عناصر الخطبة
1/ موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين من أصول الإيمان 2/ وجوب معاداة الكفار وبغضهم 3/ موالاة الكفار ونصرتهم قد يخرج الإنسان من الإسلام 4/ الأصل في معاداة الكفار أن تكون ظاهرة لا مخفية 5/ حرمة موالاة الكفار تتأكد في حق من كان محاربًا مقاتلاً 6/ معاداة الكافرين من الشرائع التي فرضت على الأنبياء والرسل 7/ ارتباط البراءة من الكافرين بـ\"لا إله إلا الله\" 8/ الفرق بين الموالاة والتولي 9/ الفرق بين عداوة الكافرين ومعاملتهم ودعوتهم للإسلام 10/ جواز إظهار المودة للكافرين باللسان في حالات الإكراه 11/ صور موالاة الكافرين التي قد تخرج صاحبها من الملةاهداف الخطبة
اقتباس
إن الذين يحاولون تمييع هذه المفاصلة الحاسمة، باسم التسامح والتقريب بين أهل الأديان السماوية، يخطئون فهم معنى الأديان، كما يخطئون فهم معنى التسامح، فالدين هو الدين الأخير وحده عند الله، والتسامح يكون في المعاملات الشخصية، لا في التصور الاعتقادي ولا في النظام الاجتماعي...
إن الحمد لله...
أما بعد:
أيها المسلمون: لقد نهى الله عباده المؤمنين عن اتخاذ الكفار أولياء في آيات عدة؛ فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِينا) [النساء: 144]، وقال تعالى: (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاة) [آل عمران: 28]، وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين) [المائدة: 51]. فاتخاذهم أولياء هو اعتبارهم أصدقاء وأحبابًا وأنصارًا، وذلك يظهر بالحفاوة بهم وإكرامهم وتعظيمهم.
ومما يوضح ذلك قوله -سبحانه وتعالى-: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَه) [المجادلة: 22]، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ) [الممتحنة: 1]. فدلت الآيتان على أن اتخاذهم أولياء يتضمن مودتهم، وجاء ذكر التولي في آية واحدة وهي قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُم)، والذي يظهر أن توليهم هو معنى اتخاذهم أولياء، وفُسر "التولي" في قوله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُم) بنصرتهم على المسلمين، ولهذا كانت مظاهرة الكفار ومعاونتهم ضد المسلمين من أنواع الردة؛ لأن ذلك يتضمن مقاومة الإسلام، والرغبة في اضمحلاله وذل أهله.
فالواجب على المسلمين أن يبغضوا الكفار، وأن يعادوهم في الله، وأن يجاهدوهم بالله ولإعلاء كلمة الله، وهذا لا يمنع من معاملتهم في أمور الحياة كالتجارة، ولا يوجب الغدر بما أعطوا من عهد، بل يجب الوفاء بعهدهم كما قال تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِين) [التوبة: 4]، فبغض الكفار والبراءة منهم من أصول الدين، وهي مقتضى الإيمان بالله والكفر بالطاغوت، ولكن ذلك لا يوجب ولا يبيح الخيانة أو الظلم، فالظلم حرام، ونقض العهد حرام: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا).
أيها المسلمون: إنَّ موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين، مِنْ أعظمِ أصول الإيمانِ، وإنْ تساهلَ فيه البعضُ في هذه الأزمانِ، بل إنَّه شرطٌ في الإيمانِ كما قال تعالى: (تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُون * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) [المائدة: 80، 81].
إنَ الكفارَ بجميعِ أصنافِهم هم أعداؤُنا قديمًا وحديثًا، لذا نهى اللهُ عبادَهُ المؤمنين عنْ مُوَالاتِهم ومودتِهم، فقال سبحانه: (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِير).
أيها المسلمون: ذكر العلماء جملة من القواعد في هذا الباب:
القاعدة الأولى: وجوب معاداة الكفار وبغضهم، وتحريم موالاتهم ومحبتهم، جاءت في كتاب الله صريحة ومتنوعة، بل إنها في صراحتها لا تخفى على العالم ولا العامي ولا على الصغير غير المكلف، بل نص أهل العلم على أنه ليس في كتاب الله تعالى حكم فيه من الأدلة أكثرُ ولا أبين من هذا الحكم بعد وجوب التوحيد وتحريم ضده، ومن الآيات الدالة على هذا الأمر قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ) [الممتحنة: 1]، وقال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً) [النساء: 144]، وقال سبحانه: (لا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) [آل عمران: 28]، ويقول -جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ) [التوبة: 23].
القاعدة الثانية: أن الوقوع في هذا المنكر العظيم والجرم الخطير -ألا وهو موالاة الكفار ومحبتهم، أو تولّيهم ونصرتهم- قد يخرج الإنسان من دين الإسلام بالكلية، بنصّ كتاب الله -عز وجل-، واسمع إلى قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)، قال حذيفة -رضي الله عنه-: "ليتق أحدكم أن يكون يهوديًا أو نصرانيًا وهو لا يشعر لهذه الآية". ويقول القرطبي -رحمه الله- عند تفسير هذه الآية: "أي من يعاضدُهم ويناصرُهم على المسلمين فحكمه حكمهم في الكفر والجزاء، وهذا الحكم باق إلى يوم القيامة، وهو قطع الموالاة بين المسلمين والكافرين". اهـ. ويقول سبحانه: (لا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ). قال إمام المفسرين ابن جرير الطبري في تفسير هذه الآية: "يعني فقد برئ من الله وبرئ الله منه بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر". اهـ.
القاعدة الثالثة: أن الأصل في معاداة الكفار وبغضهم أن تكون ظاهرة، لا مخفية مستترة، حفظًا لدين المسلمين، وإشعارًا لهم بالفرق بينهم وبين الكافرين، حتى يقوى ويتماسك المسلمون، ويضعف أعداء الملة والدين، والدليل على هذا قوله تعالى آمرًا نبيه والأمة كلها بأن تقتدي بإبراهيم -عليه السلام- إمام الحنفاء، وأن تفعل فعله، حيث قال سبحانه: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) [الممتحنة: 4]، وتأمل بعض الفوائد من هذه الآية العظيمة الصريحة التي لم تدع حجة لمحتج:
1- أنه قدّم البراء من الكافرين على البراءة من كفرهم؛ لأهمية معاداة الكفار وبغضهم، وأنهم أشد خطرًا من الكفر نفسه، وفيها إشارة إلى أن بعض الناس قد يتبرأ من الكفر والشرك ولكنه لا يتبرأ من الكافرين.
2- أنه لما أراد أن يبين وجوب بغضهم عبّر بأقوى الألفاظ وأغلظها فقال: (كَفَرْنَا بِكُمْ) لخطورة وعظم الوقوع في هذا المنكر.
3- أنه قال: (بَدَا)، والبدو هو الظهور والوضوح، وليس الخفاء والاستتار، فتأمل هذا وقارنه بمن ينعق في زماننا بأنه لا يسوغ إظهار مثل هذه المعتقدات في بلاد المسلمين؛ حتى لا يغضب علينا أعداء الدين، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
4- تأمل قوله: (الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ)، فلا يكفي بغضهم، بل لا بد من إظهار العداوة لهم، بل إنه قدّم العداوة على البغضاء لتأكد وجوبها.
5- قوله: (أَبَدًا) أي إلى قيام الساعة، ولو تطور العمران وركبنا الطائرات وعمرنا الناطحات، فهذا أصل أصيل لا يزول ولا يتغير بتغير الزمان ولا المكان.
القاعدة الرابعة: أن حرمة موالاة الكفار تزداد وتتأكد في حق من كان محاربًا مقاتلاً للمسلمين، مخرجًا لهم من ديارهم، صادًّا لهم عن دينهم كما قال تعالى: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ) [الممتحنة: 9].
القاعدة الخامسة: أن هذه القضية -أعني وجوب معاداة الكافرين وبغضهم- أمر لا خيار لنا فيه، بل هو من العبادات التي افترضها الله على المؤمنين، كالصلاة وغيرها من فرائض الإسلام، وقد تقدمت الآيات الصريحة الدالة على هذا الأمر، فلا تغتر بمن يزعم أن هذا دين فلان أو فلان، بل هذا دين رب العالمين، وهدي سيد المرسلين.
القاعدة السادسة: أن هذا الأمر من الشرائع التي فرضت على كل الأنبياء والرسل -أعني معاداة أعداء الله والبراءة منهم-، فهذا نوح يقول الله له عن ابنه الكافر: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ) [هود: 46]، وهذا إبراهيم يتبرأ هو ومن معه من المؤمنين من أقوامهم وأقرب الناس إليهم، بل تبرأ من أبيه فقال: (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) [مريم: 48]، وأصحاب الكهف اعتزلوا قومهم الذين كفروا حفاظًا على دينهم وتوحيدهم؛ قال -جل وعلا- عنهم: (وَإِذْ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً) [الكهف: 16].
القاعدة السابعة: إن قضية الولاء للمؤمنين والبراءة من الكافرين مرتبطة بـ"لا إله إلا الله" ارتباطًا وثيقًا، فإن "لا إله إلا الله" تتضمن ركنين: الأول: النفي، وهو نفي العبودية عما سوى الله، والكفر بكل ما يعبد من دون الله، وهو الذي سماه الله -عز وجل- الكفر بالطاغوت. والثاني: الإثبات: وهو إفراد الله بالعبادة. والدليل على هذين الركنين قوله تعالى: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 256]، ومن الكفر بالطاغوت الكفر بأهله كما جاء في قوله تعالى: (كَفَرْنَا بِكُمْ)، وقوله: (إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)؛ إذ لا يتصور كفر من غير كافر، ولا شرك من غير مشرك، فوجب البراءة من الفعل والفاعل حتى تتحقق كلمة التوحيد، كلمة "لا إله إلا الله".
القاعدة الثامنة: فَرّق بعض أهل العلم بين الموالاة والتولي، وقالوا: إن موالاة الكفار: معناها المصانعة والمداهنة للكفار لغرض دنيوي، مع عدم إضمار نية الكفر والردة عن الإسلام، كما حصل من حاطب بن أبي بلتعة عندما كتب إلى قريش يخبرهم بمسير رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فمثل هذا يعتبر كبيرة من الكبائر، وليست بكفر ينقل عن الملة، ولهذا النوع مظاهر معاصرة، كالتشبه بهم في اللباس والهيئة، أو حضور أعيادهم وتهنئتهم بها، وغيرها من مظاهر الموالاة التي لا تعد كفرًا ناقلاً عن الملة.
وأما التولي فهو: الدفاع عن الكفار وإعانتُهم ونصرتُهم بالمال والبدن والرأي والمشورة، ولو بقلم أو كلمة، وهذا كفر صريح، وخروج عن الملة، كما جاءت بذلك الآيات.
القاعدة التاسعة: هناك فرق بين بغض الكافر وعداوته وبين معاملته ودعوته إلى الإسلام، فالكافر لا يخلو إما أن يكون حربيًا، فهذا ليس بيننا وبينه إلا السيف وإظهار العداوة والبغضاء له، وإما أن يكون ليس بمحارب لنا ولا مشارك للمحاربين، فهذا إما أن يكون ذميًا، أو مستأمنًا، أو بيننا وبينه عهد، فهذا يجب مراعاة العهد الذي بيننا وبينه، فيُحقن دمه، ولا يجوز التعدي عليه، وتؤدى حقوقه إن كان جارًا، ويزار إن كان مريضًا، وتجاب دعوته بشرط دعوته للإسلام في كل هذه الحالات، وعدم الحضور معه في مكان يعصى الله فيه، وبغير هذين الشرطين لا يجوز مخالطته والأنس معه، فصيانة الدين والقلب أولى وأحرى، بل أُمرنا عند دعوتهم بمجادلتهم بالتي هي أحسن كما قال -جل وعلا-: (وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [العنكبوت: 46]، وقال عمن لم يقاتلنا: (لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة: 8].
القاعدة العاشرة: يجوز في بعض الحالات أن تُظهر بلسانك المودة إذا كنت مُكرهًا وتخشى على نفسك، وهذا فقط في الظاهر لا في الباطن، بمعنى أنك عند الإكراه تُظهر له بلسانك المودة لا بقلبك، فإن قلبك لا بد أن ينطوي على بغضه وعداوته، كما قال -جل وعلا-: (لا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ). قال ابن كثير -رحمه الله-: (إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) قال: أي إلا من خاف في بعض البلدان أو الأوقات من شرهم، فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته، كما حكاه البخاري عن أبي الدرداء أنه قال: إنا لنكشر في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم.
وقال الثوري: قال ابن عباس: ليس التقيّة بالعمل، إنما التقيّة باللسان". وعليه فإنه لا يجوز بحال -حتى في حال الإكراه- عمل ما يوجب الكفر كإعانة الكفار على المسلمين ونصرتهم عليهم وإفشاء أسرارهم ونحو ذلك، قال ابن جرير عند تفسير قوله: (إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً)، إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم، فتُظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتُضمروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تعينوهم على مسلم بفعل.
نسأل الله الثبات على دينه، والعصمة من الزلل، إنه ولي ذلك والقادر عليه...
نفعني الله وإياكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أما بعد:
أيها المسلمون: ذكر العلماء صورًا من موالاة الأعداء الخطيرة التي قد تخرج صاحبها من الملة، من ذلك:
- الرضا بكفرهم، أو الشك فيه، أو الامتناع عن تكفيرهم، أو الإقدام على مدح دينهم؛ قال الله تعالى عن كفر الراضي: (وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) [النحل: 106]. وقال تعالى موجبًا ومشترطًا الكفر بالطاغوت: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى) [البقرة: 256]، وقال عن اليهود في تفضيلهم المشركين على المسلمين: (وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) [النساء: 51].
- وأيضًا التحاكم إليهم: كما في قوله تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) [النساء: 60].
- مودتهم ومحبتهم: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) [المجادلة: 22].
- الركون إليهم، والاعتماد عليهم، وجعلهم سندًا وظهيرًا: قال الله تعالى: (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمْ النَّارُ) [هود: 113].
- إعانتهم ومناصرتهم على المسلمين: قال الله تعالى: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [التوبة: 71]، وقال عن الكفار: (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ). وقال تعالى: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) [المائدة: 51].
- الانخراط في مجتمعاتهم، والانضمام إلى أحزابهم، وتكثير سوادهم، والتجنُّس بجنسياتهم لغير ضرورة، والخدمة في جيوشهم، والعمل على تطوير أسلحتهم.
- نقل قوانينهم وتحكيمها في بلاد المسلمين: قال الله تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) [المائدة: 50].
- التولي العام لهم، واتخاذهم أعوانًا وأنصارًا، وربط المصير بهم: قال الله تعالى ناهيًا عن ذلك: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [المائدة: 51].
- مداهنتهم ومجاملتهم على حساب الدين: قال الله تعالى: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) [القلم: 9]، ويدخل في ذلك مجالستهم، والدخول عليهم وقت استهزائهم بآيات الله، قال الله تعالى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) [النساء: 140].
- الثقة بهم، واتخاذهم بطانة من دون المؤمنين، وجعلهم مستشارين: قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنْتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا) [آل عمران: 118-120].
- توليتهم المناصب الإدارية التي يرأسون بها المسلمين ويذلونهم، ويتحكمون في رقاب الموحدين، ويحولون بينهم وبين أدائهم عباداتهم: قال الله تعالى: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) [النساء: 141]، وروى الإمام أحمد عن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قلت لعمر -رضي الله عنه-: لي كاتب نصراني، قال: ما لك -قاتلك الله- أما سمعت قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)، ألا اتخذت حنيفًا؟! قلت: يا أمير المؤمنين: لي كتابته وله دينه، قال: لا أُكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أُعزهم إذ أذلهم الله، ولا أُدنيهم إذ أقصاهم الله.
- وكذلك جعلهم في بيوت المسلمين يطلعون على العورات ويربون أبناء المسلمين على الكفر: ومن هذا ما وقع في هذا الزمان من استقدام الكفار إلى بلاد المسلمين وجعلهم عمالاً وسائقين ومستخدمين ومربين في البيوت، وخلطهم مع العوائل والأسر المسلمة.
- وكذلك ضمّ الأولاد إلى المدارس الكفرية والمعاهد التبشيرية والكليات والجامعات الخبيثة، وجعلهم يسكنون مع عوائل الكفار.
- التشبه بالكافرين في الملبس والهيئة والكلام وغيرها: وذلك يدل على محبة المتشبه به، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من تشبه بقوم فهو منهم". فيحرم التشبه بالكفار فيما هو من خصائصهم ومن عاداتهم وعباداتهم وسمتهم وأخلاقهم.
- الإقامة في بلادهم بغير حاجة ولا ضرورة: ولهذا فإن المسلم المستضعف الذي لا يستطيع إظهار شعائر دينه تحرم عليه الإقامة بين الكفار إذا كان يقدر على الهجرة، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً * إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً) [النساء: 97-99]، فلم يعذر الله في الإقامة في بلاد الكفار إلا المستضعفين الذين لا يستطيعون الهجرة، وكذلك من كان في إقامته مصلحة دينية، كالدعوة إلى الله، ونشر الإسلام في بلادهم، فالإقامة بين ظهرانيهم محرمة لغير ضرورة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنا بريء ممن أقام بين ظهراني المشركين".
- مدحهم، والذبّ عنهم، والإشادة بما هم عليه من المدنية والحضارة، والإعجاب بأخلاقهم ومهاراتهم، دون نظر إلى عقائدهم الباطلة ودينهم الفاسد: قال الله تعالى: (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [طه: 131].
- وكذلك تعظيمهم وإطلاق ألقاب التفخيم عليهم، والبدء بتحيتهم، وتقديمهم في المجالس وفي المرور في الطرقات: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تَبْدَؤُوا الْيَهُودَ وَلا النَّصَارَى بِالسَّلامِ؛ فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِه".
- مشاركتهم في أعيادهم، أو مساعدتهم في إقامتها، أو تهنئتهم بمناسبتها، أو حضور أماكنها: وقد فُسِّر الزور في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) [الفرقان: 72] بأعياد الكفار.
- التسمي بأسمائهم المُنكَرة: وقد غيّر النبي -صلى الله عليه وسلم- الأسماء الشركية كعبد العزّى وعبد الكعبة.
أيها المسلمون: هذه طائفة من الأمثلة التي توضّح قاعدة تحريم موالاة الكفّار، نسأل الله سلامة العقيدة، وقوّة الإيمان، والله المستعان.
ومن أخطر صور الموالاة لأعداء الله في هذا العصر: القتال معهم، سيما ضد المسلمين، والتجسس ضد المسلمين لصالح الكافرين، والدخول معهم في أحلاف، سيما ضد طائفة من المسلمين، والسماح لهم بإنشاء قواعد عسكرية في ديار الإسلام، وتولي الحكم نيابة عنهم في البلاد التي اغتصبوها من المسلمين، والعمل على تنفيذ مخططاتهم، وعقد المؤتمرات والندوات لتهيئة الجو للتعايش السلمي معهم في ديار الإسلام، والعمل وتولي المناصب القيادية في المنظمات الدولية التي يهيمن عليها الكفار، حيث لا يلي ذلك إلا من وَثِق به الكفار واطمأنوا له، وفتح الأجواء والطرق البرية والمياه الإقليمية لطائرات العدو وسفنهم لغزو ديار الإسلام، والخضوع والاستكانة والتنازل لهم مقابل البقاء في الحكم أطول مدة ممكنة.
أيها المسلمون: إن الذين يحاولون تمييع هذه المفاصلة الحاسمة، باسم التسامح والتقريب بين أهل الأديان السماوية، يخطئون فهم معنى الأديان، كما يخطئون فهم معنى التسامح، فالدين هو الدين الأخير وحده عند الله، والتسامح يكون في المعاملات الشخصية، لا في التصور الاعتقادي ولا في النظام الاجتماعي: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ) [آل عمران: 19], (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) [آل عمران: 85].
التعليقات