اقتباس
وفي عرض مآسي المسلمين، ومكر الكفار والمنافقين يوازن بين الفأل واليأس؛ فلا يزيد في الفأل حتى يجعل المصلين يتكلون عليه ولا يعملون شيئا لدينهم ومجتمعهم وأمتهم، ولا ييأسهم من النصر والتمكين، ويبالغ في غلبة الكفار والمنافقين ومكرهم بأمة الإسلام؛ فإن اليأس يؤدي إلى الإحباط وترك العمل، ولربما أدى إلى الانحراف وانقلاب المنهج. ومن الناس من إذا تحدث عن الغرب ومؤامراته وقدراته العسكرية والتقنية وخبراته السياسية والفكرية أشبع السامعين باليأس من مقاومته،
تطلق الموازنة على المعادلة، والميزان هو العدل، والمراد أن يوازن في أموره المتعلقة بالخطبة بحيث لا يطغى في جانب على آخر؛ فإن طرفي الشيء مذمومان، والخيار الوسط، وهو الميزان، وهو المراد بهذه المقالة؛ لأن الخطيب قدوة للناس، ويتحدث إليهم، ويستمعون إليه. والأصل أنهم ينتفعون بخطابه إليهم، ويطبق ما يقوله لهم، وفقدان الخطيب للموازنة في خطبته يأتي أثره على المستمعين له فيضرهم وهو يريد نفعهم.
والمتلقون للخطبة على نوعين: نوع يدرك نزوع الخطيب إلى طرف دون آخر فيما حقه الموازنة فينصرف عنه ولا ينتفع بخطبته. ونوع لا يدرك ذلك فيتضرر من تلقيه عن الخطيب ما قال. وما يقع من التفلت من الدين أو الغلو فيه، أو التكفير والإرجاء فالأسلوب الخطابي سبب من أسبابه.
ومجالات الموازنة فيما يتعلق بالخطبة كثيرة جدا، أذكر ما يحضرني منها في هذه الأسطر:
الأول: الموازنة في اختيار الموضوعات، فلا يغلب أبوابا على أخرى بلا مسوغ يسوغ ذلك، ولاستمرار الخطيب الحديث عن موضوعات وإهمال أخرى أسباب لعل أهمها:
1- أن الخطيب يتقن الحديث في الموضوعات التي يتحدث فيها؛ لأنها مجال تخصصه أو له عناية بها كالذين يتخصصون في السيرة أو في التفسير فينقلون هذا التخصص إلى خطبة الجمعة فلا يخرجون فيها عن تخصصهم.
2- ميله إلى هذه الموضوعات، ومحبته لها، والخطبة ينبغي في اختيارها تلمس حاجات الناس؛ لأنها شرعت لنفعهم، ولا ينظر إلى ما يميل هو إليه.
3- عدم قدرة الخطيب على تجاوز الموضوعات التي تخصص فيها؛ لضعفه في غيرها.
ولتحقيق الموازنة يجب أن يتجرد الخطيب في اختيار الخطبة، ويتلمس حاجة الناس، وينمي النقص الذي عنده في بعض الجوانب بالقراءة والسؤال والبحث حتى يكون موسوعي المعارف.
الثاني: الموازنة في طول الخطبة وقصرها، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ، وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ، مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ، وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ، وَإِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْرًا» رواه مسلم.
لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحدد مقدارا للقصر والطول مع قدرته على ذلك، وتوفر الداعي له، والظاهر والله أعلم أن ترك التحديد كان مقصودا؛ ليكون لدى الخطيب مساحة للاجتهاد في ذلك؛ ولأن الموضوعات تختلف من حيث أهميتها، وقد أفردت لهذا الموضوع مقالة مستقلة منشورة بعنوان (خطبة الجمعة بين الإطالة والإقصار).
الثالث: الموازنة في التعامل مع النصوص من حيث الكثرة والقلة؛ فبعض الخطب تحشى بالنصوص وليس فيها استنباط ولا تعليق على النصوص، وأحيانا يملأ الخطيب خطبته بالآيات ويترك الأحاديث أو العكس، مع أنه يجد فيما ترك نصوصا ربما تكون أدل على مراده مما حشد، وهنا ينبغي للخطيب أن يلاحظ أمورا ثلاثة:
1- تنويع النصوص فيأتي بآيات وأحاديث، فالتنويع يطرد الملل، ويشد السامع، وإذا كان في النص قصة لها مساس بموضوعه قدمه على ما لا قصة فيه.
2- أن يحسن الانتقاء منها إن كانت كثيرة فيختار منها ما يكون أكثر دلالة على موضوعه.
3- أن يختار ما يكون أكثر وضوحا بحيث لا يحتاج إلى تفسير وشرح.
الرابع: الموازنة في الاستنباط من النصوص فلا يتكلف في الاستنباط؛ فالتكلف يؤدي إلى الخطأ وتحميل النص ما لا يحتمل. ولا يهمله تماما؛ فإهمال الاستنباط يجعل الخطبة باردة علميا، ومن المصلين من هو في مصاف العلماء أو طلبة العلم فيستفيدون من الاستنباطات الصحيحة.
وقد يجمع الخطيب نصوص خطبته ثم يكتشف أنها لا تدل على ما أراد، فلا يجد نصا يخدمه في موضوعه، فلا يلوي معاني النصوص لتوافق مراده بل يغير الموضوع ولو كان مهمًا، لأن العبرة كما هي بأهمية الموضوع فهي كذلك بصحة الاستدلال له، ويرجئ موضوعه الذي أراده إلى أن يجد نصوصا تخدمه.
الخامس: الموازنة في تخريج الأحاديث والآثار، فلا يهمل راوي الحديث ومخرجه، ولا سيما في الأحاديث والآثار التي لا تطرق الآذان كثيرا؛ فإن من المستمعين من يستفيد من ذلك، كما أن ذكرهما يبعث على الثقة في الخطيب، والطمأنينة لما يلقيه في خطبته .
كذلك لا يحسن بالخطيب أن يجعل خطبته ميدانا للتخريج وذكر العلل ونحوها -وقد يقع ذلك ممن يحبون صنعة الحديث أو تخصصوا فيها- لأن ذلك يقطع الخطبة وينقلها من موضوعها الأساس إلى الحديث أو الأثر الذي ذكره الخطيب، إلا في حالات الاستثناء، كما لو كان موضوع الخطبة في حديث اغتر الناس به وهو ضعيف، فاضطر الخطيب لبيان علته، ويحسن به أن يجمل ولا يفصل؛ لأن المستمعين إليه ليسوا طلاب حديث. فيقول مثلا: وهذا الحديث الذي يستدل به بعض الناس حكم عليه الأئمة بكذا، ويذكر عددا منهم دون الخوض في تفاصيل الإسناد.
وأذكر قبل أكثر من خمس عشرة سنة خطب خطيب بفتوى العلامة الألباني رحمه الله تعالى في تحريم صوم السبت إلا في الفريضة، فأحدث بلبلة عند الناس في عاشوراء لما وافق السبت، فانبرى بعض الخطباء لبيان ضعف الحديث الوارد في ذلك، وساق أسانيده وعلله في الخطبة، فلم ينتفع أكثر المصلين بالخطبة؛ لأنها انقلبت إلى درس في الحديث وعلله لا يفهمه إلا من تخصص في الحديث وعلومه، وكان الأولى بيان فضل صيام عاشوراء، وبيان ضعف حديث تحريم صوم السبت، وذكر أقوال عدد من علماء الحديث المتقدمين والمعاصرين ممن ضعفوه دون الخوض في التفصيلات الإسنادية.
السادس: الموازنة في الموعظة؛ فيخاطب العقل والعواطف؛ وذلك في اختيار موضوع الخطبة وفي معالجتها، فبعض الخطباء تزيد عنده العاطفة فلا يخطب إلا في الرقائق، ويهمل الأبواب الأخرى مع حاجة المصلين إليها.
وأيضا في موضوع الرقائق يكون متوازنا فلا يوغل في الترقيق حتى يأتي بالغريب والمنكر من الأخبار والقصص، ولا يكون جافا فيجعل خطبته وهي في الترقيق خالية مما يرقق القلوب.
ويتوازن في أسلوب العرض أيضا فلا يتكلف الخشوع والبكاء تكلفا ممجوجا، ولا يكون باردا في عرض خطبته وكأنه يقرأ جريدة.
ويكون متوازنا في جوانب الوعظ فيأتي بالشيء وما يقابله، كالترغيب والترهيب، والرجاء والخوف، والمغفرة والعذاب؛ فبعض الخطباء يكون التخويف ديدنه فلا يخطب إلا عن الموت وعذاب القبر وشدة الحساب والنار وما فيها من النكال، ويكون غيره بعكسه فلا يخطب إلا في الترغيب والجنة وما فيها من النعيم، فهذا يؤدي بهم إلى الغرور، والتساهل في المعاصي، والأول يؤدي بهم إلى القنوط من رحمة الله تعالى.
السابع: الموازنة في قبول القصص وعرضها، فلا يعرض عما فيه عبرة وعظة من القصص الثابتة الصحيحة سواء كانت في السنة النبوية أم أخبار السلف أم كتب التاريخ أم من الواقع المعاصر أم حادثة وقعت وشهدها أو علم عنها وفيها عبرة.
وأيضا لا يكون متساهلا في قبول كل قصة سمعها أو قرأها؛ فإن كثيرا من منقول القصص لا يصح، وأحيانا يكون منكر المعنى. بل لو صحت القصة وكان فيها غرابة لكان من الأليق أن لا يعرضها الخطيب لئلا يُكذَّب، وتهدر خطبته كلها بسبب قصة فيها صحيحة ولكنها غريبة قد لا يصدقها الناس لغرابتها. وإذا كثر هذا من الخطيب افتقد ثقة الناس فيما يقول، وكان حاله كحال القُصاص والإخباريين.
وفي عرضه للقصة يكون متوازنا أيضا فلا يجزم بوقوعها وهو لم يقف عليها، فقد يأتي بعد ذلك ما يدل على عدم صحتها فيفقد الخطيب مصداقيته. بل يقول: نقل كذا إن صح، أو سمع الناس بكذا إن صح، ثم يوردها.
الثامن: الموازنة في تناول النوازل، وتشخيصها، وفي شحن عواطف الناس تجاهها؛ فلا يعرض عن النوازل مهما عظمت فتكون خطبته في واد والناس في واد آخر؛ فإن الناس إذا نزلت نازلة جاءوا إلى الجمعة وهم ينتظرون من الخطيب الحديث عنها.
ولا يجعل كل حادثة ولو صغرت نازلة، فيكون دائم الحديث عن النوازل ويهمل الموضوعات الأخرى.
ويوازن في تشخيص النازلة فلا يهولها ويعطيها أكبر من حجمها، ولا يصغرها وهي كبيرة.
التاسع: الموازنة في عرض قضايا الأمة، فلا يهملها بالكلية ويغرق في المحلية فيبتر المصلين معه عن إخوانهم في مشارق الأرض ومغاربها؛ فإن خطبة الجمعة من الميادين المهمة لترسيخ الولاء والبراء، ومن أساليب ذلك إظهار الاهتمام بمآسي المسلمين، وبيان ما يجب علينا تجاه إخواننا.
ولا يكون دأبه الحديث عن أحوال المسلمين في الشرق والغرب، ويهمل قضايا مجتمعه ومدينته وحارته ومسجده؛ فالأقربون أولى بالمعروف، وواجب عليه أن يعطي كل ذي حق حقه.
وفي عرض مآسي المسلمين، ومكر الكفار والمنافقين يوازن بين الفأل واليأس؛ فلا يزيد في الفأل حتى يجعل المصلين يتكلون عليه ولا يعملون شيئا لدينهم ومجتمعهم وأمتهم، ولا ييأسهم من النصر والتمكين، ويبالغ في غلبة الكفار والمنافقين ومكرهم بأمة الإسلام؛ فإن اليأس يؤدي إلى الإحباط وترك العمل، ولربما أدى إلى الانحراف وانقلاب المنهج. ومن الناس من إذا تحدث عن الغرب ومؤامراته وقدراته العسكرية والتقنية وخبراته السياسية والفكرية أشبع السامعين باليأس من مقاومته، بله التغلب عليه، حتى ليخيل إليه أن ما يجري من أحداث سياسية واقتصادية لا يخرج عن مؤامرة محبوكة لن ينجو منها أحد، ويغفل عن سنن التدافع، ومكر الله تعالى بمن يمكر بأهل دينه من الكفار والمنافقين.
العاشر: الموازنة في نقل مقولات المفكرين، سواء كانوا من المسلمين أم من الكفار، فقد يكون الخطيب شغوفا بالفكر والثقافة فيحشو خطبته بما يحب، ويهمل ما هو أولى وأهم من نصوص الكتاب والسنة. فمثلا في قضايا تحرير المرأة يوجد نصوص كثيرة لحفظ المرأة وصيانتها، وتعظيم شأن العرض في الإسلام، فلا يترك ذلك لينقل أقوال المفكرين الغربيين في معاناة المجتمع الغربي من التحلل والتفسخ، وما جره تحرير المرأة من فساد وإجرام.
وأيضا لا يترك أقوال المفكرين؛ لأن من المصلين من يكون ضعيف الإيمان، لا يستسلم بالكامل للنصوص، ويكون معجبا بالغربيين، فيزيل النقل عن هؤلاء المفكرين الغربيين كثيرا مما في نفسه من قناعات غير صحيحة، أو على الأقل يزعزعها ويشككه فيها. وهي أيضا تزيد من طمأنينة المؤمن بما عنده من الحق؛ فإن تجارب الأمم الأخرى إذا وافقت ما جاءت به النصوص زاد رسوخ النصوص في قلوب المؤمنين، ويقينهم بها.
الحادي عشر: الموازنة في إلقاء الخطبة بحيث يلقيها بما يناسب صوته والأجهزة التي في مسجده؛ فبعض الناس يكون جهوري الصوت، ولديه مكبرات صوت قوية فتكون الخطبة مزعجة للسامعين مما يفوت استفادتهم منها. وقد يكون الخطيب ضعيف الصوت، وأجهزة الصوت في مسجده ضعيفة فلا يكاد السامع يتبين ما يقول إلا بتركيز شديد، وهذا يجهد السامع مما يجعله ينصرف عن الخطبة. وعلى الخطيب لمعرفة ذلك أن يسأل مصلين قد توزعوا في أرجاء المسجد عن ميمنته وميسرته وفي مقدمة المسجد ووسطه وآخره، أو يطلب من معارفه أن يصلوا في هذه الأماكن المتفرقة ويخبروه عن سماع الصوت، ووضوحه وعدم الانزعاج به.
الثاني عشر: الموازنة في عرض المسائل الفقهية، فلا يقلب خطبته دروسا في الفقه، ولا يوغل في تفصيل ما لا يفهمه الناس من مصطلحات الفقه وأصوله، ولا يهمل جوانب الفقه بحجة أن الخطبة ليست درسا فقهيا؛ فإن الناس يحتاجون العلم بأحكام عباداتهم ومعاملاتهم، وإذا نزلت نازلة فقهية كالتأمين والأسهم ونحو ذلك انتظروا من الخطباء تناولا لهذه النوازل، فيتناولها بما يفهمه الناس، ويبسطها لهم قدر المستطاع، ويعرض عما لا يفهمه إلا أهل التخصص.
الثالث عشر: الموازنة في لغة الخطبة وبلاغتها، فلا تكون عباراتها وجملها سوقية مبتذلة كأنه يتحدث إلى عوام في مجلس سمر. وأرى أن يبتعد الخطيب عن العبارات العامية، واللهجات المحلية، ولو كانت مؤثرة في الناس؛ لأن لخطبة الجمعة قدسيتها ومكانتها فلا تبتذل إلى هذا الحد، ثم إنه يطلب من الخطيب أن يرتقي بالناس في اللغة والخطاب ولا يسفل بالخطبة لأجلهم.
وكذلك لا يقصد العبارات الغريبة، وتركيب الجمل المتكلفة فيحشو خطبته بها؛ فإن بعض الخطباء لا يفهم عنه حتى المتخصصون، وكأنه جعل الخطبة ميدانا لإبراز تفوقه في اللغة والبلاغة، فيستخرج عبارات خطبته من المعاجم، والمعاجم اللغوية يرجع إليها فيما أشكل على الخطيب من الألفاظ، ولا يصح أن يتخذها الخطيب مرجعا في صنع خطبته، وإلا كان من المتكلفين.
الرابع عشر: الموازنة في شخصية الخطيب وتعامله مع غيره، فلا هو ضعيف مستباح، ولا صارم يخاف ويهاب، وبعض الخطباء يكون شديدا صارما عبوسا لا يتعامل مع أحد من المصلين إلا بحذر، ولا يتحدث معهم إلا بوقار متكلف، وهذا النوع ينفر الناس منه، ويظنون فيه التكبر والتعالي ولو كان متواضعا، فلا يفتحون له صدورهم، ولا يفضون له بما في قلوبهم، بل قد لا يقبلون على خطبته فيمتثلون ما فيها؛ لأنه صنع حواجز بينهم وبين قبولها.
وبعض الخطباء يكون على العكس من ذلك؛ فيتبذل لكل أحد حتى تداس هيبته، ومن الناس من يقصد الإدلال على الخطيب لإثبات أن له به خصوصية، ومن المصلين من يريد فرض رأيه حتى في موضوع الخطبة، ولا يحسن بالخطيب أن ينساق خلف أحد، أو يضعف أمامه، وإن رأى جماعة مسجده أن فيه مطمعا أتعبوه وأتعبهم؛ لاختلاف رغباتهم، وانقياده خلف بعضهم يغضب غيرهم.
الخامس عشر: الموازنة في التعقب على الخطبة؛ فلا يرد أي تعقب، ولا يسلم لكل متعقب؛ فبعض الخطباء لا يقبل النقد ولو كان هادفا، ولا يعترف بالخطأ ولو كان واضحا، وهذا كبر عن قبول الحق.
وعكسه من يقبل أي تعقب ولو كان خطأ، أو كان صاحب التعقب لم يفهم الخطبة، ولكنه يجامله لئلا يخسره، وهذا أيضا خطأ. والموازنة أن يستمع الخطيب إلى تعقبات المتعقبين، فيقر بصواب من أصاب ويشكره على ذلك، ويرد على المخطئ خطأه بأسلوب مناسب.
السادس عشر: الموازنة في لبس الخطيب؛ فبعض الخطباء يكون متكلفا في ألبسته، ويبحث عن غريب اللباس وغريب الألوان، وهذا يخشى أن يدخل في لباس الشهرة المنهي عنه، وهذه الطريقة تضع حاجزا بين الخطيب والناس؛ لأنهم يحسون أن الخطيب يريد التميز عليهم في لبسه فينفرون منه، والقلوب تتأثر بما لا يخطر على البال مما يستهان به ويحتقر.
ولا يكون متبذلا في لبسه وهيئته كأنه قبل صعوده على المنبر كان مع الغنم يرعاها، أو جاء من السوق يبيع ويشتري، متعللا بأن التواضع في الصورة واللبس دليل على تواضع القلب، وهذا غير صحيح؛ فقد يكون متكبرا ولو كان متبذلا. والتبذل في الجمعة يخالف سنتها في الاغتسال والتجمل والتطيب، وهو يدل على الإخلال بها.
السابع عشر: الموازنة في إنكار المنكرات؛ فلا تكون خطبه كلها في المنكرات وإنكارها ويترك جوانب العقيدة والعبادة والسلوك والسيرة وما يحتاج الناس العلم به، ولا يهمل الكلام عن المنكرات فلا يأتي عليها أبدا، ولا سيما المنكرات المستجدة أو المتجددة؛ فإن الناس بحاجة إلى تحذيرهم منها.
وفي إنكار المنكر يكون متوازنا فلا يزيد على حقيقته ويهوله ويصوره تصويرا أكبر من حجمه الصحيح ليشحن عواطف الناس ضد المنكر وأهله، ويحظى بتأييدهم للمحتسبين على المنكرات. ولا يهون من شأنه ويستصغره بحيث يعرض له وكأنه يروج له أو يهون من إنكار الناس له فيفت في عضد إخوانه المحتسبين، ويكون عونا لأهل المنكرات.
ويتوازن في تصوير ما في المجتمع من منكرات، فلا ينزع الخيرية من الناس؛ فإن من قال هلك الناس فهو أهلكهم، كما في الحديث، ولا يزال الخير في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فهي أمة تضعف ولا تنتهي، وتغفل ولا تموت، ودلت دلائل التاريخ على أنها أمة قد تطول غفلتها لكنها إذا استيقظت استعادت ريادتها بسرعة لا يتصورها الأعداء، ولا يقدر على مثلها غيرها.
وفي المقابل لا يوغل في تزكية المجتمعات، ونفي ما فيها من المنكرات وانتهاك الحرمات، وادعاء أن مجتمعه أحسن من غيره، فيجعل الواقع بوصلته ويحتكم إليه؛ فإن هذه خصلة إرجائية مذمومة؛ إذ الواجب أن يجعل بوصلته شريعة الإسلام لا واقع المجتمعات الأخرى، ويحاكم مجتمعه بعدا عنها أو قربا منها بحسب ما يعمل فيه بالشريعة وما ينتهك منها.
الثامن عشر: الموازنة في الاستفادة من الوسائل الحديثة للإعلام والاتصال وتناقل المعلومات فلا يعتمد عليها اعتمادا كليا بحيث تكون هي مصادر خطبته؛ فإنها مصادر في متناول الجميع، بمعنى أن العامة مطلعون عليها، ويقرءون ما فيها أو يسمعونه، والخطيب إذا أتى بشيء معروف للعوام أزرى بنفسه عندهم، ولم ينتفعوا بخطبته. وأيضا هي مصادر غير مأمونة، فقد ينقل منها أثرا أو خبرا أو قصة ويكون ما نقل غير صحيح، والخطيب ينبغي له أن يؤصل للموضوعات التي يتناولها في خطبته، ويستدل لها بالصحيح، ولا يتأتى ذلك إلا بالرجوع للمصادر الموثوقة المأمونة.
التاسع عشر: الموازنة في خطابه للناس بين فئات المجتمع المختلفة؛ ففيهم الشيب والشباب، والرجال والنساء، والمتعلم والأمي، ثم المتعلمون درجات ففيهم العالم وطالب العلم والأكاديمي والمثقف والعامي، وخطبته لجميع هؤلاء فيجب أن يراعيهم في اختيار الموضوعات ومعالجتها.
والمساجد تختلف مواقعها وروادها؛ فمساجد المدن الكبيرة غير مساجد القرى والهجر، والمساجد التي في الجامعات والقريبة منها ليست كغيرها؛ فأكثر مصليها من أصحاب المؤهلات العليا في التعليم، والخطيب أدرى بنوعية جماعته، وعليه أن يسير فيهم بأكثريتهم، ولا يهمل الأقلية بأجزاء من الخطبة، أو بخطب خاصة لكنها لا تكون كثيرة وإلا أهدر حق الأكثرية.
العشرون: الموازنة في الصدع بالحق بين التهور والمداهنة؛ فقد يطلب من الخطيب قول الباطل، فإما أن ينكر في غير محل الإنكار ويحدث فتنة في الناس بتجييشهم ضد من هو أقوى منهم، ثم إذا خذلوه وابتلى افتتن فانقلب على الحق وسوغ الباطل. وإما أن يبحث عن أي مسوغ للباطل مع علمه ببطلانه فيشرعه للناس بأدلة وتعليلات باردة؛ ليخرج نفسه من مأزقها، أو لينال منفعة عاجلة؛ فينال سخط الله تعالى، ويسقط من أعين الناس.
والموازنة في هذا أن يداري أهل الباطل ما استطاع ولا يداهنهم فيحل ما حرم الله تعالى. وقد يطلب منه قول حق مشوب بباطل فيقول الحق بأدلته ويتحايل على الباطل فلا ينطق به. والسكوت عن حق لا يستطيع أن يصدع به خير من تسويغ الباطل، وخير من إذلال نفسه بتحمله بلاء لا يطيقه، ثم تكون العاقبة أن يعتذر ويذل نفسه، وربما انقلب على منهجه كما وقع لبعض الدعاة والخطباء.
الحادي والعشرون: الموازنة بين ما يطلبه الناس وما يحتاجونه؛ فبعض الخطباء يتلمس ما يرغب الناس فيه كموضوعات السياسة والفكر والثقافة، وفي الوعظ يميلون إلى الترغيب أكثر من الترهيب، وينزعون إلى القصص والسير ونحوها أكثر من نزوعهم إلى تصحيح العقائد والعبادات والمعاملات. وعلى الخطيب أن لا ينظر إلى أهواء الناس ورغباتهم إلا فيما تظهر له حاجة لتناوله؛ فإن قصد الخطيب رضا الله تعالى لا رضا الناس وجمعهم في مسجده، والخطبة شرعت لإصلاح الناس لا لترفهم وموافقة أهوائهم.
وبعض الخطباء يخالف مطالب الناس ولو كانت مما يحتاجون إليه، إما لفرض شخصيته عليهم، وإما لبعده عنهم، وإما لضعفه في معالجة ما طلبوا، وإما لخوفه الزائد من تناول بعض الموضوعات التي يحتاجونها كالنوازل ونحوها. والموازنة هنا أن يراقب الله تعالى ولا يراقب الخلق، وأن ينظر فيما يحتاج الناس إليه من موضوعات سواء وافقت أهواءهم أم خالفتها.
19/2/1434
التعليقات