عناصر الخطبة
1/خروج موسى من مصر إلى أرض مدين 2/بعض الدروس والعبر من قصة موسى في أرض مدين 3/عرض الرجل موليته على الرجل الكفؤ للزواج بها 4/تيسير تكاليف الزواج 5/وفاء موسى -عليه السلام- بوعده وإتمامه لأكمل الأجليناهداف الخطبة
اقتباس
إنها الأمانة في أعلى مراتبها وأرفع منازلها، ولست بحاجة أن أذكر مرة أخرى أن موسى -عليه السلام- يفعل ذلك وهو غريب، وعادة الغريب في غير بلده أنه لا يبالي بما يفعل، حيث قد يهون فيخون، ويَذِلّ فيَضلّ، وسل الواقع تجد صدق ما أقول. أما الرجل الصالح الذي يهتدي بنور الله فإنه يدرك أنه وإن كان الناس لا يعرفونه إلا أنه لا يغيب لحظة عن نظر الله وعلمه وإحاطته: (وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا)[الطلاق: 12]. جاء موسى إلى الرجل الصالح فقصَّ عليه قصته فهدَّأ من...
الخطبة الأولى:
عباد الله: اتقوا الله حق التقوى.
خرج موسى -عليه السلام- من مصر خائفًا يترقب، وهو يقول: (رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[القصص: 21].
ثم توجه تلقاء مَدْيَن، وهو يلهج بالدعاء: (عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ) [القصص: 22].
ثم يدخل ديار مَدْيَن ويحدث له فيها قصة، قصةٌ لم يتجاوزها القرآن، كما هي طريقته المعجزة في طيّ السنين والوقوف عند الحدث المؤثر فحسب.
لقد وقف القرآن مع هذا الحدث ليدلّ على أهمّيّته وضرورة التماس العبرة منه، فخذ الحدث مقرونًا بدلالاته ممزوجًا بإشاراته: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى)[يوسف: 111].
دخل موسى ديار مدين، وقد أجهده التعب وأضناه، يصوّر ذلك ابن عباس -رضي الله عنهما- بقوله: "سار موسى من مصر إلى مدين ليس له طعام إلا البقل وورق الشجر، وكان حافيًا، فما وصل إلى مدين حتى سقطت نعل قدميه، وبطنه لاصق بظهره من الجوع، وإن خضرَة البقل لتُرى من داخل جوفه، وإنه لمحتاج إلى شقّ تمرة".
فيرد ماء مدين ليروي عطشه ويبلّ كبده، لكنه يرى مشهدًا يلهيه عن ذلك، مشهد لا ترضاه النفوس الأبيّة ولا تقبله الفِطَر السوية.
وجد الرعاةَ يُورِدون أنعامهم لتشرب، ووجد هناك امرأتين تمنَعَان غنمَهما أن ترد مع غنم أولئك القوم، خشيةَ أن تؤذَيا أو يحلّ بهما مكروه.
إنها الاستهانة بحقّ الضعيف، حتى لكأنما الدنيا ملك الغني القوي فحسب.
لقد أثار هذا الموقف في نفس موسى من الرحمة والشفقة والمروءة ما أثار، الشيء الذي جعله ينسى رَهَقَ الطريق وتعبه، فيتقدم لإقرار الأمر في نصابه وإعادة الحقّ إلى أصحابه، تقدم ليسقي لهما أولاً قبل أن يتولى إلى الظل ليرتاح.
وإذا كانت النفوس كبارًا *** تعبت في مرادها الأجسام
وينبغي أن لا يغيب عن ذهنك وأنت ترى هذه الصورة المشرقة: أنّ موسى -عليه السلام- غريب في ديار مدين لا يُعرف، ليس له سند ولا ظهير، ومن عادة الغريب أن يكون هيّابًا، فكيف إذا كان مع ذلك مُطارَدًا شريدًا؟!
لكن هذا كلّه لم يكن ليمنع سجاياه الكريمة أن تظهر، وشيمة المؤمن تجعله لا يقدم المعروفَ للمعروفِ فحسب، بل يبذله للناس عامة.
وأيضا فإن موسى -عليه السلام- مكدود الخاطر قادم من سفر طويل، لا زاد له ولا استعداد، شريد مطارد يترقّب، ولم يكن ذلك كلّه ليقعده عن تلبية دواعي المروءة والمعروف: (قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ)[القصص: 23- 24].
روى ابن أبي شيبة بسند صحيح عن عمر -رضي الله عنه- قال: "إن موسى -عليه السلام- لما ورد ماء مدين وجد عليه أمَّة من الناس يسقون، فلما فرغوا أعادوا الصخرةَ على البئر، ولا يطيق رفعها إلا عشرة رجال، فإذا هو بامرأتين تذودان، قال: ما خطبكما؟ فحدثتاه، فأتى الحجر فرفعه، ثم لم يستقِ إلا ذَنوبًا واحدًا حتى رويت الغنم".
ما أجمل أن يجتمع مع الإيمان قوّة الجسد وكمال البنية وتمام الصحة، وهو أحد المعاني في قوله: "والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف"[رواه مسلم رقم (2664)].
سقى لهما موسى -عليه السلام- ولم يكن في سقيه يطلب أجرًا، تولى عنهما، لم ينتظر كلمة مدح أو عبارة ثناء: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا)[الإنسان: 9].
توجه موسى -عليه السلام- ببدنه إلى الظلّ ليتّقي شدّة الحر، ولكن توجّهه الأكبر كان في قلبه وروحه، حين توجه إلى ظلال رحمة الوهاب، توجه إلى الله يناديه ويعرض حاله عليه ويناجيه: (رَبّ إِنّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ)[القصص: 24].
يا فالق الإصباح أنت ربي *** وأنت مولاي وأنت حسبي
إن من يأوي إلى الله يأوي إلى ركن شديد وإلى مولى حميد: فأين الفقير؟! وأين الشريد؟! وأين الأسير والكسير؟! وأين من يبغي صلاح ولده وشفاء جسده؟! (إِنَّ رَبّى قَرِيبٌ مُّجِيبٌ)[هود: 61].
دعا موسى -عليه السلام- وأَلحَّ، فاستجاب الله له وما أسرع ردَّ الجواب من الوهاب، فها هي إحدى البنات تقبل عليه، تبلّغه دعوة أبيها: (إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا)[القصص: 25].
ولكن ثمّةَ في هذا الموقف درس عظيم، لا نستطيع أن نغفله أو نعرض عنه صفحًا: إنه مشهد الطهر والنقاء والعفة والحياء، يصوّر ذلك حالُ المرأة، وهي تأتي إلى موسى لتبلّغ دعوة أبيها: (فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء)[القصص: 25].
تمشي مِشية الفتاة الطاهرة النقية حين تلقى الرجال: (عَلَى اسْتِحْيَاء) من غير تبذل ولا تبرج، ولا تبجّح ولا إغواء، لم تأتِ لتعرض مفاتنها.
روى ابن أبي حاتم بسند صحيح عن عمر -رضي الله عنه- قال: "جاءت تمشي على استحياء قائلة بثوبها على وجهها، ليست بسَلْفَعٍ من النساء، ولاّجةً خرّاجة".
إنها حالة المؤمنة العفيفة وضوحًا في غير خضوع: (إِنَّ أَبِى يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا)[القصص: 25].
بدون زيادات، أو مقدمات، أو عبارات إعجاب، أو لفظة ثناء.
ويجيء موسى معها إلى أبيها كما يجيء الكرام، قال عمر وابن عباس وغيرهما -رضي الله عنهم-: "إن موسى لما جاء معها تقدمت أمامه لتدلّه الطريق، فقال لها: كوني ورائي، فإذا اختلف عليّ الطريق فاحذفي لي بحصاة أعلم بها كيف الطريق لأهتدي إليه".
إنها الأمانة في أعلى مراتبها وأرفع منازلها، ولست بحاجة أن أذكر مرة أخرى أن موسى -عليه السلام- يفعل ذلك وهو غريب، وعادة الغريب في غير بلده أنه لا يبالي بما يفعل، حيث قد يهون فيخون، ويَذِلّ فيَضلّ، وسل الواقع تجد صدق ما أقول.
أما الرجل الصالح الذي يهتدي بنور الله فإنه يدرك أنه وإن كان الناس لا يعرفونه إلا أنه لا يغيب لحظة عن نظر الله وعلمه وإحاطته: (وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا)[الطلاق: 12].
جاء موسى إلى الرجل الصالح فقصَّ عليه قصته فهدَّأ من روعه، وقال له: (لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)[القصص: 25].
فأنت في مأمن مما تخاف، وما أحوج الداعية المطارد إلى من يطمئن فؤاده ويهدّئ من روعه ويهيئ له مكانًا آمنًا يأمن فيه على نفسه ودعوته.
ثم تطلب إحدى البنات من أبيها أن يستأجِر موسى -عليه السلام- لرعي الغنم، ولعلّها وأختها تعانيان من مزاحمة الرجال على الماء فتتأذيان من ذلك كله، وتبغيان القرار في البيت، الشيء الذي يضفي على المرأة الستر والحياء، في وقت تتسابق فيه النساء إلى الخروج لحاجة ولغير حاجة: "وبيوتهن خير لهن"[رواه أبو داود رقم (567) وصححه الألباني].
(قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)[القصص: 26].
القوة والأمانة ركنان للولاية لا يتم صلاحها إلا بهما.
ثم يتكلم الأب الرجل الصالح بصراحة ووضوح دون غموض أو تلجلج ليقول: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ)[القصص: 27].
وليس في ذلك ما يدعو إلى الخجل أو التردّد والحرج، فهو يعرض عليه بناء أسرة وإقامة بيت.
إنَّ عَرضَ الرجل ابنته ومن تحت يده على رجل صالح كفء ليتزوجها أمرٌ جائز، لا غضاضة فيه ولا عيب، بل هو سنّةٌ قائمة، فقد أخرج البخاري في صحيحه: أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عرض ابنته حفصة على عثمان بن عفان فلم يبدِ رغبة في نكاحها، قال عمر: فلقيت أبا بكر، فقلت: إن شئت زوجتك ابنتي حفصة، فصَمَت ولم يرجع إلي شيئًا، فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله فأنكحتها إياه[صحيح البخاري (5122)].
قال ابن حجر معلقًا: "وفيه عرض الإنسان بنته وغيرها من مولياته على من يعتقد خيره وصلاحه، لما فيه من النفع العائد على المعروضة عليه، وأنه لا استحياء في ذلك"[فتح الباري (9/222) دار السلام].
وما يظنه بعض الناس من أن المرأة لا تُعرض إلا لنقصها فليس ذلك بصحيح وإن كان قد يحصل، كما أنه قد تكون المرأة المخطوبة دون عَرضٍ أسوأ حالاً من غيرها، ثم إن الإنسان لا يعرض غالبًا إلا أحسن ما عنده وأفضل ما لديه، ويبقى بعد ذلك أن العَرض ليس عَقدًا، بل على اسمه مجرَّد عرض، يليه البحث والتحري والاستخارة والاستشارة، ثم رؤية المخطوبة حين العزم على النكاح.
(إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ)[القصص: 27].
إنّ في تخييره بين ابنتيه إشارةً أخرى بأنه لا بأس بتزويج البنت الأصغر سنًا قبل من تكبرها في العمر، إذ ربما كان باب الكبرى مستورًا ببابِ الصغرى، والله كتب الأرزاق كما كتب الآجال.
ثم يُختم سياق القصة بكريم سجايا الرجل الصالح وحسن دَلِّه، حيث قال: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ)[القصص: 27].
لن أطلب منك رَهَقًا، ولن أكلفك شَطَطًا، فهل يعي هذا أولياء أمور النساء حين تصل بهم محبة المشقة على الزوج درجة كبيرة من حيث شعروا أو لم يشعروا؟!
حتى إنك لتجد كثيرًا من الأزواج يلبث بعد زواجه سنين عددًا يدفع أقساطًا تثقل كاهله، وتشغل خاطره، وهذا يؤثر ولا بد على راحته النفسية، ومن ثم على استقراره الأسري، والأب يريد لابنته أن تعيش السعادة مع زوجها، فيضرّها من حيث أراد نفعها.
الخطبة الثانية:
أما بعد:
إن من الضروري حين تقرير المهر أن يراعى في ذلك الواقع المعيشي الذي يعيشه الزوج، ويعيشه المجتمع، وأن تراعى تكاليف الحياة ومتطلباتها، فالأحوال تغيرت عن ذي قبل، وما كان بالأمس مقبولاً قد يكون اليوم غير مقبول ولا معقول.
إن على عقلاء الناس أن يراعوا ذلك، وأن يكونوا قدوة لغيرهم في تيسير أمور الزواج وخفض تكاليفه، و"من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء"[رواه مسلم رقم (1017)].
ويتمّ موسى أكمل الأجلين، وتلك سجية الكرام، فهو لا يرضى لنفسه أن يقفَ عند أدنى المراتب وهو يستطيع أن يصل إلى أكملها، لم يكن ليحسب كما قد يحسب غيره: كم سيأخذ عليها من أجر لو كان يتقاضى راتبًا؟! وكم ستكلفه من جهد ووقت يذهب دون عائد أو مقابل؟! لم يكن في حسابه شيء من ذلك.
ثم يسير موسى بأهله بعد انقضاء الأجل، ليرى من آيات ربه الكبرى، وليصارع بعد ذلك دولة الباطل وجنود البغي والعدوان، في عرض قرآني وسرد قصصي يفيض بالدروس والعبر: (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)[ص: 29].
التعليقات