم اجبُرْ كسرَهم، وارحم ضَعفهم، وأحسن عاقبتهم في الأمور كلها، برحمتك وفضلك وجودك يا أرحم الراحمين، يا رب العالمين، اللهم عليك بعدوك وعدوهم يا قوي يا عزيز، يا ذا الجلال والإكرام، اللهمَّ احفظ المسجد الأقصى، واجعله شامخًا عزيزًا إلى يوم الدين.
اللهُمَّ أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهُمَّ اشف مرضانا، وعاف مبتلانا، وارحم موتانا، وكن للمستضعفين منا، ربنا تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وأجب دعوتنا، وثبت حجتنا، واهد قلوبنا، وسدد ألسنتنا، واسلل سخيمة قلوبنا؛ (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)[الْحَشْرِ: 10]، (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصَّافَّاتِ: 180-182].
التعليقات