عناصر الخطبة
1/ الله لم يترك الناس هملاً 2/ العالم الحق يعتمد في فتواه على الكتاب والسنة 3/ حكم تتبع رخص العلماء 4/ السلف كانوا أبعد الناس عن المشتبهاتاهداف الخطبة
اقتباس
أيها الناس: هكذا يكون المتقون المستبرئون لدينهم وعرضهم، فإياك أن تقدم على أمر فيه خلافٌ بين العلماء، محللاً ذلك بوجود الخلاف، فإنه إذا وجد الخلاف وجب الاستبراء والورع، وذلك...قال الحسن: "ما ضربت ببصري، ولا نطقت بلساني، ولا بطشت بيدي، ولا نهضت على قدمي، حتى أنظر أعلى طاعة أو على معصية؟! فإن كانت طاعة تقدمت، وإن...
الخطبة الأولى:
الحمد لله العلي العظيم، السميع البصير، الحكيم الكبير، اللطيف الخبير، ذي النعم السوابغ، والفضل المتتابع، والحجج البوالغ، تعالى عن صفات المحدودين، وتقدس عن مماثلة المخلوقين، وتنزه عن مقالة المعطلين، علا فكان فوق السماوات السبع عاليًا، ثم استوى على العرش يعلم السر وأخفى، ويسمع الكلام والنجوى، ولا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أنزل القرآن بعلمه، وخلق الإنسان بحكمته، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أفصح من نطق بالعربية، وأصدق الخلق لهجة، صلى الله عليه...
أما بعد:
فيا أيها الناس: إن مما تقرر في القلوب أن الله -جل وعلا- خلق الخلق ولم يتركهم هملاً، بل أرسل إليهم رسلاً، فينيرون للناس الطريق، ويعرفون الناس بربهم، ويدلونهم على طرق مرضاته، وينهونهم عن سبل غضبه وأليم عقابه، وجعل الله سبحانه لهؤلاء الأنبياء والرسل خلفًا يهتدون بهديهم، وينشرون الدين ويوضحون السبيل للناس، وهم العلماء ورثة الأنبياء، الممتهنين بمهنتهم، المطبقين لشريعتهم، العاملين بسنتهم، وقد جعل الله من الدين سؤال أهل العلم عما يجهله المسلم من أمور الدين، وقال سبحانه: (فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).
فكان لزامًا على كل مسلم حريص على دينه أن لا يأتي شيئًا من أمور دينه إلا وهو يعلم حكم الله فيها، فيكون ممن يعبد الله على بصيره، وعلى المسلم أن يحتاط وينظر ممن يأخذ أمور دينه، فقد كثر المدعون للعلم والمتعالمون، قال ابن سيرين: "إن هذا العلم دين؛ فانظروا عمن تأخذون دينكم".
وإن العالم الحق هو الذي يعتمد في فتواه على كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وتصدق أعمالُه أقوالَه، فإن مما انتشر في هذا الوقت كثرة المفتين، واختلاف أهل العلم في بعض المسائل، فالمسلم بين أمرين لابد أن يتنبه لهما: أن يعرف من هو العالم، والثاني: أن يعرف كيف يتصرف عند اختلاف العلماء، فلقد أخطأ بعض الخلق في كلا الأمرين، والبعض منهم لا يحسن التصرف في المسائل المختلف فيها، فتجد أنه يتتبع الرخص ويبحث عمن شُهر بالتساهل في الفتوى زعمًا منه، حيث لمز بعض العلماء بالشدة في الأحكام، وإن مثل هذا لنذير شر على الأمة، ولربما استدل بعض من قلّ علمه وفهمه للدين بما يروى عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اختلاف أمتي رحمة"، وهذا الحديث باطل سندًا ومعنى؛ قال عنه السبكي: "لم أقف له على سند صحيح ولا ضعيف ولا موضوع". اهـ.
وقد ورد بلفظ: "اختلاف أصحابي لكم رحمة". وسنده واهٍ جدًّا، والحديث مع ضعفه مخالف للقرآن، فإن الآياتِ الواردةَ في النهي عن الاختلاف في الدين، والآمرة بالاتفاق، أشهر من أن تذكر؛ كقوله تعالى: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)، وقوله: (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً).
ولربما يصح معناه إن حمل الاختلاف على أنه سبب للبحث والاستنباط من الأدلة كثيرًا من المسائل وانتشار العلم، فيكون سببًا في إيجاد أمور تحصل بها الرحمة، أما أن يُجعل الاختلافُ بين العلماء من باب التوسعة على الناس، فمن شاء أخذ بهذا ومن شاء أخذ بالآخر، فهذا شر عظيم وليس برحمة، بل هو نقمة على العالم الإسلامي بأسره، قال الإمامان مالك والليث -رحمهما الله- في اختلاف الصحابة في بعض المسائل: ليس بتوسعة إنما هو خطأ وصواب.
وقال الإمام مالك -رحمه الله- فيمن يأخذ بقول في مسألة هل هو في سعة؟! قال: لا والله، حتى يصيب الحق، ما الحق إلا واحد، قولان مختلفان يكونان صوابًا جميعًا؟! ما الحق إلا واحد. اهـ.
معاشر المسلمين: إن من فضل الله علينا أن أنزل علينا أحسن كتبه، وأرسل إلينا أفضل رسله، فكلامه -صلى الله عليه وسلم- وحي من الله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) [النجم: 3، 4]، فكل ما صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو حقّ لا مرية فيه؛ لأنه وحي من الله، وإن خالف النصُّ عقلَك وفهمك فاعلم أن الخلل في فهمك وعقلك لا في النصوص، ولهذا وجب على المسلم أن يقف على النصوص الشرعية، لا أن يردها بمجرد تخيلات باطلة ووساوس الشيطان، ولهذا إذا سمعت بخلاف في مسألة فعليك بالحيطة لدينك قبل أن تنظر فيما يوافق هواك، فإن العبد إذا تتبع سقطات العلماء اجتمع فيه الشرُ كلُه، قال سليمان التيمي: "إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشرُّ كله"، ذكره ابن عبد البر في كتابه، ثم قال: "وهذا إجماع لا نعلم فيه خلافًا".
وقال الإمام أحمد: "من تتبع رخص العلماء تزندق"، وقال الأوزاعي: "من أخذ بنوادر العلماء خرج من الإسلام".
فاحذر -يا رعاك الله- من اتخاذ اختلاف العلماء طريقًا لإشباع رغباتك ونيل ما تهواه نفسك، فإن هذا فساد للدين، جعلنا لله وإياكم من المتبعين للسنة الواقفين على حدود الله.
أقول قولي هذا...
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أحلّ الحلال وحرم الحرام، وأمر الناس بالتمسك بالكتاب والسنة، وجعلهما سبيلاً للنجاة، وأشهد أن لا إله إلا الله المألوه الذي تألهه الخلائق محبة وتعظيمًا وإجلالاً، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي لاتقاء الشبه والاستبراء للدين والعرض.
أما بعد:
فيا عباد الله: ما هو موقف المسلم في هذا الزمن الذي ملئ بالفتن والشهوات وكثرت فيه الفتاوى والاختلافات، وأصبحت ترقق الدين وتجعل الناسَ يبحثون عن الرخص حتى أصبح المتمسكُ بالحق يلمز بالتشدد في الدين، وحتى أصبح الحق صعبًا على نفوس كثير من الخلق!!
معاشر المؤمنين: يجب على المسلم أن يقف موقف الحازم الذي يصون نفسه ودينه، أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي عبد الله النعمان بن بشير قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الحلال بيّن، والحرام بيّن، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كراعٍ يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله تعالى في أرضه محارمُه".
أيها المؤمنون: لقد كان سلفنا الصالح أبعدَ الناس عن المشتبهات، قال أبو الدرداء: تمام التقوى أن يتقي اللهَ العبدُ حتى يتقيه في مثقال ذرة، وحتى يترك بعض ما يراه حلالاً خشية أن يكون حرامًا؛ حجابًا له بين الحلال والحرام.
وقال ابن عمر: "إني أحب أن أدع بيني وبين الحرام سترة لا أخرقها".
وقال الحسن البصري: "ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرًا من الحلال مخافة الحرام".
وقال أبو حامد: "لن يعدم المتورّع عن الحرام فتوحًا من الحلال".
وقال سفيان بن عيينه: "لا يصيب العبد حقيقة الإيمان حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزًا، وحتى يدع الإثم وما تشابه منه".
أيها الناس: هكذا يكون المتقون المستبرئون لدينهم وعرضهم، فإياك أن تقدم على أمر فيه خلافٌ بين العلماء، محللاً ذلك بوجود الخلاف، فإنه إذا وجد الخلاف وجب الاستبراء والورع، وذلك باتباع الدليل، والأحوط والأسلم للمرء في دينه حتى يكون على بينة من أمره.
قال الحسن: "ما ضربت ببصري، ولا نطقت بلساني، ولا بطشت بيدي، ولا نهضت على قدمي، حتى أنظر أعلى طاعة أو على معصية؟! فإن كانت طاعة تقدمت، وإن كانت معصية تأخرت".
وقال محمد بن الفضل: "ما خطوت منذ أربعين سنة خطوة لغير الله تعالى".
وقيل لداود الطائي: "لو تنحيت من الظل إلى الشمس، فقال: هذه خُطا لا أدري كيف تكتب".
عباد الله: هؤلاء قوم عرفوا أن الحلال بيّن واضح فحللوه، وأن الحرام بيّن واضح فاجتنبوه، وعرفوا أن المشتبه يجب أن يتقي خشية الوقوع في الحرام، فتورعوا عنه فصلحت أعمالهم ونياتهم لله تعالى، فهكذا فلنكن -عباد الله-، جعلنا لله وإياكم من المتقين الورعين.
وختامًا -أيها الناس-: إن الناس بين اثنين: إما عالم بالدليل يستطيع التمييز بين الصحيح والضعيف، ويطلع على أقوال أهل العلم ويميز بينها، ولديه ملكة تقوم بذلك، فهذا يجب عليه أن يعمل النظر ويستعمل الورع في بيان الحق، والآخر عامي ليس لديه ملكة يميز بها بين الأدلة أو يستنبط الحكم، فمثل هذا يجب عليه أن يحتاط، وينظر شيخًا يثق في علمه ودينه فيلزم فتواه، وعليه أن يحذر من التنقل بين الفتاوى والبحث عن الأسهل.
عباد الله: أقول هذا حيث رأينا من تنكب طريق أهل العلم وليس منهم، وأخذ يخوض في أصول الدين، وينزع بغرائب الأقوال، طلبًا للشهرة أو للدنيا، فمن مفتٍ بأن صلاة الجماعة غير واجبة، ومن مبيح للاختلاط بين الرجال والنساء، كل هذا عبر وسائل الإعلام التي أصبحت تفرح بأمثال هذه الكتابات، وتروّج لها، فعلى المسلم أن يجعل له أصولاً ثابتة لا يحيد عنها، وأن يحذر من دعاة الضلال الذين حذر النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولن يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه، فالثبات الثبات -عباد الله-، فما هي إلا أيام قلائل وينتقل المسلم من هذه الدار إلى الدار الآخرة وينكشف الغطاء، ويفرح أهل الصبر، أخرج الترمذي في جامعه من حديث أنس -رضي الله عنه- قال -صلى الله عليه وسلم-: "يأتي على الناس زمان الصابر فيه على دينه كالقابض على الجمر".
اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه...
التعليقات