محمد صادق عبدالعال
بسم الله الرحمن الرحيم
لَمَّا كان القُرآنُ الكريم أعظمَ، وأجلَّ، وأفضلَ، وأبلغَ الكُتبِ السماويَّة على الإطلاق؛ إذ لم يتعرَّض لتحريفٍ، وحازَ كلَّ تشريفٍ؛ فلم يُخالِطْ آياته شكٌّ أو ريبٌ، وحَفِظَه الرَّبُّ العليُّ، وضَمِنَ لنا حِفظه بتعهُّد إلهي مسطر؛ ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9] - كان لا بُدَّ وأنْ تكون اللُّغة المُصاغ مِنها هذا الدُّستور الأعظم والكتاب الأمثل من أعظَمِ اللغات وأسمى الكلمات، لغةً لا تقبَلُ المقارنة ولا المنافسة حالَ ظُهور مَن يُحاوِل التشكيك في جمالها وبهجتها، وما أكثر المشكِّكين!
ومن سَماحة هذا الكتاب المُيسَّر للذِّكر شمولُه لبعض المفردات التي دخَلتْ على العربيَّة من باب المرونة والسَّماحة لا الضَّعف والهَوان؛ كما ذكَر د/ شوقي ضيف في مَقالِه "ألفاظ معاصرة"؛ كالدينار والدرهم والسندس والإستبرق من حيث التثنية والجمع وغيرها من الكلمات التي أحاطَ المعجمُ العربي العظيمُ بها؛ وذلك لتَداخُل الثَّقافات وامتِزاجها، فظهَرتْ (بدعة التعريب)، فهل هي حسنة أو سيِّئة؟ أو نحن الذين أسرَفُوا فيها وجعَلْناها تَطغَى على اللغة الأم، والتي صارَتْ لا يُعتَدُّ بها في النَّواحِ الأكاديميَّة والبحثيَّة قدْر ما يُعتَدُّ ويُؤخَذ باللغات الأخرى؟
ولقد عرَّف الدكتور/ إبراهيم بيومي مدكور التعريبَ على أنَّه: أخْذ ألفاظٍ أجنبيَّة إلى العربيَّة وتطبيق القواعد عليها، كما سبَق وأنْ ذكرنا في مسألة الدِّينار والدِّرهم.
ولا يسمح المقام لي بعرض كافَّة آراءِ الأعلام والعُلَماء في مسألة التعريب؛ فإنَّ مَن هم أعلم منِّي بمراحل السابقين منهم والمعاصرين أصحاب المعاجم والمراجع، ومَن أعملوا العقول وأفعموا زجاجةَ الفِكر في هذا الشأن، قدْر ما هو عَتْبٌ على أهل لغة الضاد.
فمَن تراه الجاني الحقيقي في هذا الأمر؟
هل هم العَرَبُ أنفسهم، أو العجَمُ وحجَّتهم هذا الزَّخم الوافر لديهم الآن في المناهج العلمية، بما يُقابِله من تبعيَّة وإمَّعة عربيَّة عللت بأنَّ الزمن الحالي هو عصر اللغات الأجنبيَّة، وعلى المتضرِّر اللُّجوء إلى القضاء أو السماء، أو أنَّه نصيب مشترك؟
ولقد ذكَر الأديب الكبير أحمد أمين في كتابه "فجر الإسلام" أنَّ بِدايات دُخول الألفاظ المعرَّبة على العربيَّة بدأ في أَوْجِ عُصور الإسلام والعُروبة، وذلك في العصر العباسي الأول.
فهنا تتبرَّأ الجزئيَّة التي ألصَقْنا بها تُهمة فَوضَى التعريب، وهى امتِزاج الثَّقافات؛ حيث إنَّ كفَّتي الميزان مُتَكافئتان، فحَرِيٌّ أنْ يعتزَّ كلٌّ بلَهجاته وألفاظه.
- اقتربنا من الجُناة:
أظنُّ أنَّنا قد اقترَبْنا من الجاني الحقيقي، فإذا عرفتَه فلا تُصارِحني به، فإنَّ النَّصيبَ الأكبر يَقَعُ على أمَّةٍ سَخِرَتْ من عُروبتها، وطَوَتْ كتابَها المقدَّس، ومَحَتِ الضاد من كتاب العلوم، وحاوَلتْ أنْ تظهر بالشَّكل اللائق والمنظر الجميل، فوارَتْ كتابَها ولغتَها؛ فتوارت وتقدَّمت اللغات الأعجميَّة تتصدَّر الأبحاث والكتب العلميَّة، وانشغل الأحبَّة بشتَّى البُلدان العربيَّة بالمناصب والكراسي وتَنوِيع الأحزاب والتفنُّن في صِناعة الاختلاف لأجْل الاختلاف لا لأجْل التجديد أو صناعة مجد الأمَّة.
إنَّ القُدامَى من أرباب اللغة والحِجا استَطاعُوا أنْ يَفصِلُوا بين (اللفظ الأصلي والمعرَّب) وذلك لسببين:
1- لضَآلة وقلَّة ما كان يَدخُل على اللغة مِن مسٍّ للثقافات الأخرى.
2- إلمامُهم شبه الكامل بِمُفرَدات اللغة، وتمتُّعهم بعزَّة القُرآن الكريم، ناهيك عن احتِرام الآخَر للُّغة العربيَّة، ففي الوقت الذي كان فيه نُبَلاء أوروبا في العصور الوُسطى لا يستطيعون كتابةَ أسمائهم كان أشبال الأندلس وأطفالها بمنزلة العُلَماء!
أمَّا نحنُ فقُلْ ما شِئتَ من كلمات التوبيخ والعتاب التي يَندَى له جبينُ الكُرَماء، ولا تُخاطِب في الأمر السفهاء.
مَنْ يَهُنْ يَسْهُلُ الهَوَانُ عَلَيْهِ
مَا لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إِيلاَمُ |
والشاهد في ذلك أنَّ الكتاب هو (مرجعية المُطَّلع)، فما بالنا إذا أصبَح الكتاب نفسه جاهلاً بالمعرب الأصلي ومن المؤسف.
ولقد قرَأتُ مرَّةً في كتاب خارجي لصُفوف المرحلة الإعدادية (في الكلمة وما يُرادفها:
راديو = Radio ومن الأجدر أنْ يُردافها مِذياع.
تليفون = Tle، ومن الأجدر أنْ يُرادفها مسرة.
تلفزيون = TV ، وتلك لم أعلَمْ حتى الساعة لها مُرادفًا مُعربًا لها من لغتنا غير كلمة (تلفاز).
فتصوَّر لأيِّ حدٍّ أضَعْنا اللُّغة العربيَّة، تلك اللُّغة التي بها نزَل أعظمُ الكتب السماويَّة!
ذات مرَّة نظَمتُ قصيدةً، وكانت تحوي بعض الكلمات العربيَّة غير البعيدة عن قاموسنا العربي الجميل، فقال لي مُحكِّم العمل: أنت تستخدم كلمات غريبة يا محمد، لا يعلَمُها كثيرٌ من القُرَّاء.
فقلت له: فليبحثْ وليُنقِّبْ عنها، (وكم من نفيسٍ تحت التُّراب تستَّرا).
فعلَّل في ثقةٍ وزهوٍ كأنَّه قد ارتقى السماء، فجاء بجليل الأخبار، أو كأنَّه قد أضافَ إلى معلوماتي غيضًا من فيضٍ هو يملكه أو هو حكرٌ عليه: الكلمة بنت البيئة، ولقد أصبحنا في عصر (النانو تكنولوجي)، يا للمهزلة الأدبية!
إنَّ عُقدة (الخواجة) ما زالت تُطارِدنا في قِيامنا وسُباتنا، وإنْ كُنَّا نحنُ مَن بات يُطارِدها، لقد أصبح مَن لا يُخالِط حديثَه بعضُ الكلمات الأجنبيَّة غيرَ مُواكبٍ للحياة العصريَّة.
إنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - المعلمَ الأول للبشرية كان يُخاطِب كلَّ مَن يُلاقيه بلغته وأدبه، مُحافِظًا على هويَّته الشخصيَّة والعربيَّة.
فيتعجب أبو بكر والصحب الكرام سائلين: مَن علَّمك؟! فيجيب الرسول الكريم: ((أدَّبني ربِّي فأحسن تأديبي)).
هل يُستشفُّ من ذلك أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - تبرَّأ من لغة الضاد؟! لا والله، بل جعَلَها الأساسَ، وما اطَّلع عليه فليَأمن به مكرَهُم، كما قال - صلَّى الله عليه وسلَّم.
ما أعظمه من خطَر! وما أفدحه من مُصاب جلَل! ليس لتسرُّب بعض الألفاظ الأعجميَّة لقواميسنا العربيَّة، بل حدَث وطغَت الألفاظ المنقولة والمعرَّبة، وبلغت عالي الرُّبي، ولكنَّ الأفدح والأخطر هو تسرُّب كلماتنا العربيَّة من بين أيدينا نحنُ، فساعتها ستَضِيعُ الهويَّة، ونفقِد الشِّراع في لُجَجِ الأبحر المتلاطمة والثقافات العارمة، فإنْ لم نكن على ثباتٍ من أمرنا طوَتْنا الأمواجُ وتفرَّق النفيس منَّا والرَّخيص وما عرفت الأصداف من (اللؤلؤ)، وذهب ذِكرُنا، وتكون الطامَّة الكبرى حينما لا يَدرِي لنا ولدٌ كيف يُفرِّق بين الكلمة العربيَّة الأصيلة واللفظ المعرَّب، وإنْ كُنَّا بها نستهين!
فلنعُدْ كما بدَأْنا، ولنألَفْ ثانيةً ما هجَرْناه، كتاب الله الذي ميَّز اللغة العربيَّة عن سائر اللغات، وجعَلَها مادَّة القرآن الكريم الذي هو من كلام ربِّ العالمين، فأيُّ فخر بعد هذا؟! لكنَّا جاحدون.
- شواهد على الفضل:
إنَّ اللُّغة العربيَّة حين قَبِلَتْ بدُخول بعض المفردات عليها من بوَّابة التعريب، لم يكن من باب هَوانها، بل من مُنطَلق سماحتها وقوَّتها، ولقد عزَّز القُرآنُ الكريم ذلك بذِكر بعض المصطلحات غير العربيَّة كما ذكَرْنا بعاليه.
ولعلَّ الكثير مِنَّا يَذكُر قصَّة الرِّجال الذين حالوا التشكيك في عربيَّة القُرآن في صدر الإسلام في القصَّة المعروفة للرجل الذي قال لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: إنَّ قرآنكم يا محمد يأتي بألفاظٍ ما سمعنا بها في آبائنا الأولين ذاكرًا:
كلمة "كبارًا" في سورة نوح.
وكلمة "قسورة" في سورة المدثر.
وكلمة "عجاب" في سورة ص.
فتولَّى الأمر المُلهَم من ربِّ السماء، الذي لا ينطق عن الهوى، بفطنةٍ وكياسة وفِراسة، الذي يرى بنور الله؛ حيث أرسل في استِدعاءِ أسنِّ رجالات قُريش، ولا أريد أنْ أتطرَّق للرواية، فقد وردت بأشكال عدَّة، الشاهد أنَّ رسول الله جعَل الرجل المُسِنَّ ينطق بالكلمات الثلاث: (قسورة، كبارًا، عٌجاب) فبُهِتَ ساعتها الذي كفر وجحد بعظمة العربيَّة، والفضل ما شَهِدَتْ به الأعداء.
ومن جمال العربيَّة وروعتها أنَّ أفعالها ثلاثةٌ (ماض ومضارع وأمر)، ليست كلغاتٍ فيها المضارع تام ومستمر وبسيط كذلك باقي الأفعال، ومن جمالها وعُذوبتها أيضًا أنَّ ورود الكلمة بأكثَر من معنى وإنْ كانت المفردة واحدةً؛ مثل كلمة (أمَّة) التي وردت في القُرآن بأكثر من معنى:
﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ﴾ [النحل: 120]؛ ومعناها: إمام مكتمل الفضائل.
﴿ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ ﴾ [القصص: 23]؛ ومعناها: جماعة من الناس.
﴿ وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ ﴾ [يوسف: 45]؛ ومعناها: فترة زمنيَّة.
وكثيرٌ وكثيرٌ، ما نستطيعُ أنْ نُحصِي لها فضلاً ولا لشُعاعها آمادًا، فلقد ارتبطَتْ بالقُرآن الكريم؛ إذ هي لُغته، وإذ هو من كَلام ربِّ العالمين، فأيُّ فخرٍ بعد ذلك يُذكَر.
إنَّ اللُّغة العربيَّة قادرةٌ على إثبات كَفاءتها وقُدرتها في مُواكبة كلِّ المستجدات والتطوُّرات، فليست هي بالعاجزة عن مُلاحَقة الرَّكب الذي تخلَّف الغرب عنه، وأستحضر مرثية حافظ إبراهيم شاعر النيل - رحمه الله -:
أَنَا البَحْرُ فِي أَحْشَائِهِ الدُّرُّ كَامِنٌ
فَهَل سَأَلُوا الغَوَّاصَ عَنْ صَدَفَاتِي |
وقوله:
فَكَيْفَ أَضِيقُ اليَوْمَ عَنْ وَصْفِ آلَةٍ
وَتَنْسِيقِ أَسْمَاءٍ لِمُخْتَرَعَاتِ |
لا بُدَّ وأنْ نتنبَّه للخطَر الداهِم الذي يُدرِكنا ولا ندري به، ويُحاط بنا ولا نُحاذِر منه، إنَّ ضَياع اللُّغة من ضَياع هيبة الأمَّة، كَفانا تفريطًا، وكفانا رُكونًا إلى الذين ظلَمُوا وإلا تمسَّنا النار، أليست اللُّغة العربيَّة من مُقوِّمات وأسس الوحدة العربيَّة التي ننشدها ونتطلَّع إليها.
ألا ترَوْن اللُّغة التي بها يتَخاطَب شَبابنا عبر البريد الإلكتروني، كلمات عاميَّة ولم تُكتَب حتى بالحروف العربيَّة بل بالإنجليزية، فيا للأسى!
وكثيرٌ وكثيرٌ، ولو عزَمْنا على أنْ نُعدِّد مَساوِئ البُعد عن اللُّغة الأمِّ ما انتهينا، ونُصبِح ساعتَها كمَن تَنُوح على ميتٍ فلا الميت براجعٍ، ولا العَزاء بمنتهٍ ولا منفض.
فيا أيها العربي، اعتزَّ بلُغتك لُغة القُرآن أعظم الكتب على الإطلاق، ولا يجرمنَّكم مُجاراة عصرٍ خَبَتْ فيه شمسُكم على أنْ تتخلَّوْا عنها.
وأخيرًا: مسك الختام شهادة تقدير مُنِحَتْ للعربيَّة من ربِّ الأنام: ﴿ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ﴾ [النحل: 103].
فماذا بعدُ معاشرَ الرجال؟!
والله من وَراء القصد.
التعليقات