أ.د /يسري محمد هانئ
استاذ الدعوة بجامعة الازهر
الخطابة فن قديم نشأ مع الإنسان، وصعد معه مدارج الرقي، لذلك لا نجد أمة من الأمم عبر التاريخ لم تعرفها، إذ أنها لازمة من لوازم الحياة الإنسانية، لأن الناس حين يجتمعون في مكان واحد يحتاجون إلى بيع وشراء وأخذ وعطاء، وتنافس على القيادة والرئاسة وتسابق على جمع المال، وهم في سعيهم هذا، يختلفون في وجهات النظر، ويحتاجون إلى التعبير عما في نفوسهم، فيقف بعضهم يتحدث إليهم محاولا إقناعهم فإذا نجح في ذلك فهو خطيب، وما تحدث به خطبة، وإذا ما أراد الإنسان أن يدافع عن نفسه فليس له سوي سلاحين الأول فيها مادي وهو السيف، والثاني معنوي وهو الخطابة لأن للكلمة أثرا قويا قد يسبق أثر السيف([1]).
والمعلوم أن الله سبحانه أرسل الرسل الكرام منة منه تعالى إلى أولاد آدم، وكان الرسل الكرام خطباء في أقوامهم، يدعونهم إلى الله عز وجل، ويهدونهم إلى توحيده، فها هو ذا سيدنا نوح u يحكي القرآن عنه كيف وقف خطيبا وسط قومه يبلغهم رسالة ربهم في الليل والنهار صابرا محتسبا، قال تعالي: )ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً* ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً* فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً* يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَاراً* وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً* مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لله وَقَاراً*وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً* أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقاً* وَجَعَلَ القَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً* وَالله أَنْبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتاً * ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً* وَالله جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطاً* لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً( (نوح: 8، 20).
وبعده جاءت الرسل تَتْرا كما قال تعالى: )ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُم بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ( (المؤمنون:44).
فجاء سيدنا هود u ووقف خطيبا في قومه كما حكي القرآن عنه قال تعالي: )وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا الله مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِن أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ* يَا قَوْمِ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ* وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ* قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ* إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ الله وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ* مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ* إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ* فَإِن تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ( (هود: 50، 57).
وبمثله جاء سيدنا صالح وسيدنا إبراهيم وسيدنا شعيب وسيدنا موسي وسيدنا عيسي- عليهم السلام- حتى بعث النبي ^ ونزل عليه قوله تعالى: )فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ( (الحجر:94).
ونلاحظ أن كل نبي بعث معه الحجة والبرهان لتعليم قومه الكتاب والحكمة: )كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ( (البقرة:151) وقد شرح الله لهم صدورهم، ويسر لهم أمورهم، وأطلق ألسنتهم: )قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي* وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي* وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي* يَفْقَهُوا قَوْلِي( (طه:25، 28).
وقد كانت الخطابة أداة التبليغ عند سيدنا محمد ^ حين نزل عليه قوله تعالى: )وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ( (الشعراء:214).
فقد أخرج أحمد من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لما أنزل الله )وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ( أتي النبي ^ الصفا فصعد عليه ثم نادي «يا صباحاه» فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء إليه، وبين رجل يبعث رسوله فقال رسول الله ^: يا بني عبد المطلب، يا بني فهر، يا بني كعب، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم، أصدقتموني؟ قالوا: نعم قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد»([2]).
ثم نزلت الآيات تبين للرسول ^ أمر الدعوة وتحض على البلاغ بالكلمة المؤثرة والموعظة البليغة: )ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ((النحل:125).
ومن ثم نستطيع ونحن مطمئنون أن نقول: إن النبوة والرسالة كانت دليلا لا شك فيه على أن الخطابة نشأت مع الإنسان حين دب إلى الأرض، وأن روادها العظام هم الأنبياء والمرسلون، وأن كل خصائص الخطابة وطرق الإقناع والتأثير موجودة فيها كما حكى القرآن الكريم عنهم.
ونفهم كذلك كلام المؤرخين لعلم الخطابة حين أرجعوا الأمر إلى اليونان في تدوين علم الخطابة، ووضع الأسس له والأركان، فاليونان هم الذين قننوا العلم مادة لها أصول وقواعد، وذلك في عصر «بيركليس» حين أضحت أثينا منارة للخطباء الذين امتازوا ببلاغتهم وحسن إلقائهم.
يقول العلامة الشيخ أبو زهرة : ويظهر أن أول من اتجه إلى استنباط تلك القواعد السوفسطائيون، فإنهم كانوا يعلمون الشباب في أثينا طرق التغلب على خصومهم في ميدان السبق الكلامي، وكيف يغالطونهم؟… وقد جاء من بعد هؤلاء أرسطو، فجمع قواعده، وضم شوارده في كتاب أسماه الخطابة كان أصلا لذلك العلم، ومرجعا يرجع الخطباء والمؤلفون في الخطابة إليه، وصدرا يصدرون عنه، ويردون موارده. وبعد أرسطو جاء عصر نشطت فيه الخطابة عند الرومان نشاطها عند اليونان، حيث كانت بعض المدارس الرومانية تقبل أبناء الأغنياء وتمرنهم على الخطابة، ووجدت عدة مؤلفات لشيشرون، وكونيليان الذي ألف كتابه «تهذيب الخطيب» وألف لنجيوس الحمصى كتابا سماه «المفلق»([3]).
الخطابة عند اليونان :
ونزيد الحديث عن الخطابة عند اليونان والرومان تفصيلا: بما قاله أستاذنا الدكتور عبد الجليل شلبي- رحمه الله-
قضت البلاد اليونانية ردحا من الزمن وهي قبائل مفككة، تكاد كل قبيلة أو جماعة منها تكون مستقلة عن الأخرى، وبينها تنافس وسباق على أسباب العيش ووسائل الحياة، ولم تكن هذه القبائل ترجع إلى أصل واحد، ولكنها أجناس شتي نزحت إلى هذه الجزر ولم يربط بينها رابط إلا المجاورة واشتراك الأعمال.
وخلال عدد من القرون ظلت هذه القبائل تتقارب ثم تتعاون وتتحد، على نحو ما تصف إلياذة هوميروس. والإلياذة -على ما يكسوها من خيال وتصورات وتعبيرات شعرية- هي كتاب اليونان المقدس، وكما يقوم العهد القديم بتسجيل تاريخ الإسرائيليين، تقوم الإلياذة بتسجيل تاريخ اليونان.
وقد سجل التاريخ أحداثا كثيرة، وحروبا طويلة، كان من أبرزها قيام التنافس بين أثينا واسبرطة، الذي اشتد حتى أدي إلى حروب لم تنته إلا سنة 404 ق.م باستسلام أثينا وزعامة إسبرطة على البلاد اليونانية كلها، وغير ذلك من الأحداث.
والخطابة تنضج وتقوي عادة في أيام الحروب والمشادات، ولقد اعتمدت الحروب اليونانية في شتي مواقفها على الخطابة، ولهذا ظهر خطباء لن ينساهم التاريخ، من هؤلاء «سولون الأثيني» و «ديموستنس».
وإذا نحن رجعنا إلى الإلياذة نجد الخطابة اتخذت فيها مكانة قوية، فهي ميزة من ميزات أبطالها، وهي التي أبرزت مشاعرهم، وصورت أحاسيسهم، كما تجد الفلاسفة والمؤرخين اعتمدوا عليها في إقناع الجماهير، مما يدل على أن الخطابة كانت ذات مكانة في حياة اليونانيين وأخلاقهم.
ثم لما سادت الديمقراطية بلاد اليونان، وشاعت الحرية السياسية؛ نشطت الخطابة وشعر الأفراد بحاجتهم إليها، ونشأ بينهم معلمون يعلمون الخطابة والجدل، وظهرت طائفة السوفسطائيين يدربون على الجدل والمغالطة، وكان لعملهم لونان مختلفان: أولهما، إفساد المنطق، والجنوح إلى إقناع الناس والحكام بأدلة كثيرًا ما تكون مضللة، ولكنها تستهوي السامعين، ثاني اللونين لعملهم أنهم شجعوا الخطابة وأشاعوها، وجعلوها فناً مستقلا له قواعده وأصوله.
وخلال مائة عام من سنة 420 إلى سنة320 ق.م، كانت الخطابة اليونانية في قمة ازدهارها رواجا وسموا وإتقانا، وتميزت بوضوح أقسام ثلاثة هي: خطب المحافل، وأشهر أصحابها هو «جورجياس»، والخطب القضائية، وكان على محترفيها أن يجيدوا إعدادها وأن يلقنوها أصحابها من المتقاضين، فكان هذا تعليما وإتقانا للخطابة، وأشهر القائمين بهذا العمل هو «لوسياس»، والخطب السياسية التي ازدهرت ازدهاراً أوسع إبان الصراع بين أثينا ومقدونيا.
وهكذا سجلت الخطابة اليونانية صورة الحياة في اليونان واتجاهها الفكري، كما سجلت سمو بلاغتهم وأساليبهم([4]).
هذا، وكان من أبرز الخطباء في القرن الرابع الميلادي «ديموستين» ومنافسه «إسكيتر» وكلاهما مِصْقَعٌ مُفَوَّه، قويّ الخصومة واللدد، بارع في تشقيق الكلام، ومن أشهر المنافرات بينهما تلك التي دفعت ديموستين إلي إلقاء خطبته المشهورة (في سبيل التاريخ)، وقصة هذه الخطبة أن إسكيتر هاجم ديموستين أمام الجمعية الوطنية، ورماه بالضعف، وبأنه لا يستحق الإكبار، ولا يحق له أن يتوج بتاج الزهر الذي كانت الجمعية تضعه على هامات المتفوقين، فألقي ديموستين خطبته هذه وخطباً أخري أوفت على الغاية في الفصاحة والبيان، وأفحم بها خصمه، واضطره إلى الهرب ودفع الغرامة فكان ديموستين يرسل إليه المال ليعينه على احتمال الغربة والفاقة؟، والحق أن السر في تفوق ديموستين تمثيله وتشدقه، لا تعليله وعمقه، وسحر الإلقاء لا قوة الفكر([5]).
وهكذا يمكننا القول بأن الخطابة عند اليونان عاشت رقيا وازدهارا وتقدما، حيث توفرت لها دواعي الازدهار وأسباب التقدم، والتي يمكن أن تتلخص في الآتي:
أ- أجواء الحروب والمناوشات التي عاشتها البلاد اليونانية.
ب- ظهور المسارح والفنون والآداب ونشاطها، وخاصة في إسبرطة، وكانت بمثابة منابر للخطابة، مما أدي إلى نهضة خطابية، وتدريب على حسن الإلقاء.
ج- النظام السياسي الذي توفرت في ظله الحرية السياسية، وكان لكل صاحب رأي أو اتجاه، الحق في أن يعبر عن رأيه، ولما كانت الجماهير عادة تتأثر ببلاغة الخطيب وبيانه، أكثر من حججه المنطقية، كان الخطباء يتبارون في إجادة خطبهم أداء ومضمونا كي يجتذبوا مشاعر الجماهير، ويستميلوهم إليهم ويقنعوهم بآرائهم.
د- نظام القضاء، حيث كان مجلس القضاء يتكون من عدد من القضاة يزيد على المائة- وبلغ أيضا عند الرومان نحو أربعمائة- وهذا العدد الكبير يجعل القضاة جمهورا، ويدفع المتقاضين أن يسلكوا سبيل التأثير في عواطف القضاة. ويهتمون ببلاغة الخطبة أكثر من روحها القانونية، فكان ذلك مدعاة لنهضة الخطابة، لأنها هي التي تحقق للمتقاضين ما يريدون، وجدير بالذكر أنه لم يكن لدي اليونان نظام توكيل محام، فكان كل شخص يدافع عن نفسه، وقد اضطر هذا النظام جمهور الشعب أن يتعلم الخطابة ويتدرب عليها، فكان هناك معلمون يعلمون الناس الخطابة، وأقبل الشباب على تعلمها والتدرب عليها استعدادا لما عسي أن يواجههم من مواقف السياسة والقضاء([6]).
نماذج من خطب ذلك العصر :
ونورد هنا خطبة من خطب اليونانيين وهي للخطيب المشهور «لوسياس» الذي ولد سنة 459 ق.م وعمَّر أكثر من ثمانين عاما([7]).
ومن خطب لوسياس الشهيرة خطبة أعدها للدفاع عن شاب مقعد كان يحصل على معونة من الحكومة، ثم اتهم بأنه كان يدعي ادعاءات كاذبة للحصول على هذه المعونة، وفي هذه الخطبة تبدو روح السخرية والتهكم، ومنها:
«شكرا للمدعي على تقديمي لهذه المحاكمة، لم أكن -حتى هذه الساعة- أجد سببا به أتحدث عن حياتي، وقد أتاح المدعي لي هذا السبب، وسأبين في حديثي مدي خطئه وكَذِب تُهَمِه، وأوضح لكم بالأدلة القاطعة أن حياتي تستحق كل عطف وثناء وإعجاب بدلا من الغيرة والأحقاد، لا أعتقد أن هناك سببا دفعه إلى تقديمي للمحاكمة إلا هذا السبب، بسبب الحقد والحسد. فما ظنكم بالخسة والحقارة التي يهوي إليها من يحسد شخصا يشفق عليه ويرثي لحاله الناس جميعا.
طبيعي أنه لم يقم بالتبليغ عني ليجني من وراء ذلك أموالا، وهو أيضا لا يقصد معاقبة عدو ويريد أن ينتقم منه وإنما دفعه إلى ذلك سوء خلقه، إذ لم يسبق لي أي معاملة معه.
واضح لكم أيها السادة أنه يغار مني، فإنني -على الرغم من عاهتي هذه- مواطن شريف أحسن منه، إن المرء المنكوب المصاب، يعمل دائما كي يعوض عن نكباته الجسدية، بسجايا عقلية حميدة، ولو أبديت عقلية تناسب جسدي المنكوب الحظ. وصغت حياتي تبعا لذلك، لكنت شخصا سيئا مثله.. (وقد اتخذ من ركوبي ذريعة لاتهامي).
وليس لدي كثير أقوال عن ركوبي الذي تجرأ على ذكره، غير متخوف من الدهر ولا محترم لكم، فإني أعلم أن الذين يعملون تحت أي ضغط، أو يتحملون أعمالا فوق طاقتهم، يضطرون لتلمس لحظات للاستجمام، ويتخيرون أحسن سبل التمتع بالراحة من عناء ما يتحملون، إنني واحد من هؤلاء، وقد وجدت في الركوب لأي مسافة شيئا من الراحة، ولو كنت ميسور الحال، لنشدت راحتي في ركوب بغل بدلا من استعارة جواد، ولكن ما حيلتي، وليس لدي ما أشتري به دابة، فأنا مضطر دائما إلى استعارة جواد.
إني لأعجب من هذا الاتهام، يراني أستعمل عصوين، وغيري من العرج والأصحاء يمشي وبيده عصا واحدة، فلا يرثي لي، ولكن يتهمني بالترف والإسراف، لأن الأغنياء وحدهم هم الذين يستطيعون شراء عصوين.
وهكذا تمضي الخطبة تستعرض التهم واحدة بعد الأخرى لتفندها وتردها.
الخطابة عند الرومان :
ترتبط حال الخطابة الرومانية بحال الحكم في تلك البلاد، فقد نشأت الحكومة الرومانية في روما ملكية مطلقة، تستمد سلطانها من السماء، ومنذ سنة 500 ق.م تحولت إلى جمهورية.
ولم تكن حياة الرومان ممتَّعة بحرية كافية، ولكن ظهر فيها -بين حين وآخر- خطباء وبرزت مواقف خطابية عظيمة، مثل موقف أنطونيو صديق قيصر اليوناني «يوليوس قيصر» حيث قتل إثر محاكمته محاكمة رهيبة دبرها له اثنان من أصدقائه هما «بروتس» و»كاسيوس» وظل الخطباء يذكرون أخطاءه ومظالمه حتى أثاروا عليه الناس فقتلوه، وقد دهش القيصر للطعنة القاتلة من «بروتس» فالتفت إليه وقال: «حتى أنت يا بروتس»([8])، فقد وقف «أنطونيو» عند تشييع جثمان قيصر فألقي خطابا مثيرا رهيبا، استنفر به السامعين، وأثار غضبهم على قتلة قيصر، ثم طارد هو وصديقه «أوكتافيو»- طاردا- «بروتس» و«كاسيوس» إلى بلاد اليونان حيث ماتا منتحرين.
واتخذ الكتاب والشعراء فيما بعد من موقف بروتس من يوليوس قيصر، ثم من موقف أنطونيو من بروتس مجالا لتمثيل سحر البيان وأثر الخطابة في نفوس السامعين، ولا تزال مرثية أنطونيو من الآثار الأدبية الرائعة.
وفي العهد المسيحي ظهرت خطب دينية، وكان الموقف خليقا أن يخرج خطباء ممتازين كبارا ولكن المسيحية ظلت مكبوتة، فلما صارت ديانة رسمية انشقت على نفسها، واعتنقت الحكومة المذهب الكاثوليكي، ولما ظهر هرقل بمذهبه الذي قام على وحدة الإرادة، والذي أراد به أن يوفق بين المذاهب المتضاربة؛ كان قُصاراه أنه زاد هذه المذاهب مذهبا آخر، وكان بطشه وظلمه مما قتل الخطابة، وكمم أفواه الخطباء([9]).
وكان أشهر خطباء العصر الروماني «ماركوس توليوس شيشرون» (106- 43 ق.م)، وهو خطيب وكاتب ومحام وسياسي، تلقي العلم على خيرة أساتذة عصره في روما وأثينا ورودس، واشترك في الحياة العامة، وتقلد مناصب في الدولة، وقد اختلفت الآراء في شيشرون، وأخذ عليه بعض المؤرخين صفات الغرور([10]) وخور العزيمة وعدم الثبات على المبدأ، لكنه كان محاميا قديرا وخطيبا بليغا، وكاتبا ممتازا، ترك مؤلفات عديدة في البيان والفلسفة، فضلا عن عدد من الخطب الرائعة، والخطابات المشهورة([11]).
وقد «طغت شهرته على من سواه بسعة ثقافته، وغزارة مؤلفاته، وتدفق بيانه في الخطابة»([12]).
وممن نبغوا في الخطابة في الرومان كذلك، الخطيب الروماني، الأسباني الأصل، «كونتليان» الذي عاش في حدود القرن الأخير قبل الميلاد، فقد كان خطيبا بليغا، من علماء البيان، وقام بتدريس أصول البلاغة، وألف كتابا ضخما عن «أسس الخطابة» يتكون من اثني عشر جزءا، أولها يبدأ بالكلام عن تربية النشء، ثم ينتقل في الأجزاء الأخرى، إلى الكلام عن أصول الخطابة وقواعدها، وضع للخطيب المفوه خطة تساعده على إتقان فنه، فطلب منه الإلمام بثقافة عصره كلها، ونصح له بالروية، وبتقسيم الخطبة إلى أقسام هي: المقدمة، والعرض، والبرهان، والدحض، والخاتمة، وحذره من الإطالة وبين له أن الحذف أهم من الإضافة، لكي يبرأ الكلام من اللغو والفضول، ولقد اشتهر بأسلوبه الأخاذ الجميل، الذي أعجب به كل من قرأه، لذلك كان تأثيره كبيراً في العصور القديمة وفي عصر النهضة أيضا([13]).
ومع هذا لم تكن الخطابة عند الرومان ذات حظ من الرقي والانتعاش، بسبب ما كان يسود الحياة السياسية من استبداد وتسلط، على عكس ما كان لدي اليونان.
([1]) ارجع إلى: الدعوة والخطابة للأستاذ على عبد العظيم- إصدار شباب سيدنا محمد r «دار الاعتصام» الطبعة الأولي- 1399هـ-1979مـ.
([2]) أخرجه البخاري في كتاب: التفسير، باب: قوله تعالى: إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد، ومسلم في كتاب: الإيمان، والبداية والنهاية- لابن كثير- 3/38.
([3]) الخطابة 12، 14 بتصرف- وارجع إلى فن الخطابة للدكتور الحوفي ص219- وما بعدها.
([4]) باختصار وتصرف عن الخطابة د/ عبد الجليل شلبي ص143 وما بعدها.
([5]) الوجيز في قصة الحضارة. ولديورانت. أوجزه. د/غازي مختار طليمات 2/91-92. دار طلاش، دمشق. ط الأولي 1993م. نقلا عن الخطابة في موكب الدعوة الإسلامية- ص28.
([6]) الخطابة د/ عبد الجليل شلبي ص145- 146، يتصرف وارجع إلى الخطابة في موكب الدعوة الإسلامية- ص28 وما بعدها بتصرف.
([7]) السابق : ص153 ، والخطبة المذكورة عنه أيضا 155- 156.
([8]) قتل يوليوس في منتصف مارس سنة 44 ق.م- الموسوعة العربية الميسرة- 2/1412، وراجع الوجيز في قصة الحضارة- 2/151- 154.
([9]) الخطابة د/ عبد الجليل شلبي ص157 وما بعدها باختصار وتصرف.
([10]) ومن غروره قوله: «تقديري لنفسي أنها أعظم الأشياء عندي» وهو لم يكن يري أن لقيصر الحق في شهرة تفوق شهرته لأن البيان فوق السلطان، فعلي روما أن تقدر خطباءها قبل قادتها، الوجيز في قصة الحضارة 2/148، 149.
([11]) الموسوعة العربية الميسرة- 2/1106.
([12]) الوجيز في قصة الحضارة 2/148.
([13]) السابق 2/167 ، الموسوعة العربية الميسرة- 2/1518 بتصرف.
التعليقات