عناصر الخطبة
1/نعم الله على العباد وافرة زاخرة 2/نعمة المودة والألفة من أعظم النعم 3/توضيح معنى الألفة وبيان مجالاتها وآثارها 4/بعض الآثار السيئة لغياب الألفةاقتباس
الأُلْفَةُ الصَّادِقَةُ -عبادَ اللهِ- هِيَ الَّتِي تَقُومُ على أسَاسِ حُسْنِ الظَّنِّ، وصَفاءِ النِّيَّةِ، وطِيبِ المَعْشَرِ، فَتُثْمِرُ الإحسانَ، وبذْلَ النَّدَى، وغَضَّ الطَّرْفِ، والتَّجاوُزَ عَن الزَّلاتِ، والتَّغافُلَ عَن العَثَراتِ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله واسع العطاء، عظيم السخاء، مُسبِل الغطاء، أحمده -سبحانه- وأشكره، ذي الكرم والجود والستر والآلاء، أشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، بيده خزائن الأرض والسماء، وأشهد أنَّ سيدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، أبذل الكرماء، وأجود الأسخياء، وأصدق الأوفياء، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته الكرام النجباء، وعلى التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم العرض والجزاء.
أمَّا بعدُ: فأُوصيكُمْ -أيُّها النّاسُ- ونَفْسِي بتَقْوِى اللهِ، فاتَّقُوا اللهَ رَحِمكُمُ اللهُ، وكُونُوا مُتَآلِفِينَ رُحماءَ، تَسْعَدُوا في الدُّنيا، وتَفُوزُوا يَومَ اللِّقاءِ.
عبادَ اللهِ: نِعَمُ اللهِ وآلاؤُهُ على عبادِهِ لا تُعَدُّ ولا تُحصَى، ولا تُحصَرُ ولا تُستقْصَى، نِعَمٌ مادِيَّةٌ ومعنَوِيَّةٌ، دِينِيَّةٌ ودُنيوِيَّةٌ، وإنَّ مِنْ أعظَمِ نِعَمِ اللهِ المَعْنَوِيَّةِ نِعمَةَ المحبَّةِ والأُلفَةِ، ومِنَّةَ المودَّةِ والرحمَةِ.
نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ، بها يَطِيبُ العَيشُ، وتَدومُ الرَّوابِطُ، وتُزْهِرُ العَلاقاتُ، ومِنَّةٌ كَبِيرَةٌ، يَهَبُهَا الرَّحمنُ، لا تُشتَرى بالمالِ، ولا تُوهَبُ بالغَالِي مِنَ الأَثمانِ؛ (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا في الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[الْأَنْفَالِ: 63].
هِيَ مِن أفضَلِ خِصالِ المُؤمِنِ وسَجايَاهُ، وأنبَلِ صفاتِهِ ومزايَاهُ، فعن أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-، أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "الْمُؤْمِنُ مَأْلَفٌ، وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ، وَلَا يُؤْلَفُ"(أخرجَهُ أحمدُ في مسنَدِهِ).
الأُلْفَةُ الصَّادِقَةُ -عبادَ اللهِ- هِيَ الَّتِي تَقُومُ على أسَاسِ حُسْنِ الظَّنِّ، وصَفاءِ النِّيَّةِ، وطِيبِ المَعْشَرِ، فَتُثْمِرُ الإحسانَ، وبذْلَ النَّدَى، وغَضَّ الطَّرْفِ، والتَّجاوُزَ عَن الزَّلاتِ، والتَّغافُلَ عَن العَثَراتِ.
الأُلْفَةُ تَحمِلُ أصحابَها على القِسْطاسِ المُستَقِيمِ، فيَسْتَدْعُونَ الحسَناتِ إذَا هَبَّتِ الخَطِيَّاتُ، في جَمِيعِ الأوْقاتِ، ومُخْتَلَفِ العَلاقاتِ.
أيها المسلمون: إنَّ الأُلْفَةَ الحَقَّةَ هِيَ القاعِدَةُ الكُبْرَى، والأَساسُ المَتِينُ الَّذِي يقُومُ عَليْهِ بُنيانُ السَّعادَةِ في حَياةِ النَّاسِ: فتكون بينَ الرَّاعِي والرَّعِيَّةِ، قال صلى الله عليه وسلم: "خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ"(أخرجه مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ مِن حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه-).
وبَيْنَ الزَّوْجِ وزَوْجَتِهِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "لَا َيْفرَكُ مؤمنٌ مُؤمنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِي مِنْهَا آخَرَ"(أخرجَهُ مسلِمٌ).
وَبَيْنَ الجارِ وجَارِهِ؛ في الصَّحِيحَيْنِ مِن حَدِيثِ عائِشَةَ وابنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَا: قالَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ".
وبيْنَ الرَّجُلِ ومَنْ تَحتَهُ مِنَ الخَدَمِ؛ في الصَّحِيحَيْنِ مِن حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ -رضي الله عنه- أنَّ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قالَ لهُ: "يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ، هُمْ إِخْوَانُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَطْعَمُونَ، وَأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ".
وَبَيْنَ الأَجِيرِ وصاحِبِ العَمَلِ، قال صلى الله عليه وسلم: "أَعْطُوا الْأَجِيرَ أَجْرَهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ"(أخرَجَهُ ابنِ ماجَهْ في السُّنَنِ مِن حَدِيثِ عبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-).
الأُلْفَةُ -عبادَ اللهِ- مَجْلَبَةٌ للتَّعاوُنِ علَى البِرِّ والتَّقْوَى، وعلَى التَّعاضُدِ عِنْدَ حُصُولِ اللَّأْوَا، قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "تَرَى الْمُؤْمِنِينَ في تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى"(مُتَّفَقٌ عَليْهِ).
ولِمكَانِتَها وعَظيمِ أَثَرِهَا رَغَّبَ المَوْلَى -جَلَّ وعَلا- فِيهَا، وجعَلَها مَقْصِدًا مِن مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، حَتَّى معَ غيْرِ المُسْلِمِينَ، فَشَرَعَ تَأْلِيفَ قُلُوبِهِمْ، بأَنْ جَعَلَهُمْ أحَدَ أصْنَافِ الزَّكَاةِ الثَّمانِيَةِ، تُسَلُّ بِها سَخِيمَةُ قُلُوبِهِمِ، وتُنزَعُ بها ضَغِينَةُ أفْئِدَتِهِمْ، قالَ -سبحانَه-: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)[التَّوْبَةِ: 60].
والأُلْفَةُ ضَرْبٌ مِن ضُرُوبِ الرَّحْمَةِ، وصِنْفٌ مِنْ أَصْنَافِ المَوَدَّةِ، بَلْ هِيَ أَثَرٌ مِنْ آثارِهَا، في المُسْنَدِ والسُّنَنِ مِن حَدِيثِ عبدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ العَاصِ -رضي الله عنهما- قالَ: قالَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ في الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ في السَّماءِ".
أقول قولي هذا وأستغفِر اللهَ لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفِروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الرؤوف الرحمن، ذي الطول والإنعام والفضل والإحسان، وَصَلَّى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ سيدِ ولدِ عدنانَ، وعلى آله وصحابته أُولي البِر والعرفان، والشكر والامتنان، وعلى التابعين وتابعيهم بإحسان ما تتابَع الملوانِ، وتعاقَب القمرانِ إلى يومٍ يُجمع فيه الثقلانِ.
أما بعدُ: فاتقوا الله -رحمكم الله-، واعلموا أن الألفة من شِيَم الكُمَّل من الناس، الذين يترفَّعون عن التُّرَّهات، ويُنزِّهون أنفسَهم عن السفاهات، ويحملون أرواحهم على الكمالات، فتجدهم دائمًا في أرقى المقامات، تصدر عنهم أزكى المقالات في أحلك الحالات.
بالأُلْفَةِ والمَحَبَّةِ يَنْتَشِرُ الأمنُ، ويَحِلُّ السَّلامُ، ويَعِيشُ النَّاسُ في سعادَةٍ واطمِئْنانٍ، ومَتَى غَابَ هذَا المعْنَى عَن حَياةِ النَّاسِ، تَكَدَّرَ العَيشُ، وكَثُرَتِ الوَساوِسُ، وسادَ سُوءُ الظَّنِّ، وانْتَشَرَتِ القَطِيعَةُ، وصارَتْ سَفِينَةُ الحيَاةِ تَتَمَلْمَلُ بَينَ أَمْواجِ البَلاءِ وأَعاصِيرِ الابْتِلاءِ، قال صلى الله عليه وسلم: "دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمُ: الْحَسَدُ، وَالْبَغْضَاءُ، وَالْبَغْضَاءُ: هِيَ الْحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ: تَحْلِقُ الشَّعْرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا، وَلا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا، أَفَلا أُنَبِّئُكُمْ بِمَا يُثَبِّتُ ذَلِكَ لَكُمْ؟ أَفْشُوا السَّلامَ بَيْنَكُمْ"(أَخرَجَهُ أحمَدُ في مُسنَدِه، والتِّرْمِذِيُّ في جامِعِهِ، مِن حَدِيثِ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ -رضي الله عنه-).
فَلَا تَسَلْ عَمَّنْ حُرِمَ هَذِهِ النِّعْمَةَ العَظِيمَةَ، والِمنَّةَ الجَلِيلَةَ، كَيْفَ يَعِيشُ في هَذِهِ الحَياةِ؟! تَرَاهُ يَتَقَلَّبُ بَيْنَ أَصْنافِ الهُمُومِ وَالبَلايَا، وَالفِتَنِ والرَّزَايَا، غِلٌّ وَحِقْدٌ، غِشٌّ وحَسَدٌ -نَسْأَلُ اللهَ السَّلامَةَ والعَافِيَةَ- هِيَ قِطْعَةٌ مِنْ عَذَابٍ، تَعَجَّلَها صَاحِبُها لِنَفْسِهِ في الدُّنيَا، قبلَ يَومِ الأَشْهَادِ.
ألَا فاتقوا الله -عباد الله-، وصلُّوا وسلِّمُوا على خير خلق الله محمد بن عبد الله، فقد أمرَكم بذلك ربُّكم فقال -جل في علاه-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، فاللهم صلِّ وسلِّم وزد وبارك على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض اللهمَّ عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء، أبي بكر عمر وعثمان وعلي، وعن باقي العشرة وأصحاب الشجرة، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، واحمِ حوزةَ الدين، وانصُرْ عبادَكَ المؤمنين، اللهمَّ فرِّجْ همَّ المهمومينَ مِنَ المسلمينَ، ونَفِّسْ كربَ المكروبينَ، واقضِ الدَّينَ عن المدينينَ، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمينَ، برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمينَ.
اللهمَّ آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِحْ أئمتنا وولاةَ أمورنا، وأيِّد بالحق والتوفيق والتسديد إمامَنا ووليَّ أمرنا، خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبد العزيز -حفظه الله-، عشر سنوات من القيادة والسيادة، عشر سنوات من الريادة والازدهار، اللهمَّ فأطل عمره في صحة وعافية، وتقوى من الله ورضوان، اللهمَّ وفِّقْه ووليَّ عهده الأمير محمد بن سلمان لِمَا فيه صلاح وخير وسعادة البلاد والعباد، وعز ورفعة للإسلام والمسلمين يا ربَّ العالمينَ.
اللهمَّ احفظ جندَنا المرابطينَ على الحدود والثغور، اللهمَّ كن لهم معينًا وظهيرًا، ومؤيِّدًا ونصيرًا، اللهمَّ احرسهم بعينك التي لا تنام، واكنفهم بركنك الذي لا يرام.
اللهمَّ اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا اللهمَّ بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبدًا ما أبقيتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا، واجعل الجنة هي دارنا وقرارنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.
(رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصَّافَّاتِ: 180-182].
التعليقات