عناصر الخطبة
1/ وصية نبوية عالمية مليئة بالقيم 2/ الأخلاق عنوان الشعوب 3/ صانعو الفوضى 4/ عوامل صناعة الفوضى 5/ نماذج فوضى الأمم السابقة 6/ الأخلاق صمام أمان ضد الفوضىاهداف الخطبة
اقتباس
الواقع يتغير إلى الأفضل إذا اهتم المسلم بتطبيق الأخلاق الراقية وتمثلها وابتعد عن التصرفات السيئة، لذلك قال -عليه الصلاة والسلام-: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، فبهذه الكلمات حدد -صلى الله عليه وسلم- الغاية من بعثته أنه يريد أن يتمم مكارم الأخلاق لتكتمل البشرية في سمو تعاملها، وتسمو في غاياتها، وتتكامل في حياتها.
الخطبة الأولى:
أيها الإخوة: نقل الحافظ ابن عساكر في تاريخه أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- أوصى أسامة بن زيد حين بعثه قائدًا لجيش إلى الشام قائلاً: "لا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً وتحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة، ولا بقرة، ولا بعيراً إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له".
إنها وصية عالمية مليئة بالقيم، محملة بالأخلاق، مكتظة بالمبادئ الرفيعة وحقوق الإنسان، يرسلها أبو بكر الصديق مدوية في حقب التاريخ ليعلم أقوام من أجيالنا أنه مهما اختلفنا ومهما فرقتنا الأحداث ومهما تباينت الآراء واختلفت الرؤى يبقى معيار الأخلاق والقيم حيًّا بيننا، يحفظ أخوتنا ويحمي ودنا وتآلفنا.
فالأخلاق عنوان الشعوب، ولغتهم الراقية، وهي ميزان الدول وثقافتهم الباقية، وقد حثّت عليها جميع الأديان، ونادى بها المصلحون في كل الأزمان، فهي أساس الحضارة، ووسيلة للمعاملة بين الناس.
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
نعم؛ الواقع يتغير إلى الأفضل إذا اهتم المسلم بتطبيق الأخلاق الراقية وتمثلها وابتعد عن التصرفات السيئة، لذلك قال -عليه الصلاة والسلام-: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، فبهذه الكلمات حدد -صلى الله عليه وسلم- الغاية من بعثته أنه يريد أن يتمم مكارم الأخلاق لتكتمل البشرية في سمو تعاملها، وتسمو في غاياتها، وتتكامل في حياتها.
أيها الإخوة: سئل -صلى الله عليه وسلم- عن المسلم فقال: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم". أخرجه الترمذي.
باختصار؛ المسلم من سلم المسلمون حوله من أقواله وتصرفاته؛ لأن الأقوال والتصرفات هي منشأ الصلاح والفساد؛ لأنها منشأ النظام وهي أيضًا منشأ الفوضى، منشأ الاستقرار، ومنشأ الاضطراب، فمبدأَ الأخلاقِ القولية ينطلق من قوله تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) [البقرة: 83]. ومبدأَ الأخلاقِ الفعلية ينطلق من قوله تعالى: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ) [المؤمنون: 96].
الصلاح لا يأتي من فراغ، فله من يتبناه ومن ينشره ومن يدعو إليه، وكله أقوال وأفعال وتصرفات.
والفوضى لا تأتي من فراغ، فلها من يصنعها وينشرها، ولسنا جميعًا بمنأى عن تصنيع الفوضى وتصديرها بيننا، فكل واحد منا يسهم في صناعة الفوضى ونشرها بين الناس، كل أفعالنا وأقوالنا وتصرفاتنا تصنع الفوضى، ثم نشكو: الفوضى من أين جاءت؟! وكيف وصلت؟!
ألسنا نصنع الفوضى بتبادل الاتهامات والدخول في النيات ونشر والشائعات، وترويج الأكاذيب!!
ألسنا ننشر الفوضى بهمجية التصرفات، بالاستهتار واللامبالاة!! ألا تفسد الدول حين تفسد الأخلاق وتصلح الأمم حين تصلح الأخلاق!!
الخطبة الثانية:
أما بعد:
إن خلاصة ما نعانيه اليوم من فوضى وغياب للنظام إنما هو في حقيقته غياب لأخلاق البعض، فعندما انهارت أخلاقهم انتشر هذا الانهيار بيننا جميعًا، فها هي آثار الانهيار الأخلاقي تتمثل في استحلال صارخ للدماء بغير وجه شرعي في سرقة أموال والاعتداء عليها بغير حق شرعي في خطف وظلم وترويع وقطع طريق وتدمير منشآت ومصالح.
وانظروا -يا رعاكم الله- في صفحات التاريخ وأحقابه، فقد حكى لنا القرآن الكريم أن أممًا هلكت ومدنًا أبيدت عندما انهارت منظومة الأخلاق بينها، وشاعت الفوضى التي قضت على كيانها.
فعاد إنما أهلكهم كبرهم وعنادهم، قال الله عنهم: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنصَرُونَ) [فصلت: 15-16].
وقوم مدين طففوا المكيال وأنقصوا الميزان، وتلاعبوا بالأرقام والمواصفات، فهلك الاقتصاد وبادت الأرض، فقال لهم شعيب -عليه السلام-: (فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [الأعراف:85]، فلم يقبلوا النصيحة وتجاهلوا تحذيراته: (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف: 91، 92].
وقوم لوط غيروا الفطرة، واقتحموا الحرمات، وألفوا الفاحشة بينهم فدمرهم الله، وأذهب كيانهم: (فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ * مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) [هود: 82 ، 83].
وهكذا كلما انهارت منظومة الأخلاق وغابت المبادئ انهارت الدول وتفككت، فالأوطان تبنى بالأخلاق؛ لأن الأخلاق ركيزة من ركائز الأمن القومي في أي قطر، فبغير الأخلاق تحلّ الفوضى والاضطراب السياسي والعسكري في البلاد، هذا فضلاً عن أن الأخلاق سياج أمني يحفظ المجتمع من السقوط في وحل الرذيلة والهزيمة النفسية.
لن تستقيم عرى الوطن إلا بالالتزام بالأخلاق الحميدة وتجسيدها على أرض الواقع المعيش، وحينما تسير البلد في ركب الأخلاق العظيمة، فإن الجار يأمن جاره، ومدير المؤسسة يأمن عمّاله؛ لأنهم يتعبدون الله -عز وجل- بالأخلاق، وهذا ينتج مجتمعاً متماسكاً قوياً يصمد أمام الزوابع والأعاصير.
إن الأمم إذا غابت فيها هيبة دولتِها ضعفت وتخلخلت، فكيف إذا غابت أخلاقها أيضًا التي هي صمام أمان المجتمعات والمصل الواقي من الشرور والانحدار.
إننا بحاجة إلى الأخلاق لتحكم علاقاتنا وتعاملنا مع من حولنا، نريد أن نسمو بتعاملاتنا فيما بيننا، نريد أن نكون نحن سبب الأمن ومصدره وعامله الأساسي، نريد أن نكون مثالاً راقيًا في مجتمعنا، لا نستغل الأحداث لتسييس القضايا على حساب البلد وأمنه.
يجب أن نحسن التصرف في الظروف الصعبة، وأن نأوي إلى إيماننا وخلقنا، وأن نرتكز على التعامل المثالي الذي يراقب الله في كل أحواله قبل أن يراقب القوانين.
الشرخ الكبير في المجتمع يكون عندما تغيب الأخلاق فيه، ويصبح التعامل بين أفراد المجتمع خالياً من مقومات الحياة الآمنة المستقرة، وفيه نوع من الغش والتدليس والمكر والخديعة وتزوير الحقائق واصطناع الأحداث وقلب الأوراق وانتشار الكذب.
عندما تغيب الأخلاق عن المجتمع تصادر الحقوق، ويعتلي الظلم في إدارة شؤون الحياة، وتكون الحياة أشبه بحياة الموت الذي يسري في الأوساط.
فلابد من تجسيد الأخلاق في مثل هذه الظروف وإشاعتها ونشرها بيننا من أجل أن نتحصّن من الفوضى والعشوائية والارتجال، ونستطيع أن نصل إلى ما نصبو إليه جميعاً.
فعليكم بالخلق النبيل فيما بينكم، وتمسكوا بقامات القيم ورائع السلوك، واضربوا أروع الأمثلة في التعامل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119].
التعليقات