اقتباس
الإمامُ الخطيبُ داعيةٌ إلى الله – تعالى - سائرٌ على دربِ الأنبياءِ والرّسُلِ - عليهم السلام -، ومن هذا المنطلق ينبغي - لضمان نجاحِ دعوتِهِ - أن يكونَ بشرًا من البشرِ يعيشُ مع البشر، من جنسِ مدعُوّيهِ، قريبًا منهم بنفسِه وفكرِهِ وبدنِه، قد يسكُنُ القصر المنيف، ويأكل الطعام الغاليَ الشريف، هذا من فضل الله عليه مادامَ من حلالٍ طيّب يشكُرُ الله عليه؛ ولكنَّهُ يأكلُ مثلَهم الطعامَ ويمشي في أسواقِهِم ومواقعِ تجمّعِهم ليُحِسَّ إحساسَ قومِه، ويعاني تجارِبَهم، ويدرِكَ آلامَهم وآمالَهم، ويعرفَ نوازعهم وأشواقَهم وتطلّعاتِهم، ويفهم ويقدّر بواعثَهم وتأثّراتِهم،
الأنبياء والرسل عليهم السلامُ هم رُوّادُ الحقّ ورموزُ الخَلقِ في الاقتداءِ والتأسّي، ولتحقٌّقِ هذه الحكمةِ جعلهم اللهُ –تعالى- بشرًا من جنسِ مدعُوّيهم، يأكلون كما يأكُلُون، ويعيشون معهم وبينهم، ويمشُون في أسواقِهِم، مع ما ميّزَهُم بهِ من العصمةِ والاصطفاءِ بالنبوّة والرّسالة: قال الله - تعالى -:( وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاق ) ( الفرقان: 20 )، وقال ربّنا -سبحانه -:( وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ) ( الفرقان: 07 ).
ولا شكَّ المعنى الأصليَّ المتبادَرَ إلى الذّهنِ في أكل الطعام والمشي في السّوق: أنَّ صفةَ البشريَّةِ وأكلَ الطعامِ والمشيَ في الأسواقِ لم تكن منافيةً للاصطفاءِ بالنبوّة والرّسالة أبدًا [1]، فالرسُلُ - عليهم السلام - ومنهم محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - جميعُهُم محتاجٌ للطعامِ ويمشي في السوقِ طالبًا لوسائل المعاش باذلاً كغيره أسباب تحصيل الرزق، ومع ذلكَ هو معصومٌ يوحَى إليه من ربّه، والرّسُلُ -عليهم السّلامُ -كذلك.
غير أنَّهُ ينبغي الانتباه إلى أنَّ الآيتين تلفتان النّظرَ إلى معانٍ ضمنيّةٍ تُسْتَنبطُ تحتاجُ إلى تدبّرٍ وتأمّل:
وهو أنَّ الأنبياء والرّسُلَ -عليهم السلام -لم يكونُوا منفصلينَ عن النّاس، ولا كانوا يُخاطبونَهم من وراءِ حجاب، أبدًا لم يكن ذلك؛ بل كانوا على علوّ قدرِهم يختلطونَ بالناسِ وينزلون إليهم ويعيشُون معهم وبينهم ليُدرِكوا آلامَهم وآمالهم، ويعلمُوا ضروراتِهم وأثقالَهم، ويلمسُوا أخطاءهم وانحرافاتِهم، فيتسامَوا بهم عنها، وهذا - أعني المشيَ في السّوق - صورةٌ من صورِ المخالطةِ التي تتيحُ الفُرصَةَ لفهمِ النّاسِ ودعوتِهم والتأثيرِ فيهم عن بصيرةٍ وتجرِبَة، ويلتحقُ بالسّوقِ كلُّ سبيلٍ موصلٍ لفهم الناس ومعايشةِ واقعِهم عن قُرب، ويختلف ذلك باختلافِ أوضاع النّاسِ وما يطرأُ على الحياة.
المقصودُ أنَّ الأنبياءَ - عليهم السلام - كانوا ملتصقين بالنّاس قريبين منهم، فهذا إبراهيم -عليه السلام - كانَ بزَّازًا يبيعُ القماشَ ويشتريه، ونوحٌ -عليه السلام -كان نجارًا يصنعُ ويرقَعُ وكذا زكريا وعيسى -عليهما السلام-، وداود -عليه السلام- كان حدّادًا يصنع الدروع ويبيعها، ولقمان -عليه السلام - كان خياطًا يخيطُ الأثواب للنّاس، وكذا إدريس - عليه السلام -، وكان إلياسُ - عليه السلام - نسّاجًا، وكان موسى - عليه السلام - راعيًا وكذا محمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم -كان يرعَى الغنم على قراريط لأهل مكّة، ومارس التجارة مع خديجة، وهذا يحتاج إلى أخذٍ وردٍّ وبيع وشراء ومعاملةٍ للنّاس وسبرٍ لأحوالِهم وأوضاعهِم، فهؤلاءِ هم أشرفُ الخلق عند الله، كانوا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق !.
والإمامُ الخطيبُ داعيةٌ إلى الله – تعالى - سائرٌ على دربِ الأنبياءِ والرّسُلِ - عليهم السلام -، ومن هذا المنطلق ينبغي - لضمان نجاحِ دعوتِهِ - أن يكونَ بشرًا من البشرِ يعيشُ مع البشر، من جنسِ مدعُوّيهِ، قريبًا منهم بنفسِه وفكرِهِ وبدنِه، قد يسكُنُ القصر المنيف، ويأكل الطعام الغاليَ الشريف، هذا من فضل الله عليه مادامَ من حلالٍ طيّب يشكُرُ الله عليه؛ ولكنَّهُ يأكلُ مثلَهم الطعامَ ويمشي في أسواقِهِم ومواقعِ تجمّعِهم ليُحِسَّ إحساسَ قومِه، ويعاني تجارِبَهم، ويدرِكَ آلامَهم وآمالَهم، ويعرفَ نوازعهم وأشواقَهم وتطلّعاتِهم، ويفهم ويقدّر بواعثَهم وتأثّراتِهم، ويُدركَ أخطاءَهم وانحرافاتِهم وعُمقَها في المجتمع، ومن ثَمّ يعطفُ على ضَعفِهِم ونقصِهم، ويقوّمَ اعوجاجَهم على بصيرة، فيرتادُ بهم الطريقَ إلى الله – تعالى - بوحيٍ منه - سبحانه - على تجربَةٍ وخبرَةٍ وبصيرَة!.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر على صبرة طعام، فأدخل يده فيها، فنالت أصابعه بللا، فقال: " ما هذا يا صاحب الطعام ؟! "، قال: أصابته السماءُ يا رسول الله، قال: " أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غش فليس مني "[2]. فانظُر كيف رصدَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بحركتِهِ في النّاسِ الأخطاءَ في الميدان، فأرسَى دعائمَ السّوقِ النظيفَةَ والمعاملاتِ الطاهرةَ بين النّاسِ ، فهذا من أثرِ احتكاكِ الدّاعيةِ بالنّاسِ في أسواقِهِم ومجالات حياتِهم المختلفة !.
ويُشبِهُ هذا الموقفَ ما رواهُ قيسُ بنُ أبي غرزة - رضي الله عنه - قال: كنا نُسَمّى السماسِرَة، فأتانا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نبيع فسمّانا باسم هو خير من اسمنا فقال :" يا معشر التجار إن هذا البيع يحضره الحَلِفُ والكَذِبُ فشُوبُوا بيعَكم بالصّدقة "[3]، فهذا الموقفُ الدّعَويُّ من النبيّ - صلى الله عليه وسلم -وهو خطيبُ الصحابة يومَها؛ من أثرِ معايشة واقعِ الجمهور والنّاس في الميدان.
وهكذا كلُّ خطيبٍ سائرٍ على أخلاق الأنبياءِ والرّسُلِ - عليهم السلام - تجدُهُ محتَكًّا بالنّاس صغيرًا وكبيرًا، قويًّا وضعيفًا، يعيشُ معهم بفكرِه ونفسِه وأخلاقِه وتوجيهاته:
أخرج ابن الأثير بسنده في أسد الغابة عن أبي صالح الغفاري: أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان يتعاهد عجوزًا كبيرة عمياء في بعض حواشي المدينة من الليل، فيستقي لها، ويقوم بأمرها، فكان إذا جاء وجد غيره قد سبقه إليها فأصلح ما أرادت، فجاءها غير مرة كلاًّ يُسبقُ إليها، فرصده عمر فإذا هو بأبي بكر الصديق الذي يأتيها وهو يومئذ خليفة. فقال عمر: أنت هو لعمري!
وكان أبو بكرٍ - رضي الله عنه - يحلب للحي أغنامهم، فلما بويع له بالخلافة، قالت جارية من الحي: الآن لا تُحلبُ لنا منائح دارنا، فسمعها أبو بكر فقال: بلى لعمري لأحلبنَّها لكم، وإنّي لأرجوا أن لا يغيّرني ما دخلت فيه عن خُلُقٍ كنت عليه. " [4]، والخلفاءِ يومَها خُطباءُ النّاس، ويا تُرَى كم سيترُكُ هذا الموقفُ من الدّاعيةِ في النّاس ؟!؛ لا شكّ أنّهُ أرسخُ من تلقينِ شهرٍ، وأوقعُ في النّفوسِ من صُراخِ دَهر!.
وقس على هذا الموقفِ غيرَهُ من مظاهر الاحتكاكِ الإيجابيِّ التي تجعل الخطيبَ أبصرَ النّاسِ بواقع الجمهور: من إفشاءِ السّلامِ، والسؤالِ عن الغائبِ، وتعاهُدِ الجيران، وزيارَةِ المرضَى، وتشييعِ الجنائز، والتعاوُنِ مع النّاسِ على نوائبِ الحقّ، وإيصالِ البرّ والمعروف، وغشيانِ المدارسِ والمؤسّسات والإدارات، وحضورِ الجماعات وتلبيةِ النّداءِ للمناسبات، جميعُ هذه المواقفِ تحتاجُ إلى أخذٍ وردٍّ وسؤالٍ وسماعٍ ومعاملةٍ قريبةٍ خاصّةٍ تُفضي إلى معرفةٍ دقيقةٍ لواقعِ النّاسِ وسبرٍ لأحوالِهم وأوضاعهِم ، فيأتي التغييرُ والخِطابُ واقعيًّا مدروسًا مطابقًا لحال النّاس.
هذا، ومن المعانِي التي تلوحُ للنّاظِرِ في الحكمة من ارتيادِ الأنبياء والرّسُل - عليهم السلام -للأسواق: أن يجدَ الناسُ فيهم القُدوةَ العمليّةَ الممكنة التقليد والتأسّي، فلو كان الأنبياء والرسل - عليهم السلام - يعيشون بعيدًا عن النّاس، ويحيَونَ في عالمٍ آخرَ غير عالم النّاس، كيف يقتدي بهم النّاسُ ويتأسّون، وهم على طبيعةٍ مختلفةٍ تمامًا عن طبيعة النّاس؟!
إنّهُ حينما يعيشُ الخطيبُ والدّاعيةُ إلى الله قريبًا من النّاس بعقيدتِهِ السّامية وشريعته الكاملة وأخلاقِهِ وقيمِهِ الراقية سوفَ يكونُ ترجمةً حيّةً للإسلامِ العظيمِ الذي آمن به، سوفَ يكونُ بحياتِهِ تلك ومعاملاتِهِ مع النّاسِ صفحةً بيضاءَ ناصعة يُبصرُ فيها الناسُ سُمُوّ العقيدة وينقلُون منها ويتأسّون. . لأنَّها ممكنةُ التقليد والتأسّي!
فلذلك معشرَ الخطباء والدُّعاة: كونوا قريبينَ من النّاسِ، مطّلعينَ على واقعِهم، يسهُلُ عليكم تصميمُ الخطابِ ووضعُ البرامِجِ وسلوكُ أقربِ الطّرُقِ وأنجعِها في البناءِ والإصلاح والتغيير. .
[1] - تفسير ابن كثير : ( ج 3 / ص 461 ) - مؤسسة الرسالة ناشرون .
[2] - رواه مسلم .
[3] - صحيح : سنن النسائي ( ح 3797 ) .
[4] - أسد الغابة : ابن الأثير - (ج 3/ ص 325-326).
التعليقات