عناصر الخطبة
1/ نداء الخليل لحج بيت الله تعالى 2/ أسرة نبي الله إبراهيم أسرة مباركة 3/ تأملات في مناسك الحج 4/ من مظاهر التوحيد والاتباع في الحج 5/ الرضا والتسليم لحكم وأحكام رب العالمين 6/ ارتباط الحج بجميع أبواب الجنة 7/ فضائل الحج والعمرة 8/ المبادرة إلى الحج 9/ فضائل عشر ذي الحجة.اهداف الخطبة
اقتباس
لا إله إلا الله، كم في هذه المشاعر من مثير للمشاعر، كم في تلك الحصيات من قصص وحكايات، ليس فيها حبّ وغرام، ولكن فيها تعلق القلوب بذي الجلال والإكرام، تستسلم له ولحُكمه، وتضحّي لا بالكبش الأقرن، بل بفلذة الكبد، الذي جاء على كبر، وتعلقت به النفس أيّما تعلق، ملأ شغاف قلبه، وسكن سويداء فؤاده، فيقال له اذبحه بيدك لا بيد غيرك، كيف أتحمل موته، بل أن أذبحه؟ ولكن الإيمان لا تردد فيه ولا احتمال، ويعود إليك العجب، لا من الأب يطأ قلبه، ويحمل سكينه، ليذبح ثمرة فؤاده فحسب.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله..
أما بعد: أيها المسلمون: نادى الخليل -عليه السلام- ذلك النداء الخالد عبر الزمان، عن ابنِ عباسٍ قال: "لما بنَى إبراهيمُ البيتَ أوحى اللهُ إليه أن أذِّنْ في الناسِ بالحجِّ قال فقال إبراهيمُ: "ألا إن ربَّكم قد اتَّخذ بيتًا وأمركم أن تحجُّوه"، فاستجاب له ما سمِعه من حجرٍ أو شجرٍ أو مدَرٍ أو غيرِ ذلك لبَّيكَ اللهمَّ لبيكَ.
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أيها الناسُ! قد فرض اللهُ عليكم الحجَّ فحجُّوا" (رواه مسلم). فحقٌّ على كل مَن سمع النداء -وليس ثمةَ مانع يمنعه- أن يُجيب.
الحج عباد الله تلبية لهذا النداء: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) [الحج: 27]، واستجابة لذلك الدعاء: (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) [إبراهيم: 37]، ألا ترون الناس ترفّ أعينهم لرؤية ذلك البيت، وتحنّ قلوبهم للطواف به، واستلامُ ركنه، وتقبيلُ الحجر، لا يروون منه أبدًا، حتى في صلاتهم يتوجهون إليه، كأن صلتهم بربهم موصولة به، وكأنهم يسعون لإطفاء حر الشوق بتوجههم إليه، ولو من بعيد، يحاولون تخفيف أشواقهم، وإطفاء لهَفَ نفوسهم، فتتجمع القطرات في أعينهم خضوعًا، ثم ما تلبث أن تسيل منها دموعًا.
وهم يدركون أن الحج ومناسكه في الأصل مشاعر ومواقف عاشها الخليل -عليه السلام-: نفسُه أو زوجُه أو ولده أو هم جميعاً، فيعيشون بأحاسيسهم ذكرياته، وامتحان الخليل لخليله، فيكاد اليأس يغمر قلوبهم، كيف يُبتلى الخليل، وهو الخليل بهذا البلاء المبين؟ ثم تنفرج أساريرهم بعقبى ذلك الابتلاء، (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا) [النساء: 125]، فيراه حبيبنا -صلى الله عليه وسلم- ليلة المعراج في السماء السابعة، مسنداً ظهره إلى البيت المعمور، جزاء وفاقًا، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟
أيها المسلمون: تبدأ قصة الذكريات بقوله تعالى: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ) [إبراهيم: 37]، وتعجب من هذا الرجل راسخُ الإيمان يترك ابنه الذي رُزقه على كبر، وأمُ ولده، بين تلك الجبال المظلمة، وفي ذلك الوادي الموحش، فلا ترى إلا قوةً تعجز عن حملها جبال ذلك الوادي، استسلاماً وتسليماً، وربما اعتذر بأنه الخليل، فما ظنكم بالمرأة، تسير خلف زوجها، وهي لا تدري ما هذا المكان، ولا ترى أحداً في هذا المكان، تسأله ولا يجيب، تلحق به ولا يلتفت، فتقول بقوة الإيمان وعظمة التسليم: آلله أمرك بهذا؟ فيشير إليها أن نعم، فتقول: "إذاً لا يضيُعنا".
لا إله إلا الله، كم في هذه المشاعر من مثير للمشاعر، كم في تلك الحصيات من قصص وحكايات، ليس فيها حبّ وغرام، ولكن فيها تعلق القلوب بذي الجلال والإكرام، تستسلم له ولحُكمه، وتضحّي لا بالكبش الأقرن، بل بفلذة الكبد، الذي جاء على كبر، وتعلقت به النفس أيّما تعلق، ملأ شغاف قلبه، وسكن سويداء فؤاده، فيقال له اذبحه بيدك لا بيد غيرك، كيف أتحمل موته، بل أن أذبحه؟ ولكن الإيمان لا تردد فيه ولا احتمال، ويعود إليك العجب، لا من الأب يطأ قلبه، ويحمل سكينه، ليذبح ثمرة فؤاده فحسب.
ولكن من هذا الغلام اليافع، يصبّر أباه، ويدعوه لتنفيذ أمر ربه، يا أبت افعل ما تؤمر، وتالله إنها بيوت الإيمان، زوج وزوجة وابن، كلهم مستسلمون، لا اعتراض، لا تردد، لا ضعف، ولكن تنفيذ لكل أمر يأمر به المولى، واستسلام له وانقياد، (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ * سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) [الصافات: 103- 110].
وتمر بنا الذكريات بهاجر وابنِها، ولهفُ الأم وسعيُها بين الصفا والمروة، هدها الجَهد، وأضناها الخوف على رضيعها، فهي تبحث عن الغوث، في مكان لا أثر فيه للغوث، حَرّةٌ ملتهبة، وواد أجرد، فيأتيها الغوث من حيث لا تحتسب، وتتفجر زمزم، ماءً مباركاً منذ ذلك الحين، طعام طُعم، وشفاء سُقم، دليلا على أن رحمة الله تنـزل ولو في الصحراء القاحلة، والأرض المجدبة، بل هي في تلك الظروف أقرب، وأكثر تنـزلا (إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف: 56].
عن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بُنيَ الإسلامُ على خَمسٍ: شهادَةِ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللهُ وأنَّ مُحمدًا رسولُ اللهِ، وإقامِ الصلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ، وصَومِ رَمَضانَ، وحَجِّ البَيتِ" (رواه البخاري ومسلم وهذا لفظ الترمذي). وإذا أمعنت النظر وجدت أن الحج آخرَ أركان الإسلام التي تبدأ بالشهادتين.
ومن تأمل الركن الأول: وجده عملاً للقلب وحده، يبعث على الاطمئنان والتسليم.
وأما الركن الثاني: فعمل للبدن.
والركن الثالث: عمل للمال، وتكافل اجتماعي وتعاون وتكاتف.
ثم نعود لعَمِل البدن مرة أخرى في الركن الرابع وهو الصوم: وفيه تربية للنفس على تعلم الصبر وتذكر الفقراء، وغير ذلك من حكم ظاهرة، لا تحتاج إلى مزيد عناء لرؤيتها.
ثم تصل إلى الحج جامعاً بين عمل البدن والمال، فصار جهاداً لا قتال فيه.
ومن تأمل مناسك الحج وجدها تبدأ وتعود إلى التسليم والانقياد لله رب العالمين، فمنذ أن يخلع الحاج ملابسه المعتادة فهو يخلع معها التفكير المنطقي كما يقولون، فقد ربته تلك الأركان على أن الله –تعالى- حكيم عليم، ووصلته به، وجعلته صابراً شاكراً، فجاء الحج بابتلاء العقل وامتحان صدق تسليمه واستسلامه لله، إذ إن مناسك الحج لا تتفق جميعُها مع العقل اتفاقاً منطقياً، بل إنه ليحار فيها، ولهذا فإن أول ما يقوله الحاج: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك" معلناً تمام تسليمه لمن آمن به رباً متصفاً بكمال الأسماء والصفات، ومتبعاً لرسوله -صلى الله عليه وسلم- القائل: "خذوا عني مناسككم".
وفي كل مشعر هو لله موحّد، وله ذاكِر، فإذا أنهى مناسكه ذكر الله أبلغ ما يكون الذكر، مستشعراً أنه يقتدي بإبراهيم، خليلُ الرحمن الذي كان حنيفاً مسلماً ولم يك من المشركين.
نعم: إننا نسير سير الخليل، ونتبع ملته، ونقتفي أثره عند كل مشعر، محققين التوحيد، متبرئين من الشرك وأهله، حتى وإن لم نعقل ما ظاهره الشرك، لم؟ لأننا قلنا "لبيك" فسلمنا أمرنا واستسلمنا بعقولنا لأمر ربنا، فلم يكن في صدورنا حرج مما قضى وسلمنا تسليما.
إن من العجب أن يأتي الناس من أقطار الدنيا، المثمرة اليانعة، إلى بلد غير ذي زرع، فيَفِدون إلى مكة، فمنى، فعرفات، فمزدلفة، فمنى مرة أخرى، فعودة إلى مكة، فرجوع إلى الديار، مشقة ونصب، والسفر قطعة من العذاب، ولا نسأل لماذا؟ والأعجب من هذا أنهم يأتون كل ذلك مستعذبين للعذاب، منشرحين للمشقة، سعداء بالتكليف، يترقبون الانتقال من مشعر إلى آخر بقلوب يغمرها الفرح والسرور والغبطة أن اختارهم الله ليكونوا حجاجاً لبيته، بل ويتخذون يوم النحر عيداً، وكل ذلك والله أعلم لأنهم اتبعوا (مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [النحل: 123]، فأنت محقق للتوحيد تحقيقاً تاماً باتباعك لإمام الموحدين، فكانت الجائزةُ التي لا مثيل لها، مباهاة للملائكة، وعتقاً من النار.
أيها المسلمون: كم غفل عن هذه النكتة أقوام، لم يحققوا معنى الإسلام، ولم يشعروا بقيمة الاستسلام، وقد فاز بسبقها الصديق -رضي الله عنه- حين قالها مواجهاً للكافرين الحاقدين المعملين عقولهم في دين الله: "إن كان قال فقد صدق". حتى وإن لم أعقل ذلك ولم أفهمه.
فمضت تلك الكلمة مدوية في الآفاق، وترددت بمعناها لا بنصها حين هاج المهاجرون والأنصار بعد صلح الحديبية، حتى تعجب الفاروق -رضي الله عنه- فسأل سؤاله الإنكاري: "ألسنا على الحق؟ بلى. أليسوا على الباطل؟ بلى. فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ قال الصديق -رضي الله عنه-: "الزم غرزه، فإنه رسول الله".
وما لبث الفاروق -رضي الله عنه- أن التزمها وقال قولته المشهورة أيضاً مخاطباً الحجر الأسود: "إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقبلك ما قبّلتك".
هذا هو التسليم بحق، وهو الاتباع الحق، ومن اتبع محمداً -صلى الله عليه وسلم- فقد اتبع ملة إبراهيم -عليه السلام-، فإن الله تعالى قال لنبيه -صلى الله عليه وسلم-: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [النحل: 123].
أيها المسلمون: للجنة ثمانية أبواب، والصلاة لها باب منصوص عليه من أبواب الجنة، وكذلك الصوم بابه الريان، والشهادتان مع عظمهما، بل هما ركيزة الأمر كله، ليس له باب يخصه. كما أن الحج مع عظمه وفضله لم يذكر له باب. والسر في ذلك والله أعلم من وجهين:
الوجه الأول: أن الشهادتين هما مفتاح الجنة عموماً، وبالتالي من حققهما فلا ضرر عليه أن يدخل من أيّ الأبواب شاء، بل لا يستطيع أحد أن يدخل من أي باب إلا بها، فلا يُفتح باب الصلاة إلا بالتوحيد، وهكذا.
الوجه الثاني: أن الحج قد ذُكر أنه يهدم الذنوب كلُها، ويخرج المرء منها كما ولدته أمه، وليس له جزاء إلا الجنة، وربما لم يستطع المرء المسلم أن يحج إلا مرة واحدة في عمره، وقد نَظر الله إليه في الموقف، وباهى الله به ملائكته، وقال له: اذهب مغفوراً لك، وأعتقه من النار، فكان والله أعلم محققاً لجميع مراتب الإسلام وأركانه، فلعله أن يدعى من جميع أبواب الجنة، جعلني الله وإياكم من أهلها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآَخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [البقرة: 130- 132].
بارك الله ..
الخطبة الثانية:
الحمد لله يخلق ما يشاء ويختار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يكور الليل على النهار، ويكور النهار على الليل، وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى، ألا هو العزيز الغفار.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، سيد المصطفين الأخيار، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطاهرين الأبرار، وسلم تسليماً مزيدا.
أما بعد: أيها المسلمون: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى، ومن استطاع إلى الحج سبيلاً فلا يتردد ولا يتوان، (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [آل عمران: 97]. قال -صلى الله عليه وسلم-: "والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة" (متفق عليه).
وسألته عائشة -رضي الله عنها- وعن أبيها قالت: يا رسول الله نرى الجهاد أفضلُ العمل، أفلا نجاهد؟ قال: "لكنّ أفضلُ الجهاد حج مبرور" (أخرجه البخاري).
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "مَن حجَّ هذا البيتَ، فلم يَرفُثْ ولم يَفسُقْ، رجَع كيومَ ولدَتْه أمُّه" رواه البخاري. قال ابن حجر -رحمه الله تعالى- تعليقاً على هذا الحديث: "وظاهره غفران الصغائر والكبائر والتبعات".
وقال الإمام الطبري -رحمه الله تعالى-: "فكان في ذلك من قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يوضح معنى قوله -عز وجل-: (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) أنه خارج من ذنوبه، محطوطة عنه آثامه، مغفورة له أجرامه". اهـ. وهو يشير إلى قوله عليه الصلاة والسلام: "تابِعوا بينَ الحجِّ والعُمرةِ فإنَّهما ينفيانِ الفقرَ والذُّنوبَ كما ينفي الكيرُ خبَثَ الحديدِ والذَّهبِ والفِضَّةِ وليس للحَجَّةِ المبرورةِ ثوابٌ دونَ الحجة". (أخرجه ابن حبان في صحيحه).
فوا عجباً ممن يسمع هذه الأحاديث وتلك الفضائل، ثم يؤخر الحج مع استطاعته له، والأمر من ذلك أن البعض ينفق أضعاف نفقته في الحج، في رحلات برية أو سياحية، إن سلمت من الإثم والمعاصي، ويحتج بحجج واهيات، ناسياً أو متناسياً أو معرضاً عن هدايا الرحمن وعطاياه لوفوده، جنات عرضها السماوات والأرض، وعتق من النار، ومباهاة للملائكة بشعث الحجاج وغبرتهم.
بخ بخ، لئن كانت الأرض ربيعاً هذه الأيام في بعض الأماكن، فأرض الجنة دوماً ربيع، فبالله عليكم بكم تشترون المباهاة؟ ففي يوم عرفة يدنو الرب تبارك وتعالى عشية، ثم يباهي الملائكة فيقول: "ما أراد هؤلاء؟ أشهدكم أني قد غفرت لهم".
تالله قولي له في غير مُعتبةٍ *** ماذا أردت بطول المكث في اليمن
إن كنتَ حاولتَ دنياً أو ظفرت بها *** فما أصبت بترك الحج من ثمن
حج الحسن بن علي -رضي الله عنهما- خمساً وعشرين حجة ماشياً، وحج ابن المسيب أربعين حجة، وحج سفيان بن عيينة ثمانين حجة، وحج سماحة الإمام العلامة الشيخ عبدالعزيز بن باز -رحمه الله- اثنين وخمسين حجة، وحج العلامة الشيخ ابن جبرين أكثر من أربعين حجة.
وكان ابن المبارك -رحمه الله- إذا خرج إلى مكة قال:
بُغض الحياة وخوف الله أخرجني *** وبيع نفسي بما ليست له ثمنا
إني وَزنت الذي يبقى ليعدِله *** ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا
فاتقوا الله عباد الله، وبادروا بالأعمال، فملك الموت قد تخطاكم إلى غيركم وسيتخطى غيركم إليكم، فخذوا حذركم، واستبقوا الخيرات، وسارعوا إلى الجنات، وتعرضوا للنفحات في عرفات، فلعل نظرة من المولى تُعتقُكم من النار، وتوجب لكم الرحمة والرضوان، وترفع منـزلتكم إلى جنة سقفها عرش الرحمن.
وأما من لم يتيسر له الحج هذا العام، فإن الفرصة متاحة له لنَيْل وطره من الخير، ففي أيام العشر العمل الصالح أحب إلى الله –تعالى- من أي أيام غيرُها، فصم وتصدق، وصل رحمك، واتل كتاب ربك، وأكثر من ذكر الله، تكبيراً وتحميداً وتهليلاً وتسبيحاً.
ومن الأعمال الفاضلة الصلاة على المبعوث رحمة للأنام، (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]، فأكثروا عليه من الصلاة والسلام، فمن صلى عليه صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا.
اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ..
اللهم ..
التعليقات