عناصر الخطبة
1/الحب فطرة في النفوس 2/أهمية الحب في الإسلام 3/أوليات الحب 4/المقصود بحب الله 5/من قصص المحبين لله 6/فضل حب الله 7/أقسام الناس في دعوى حب الله 8/أسباب نيل محبة الله 9/ظهور الحب على الأعمال والسلوكاهداف الخطبة
اقتباس
حبّ الله في الإسلام يعني: حبّه سبحانه وتعالى، وحب رسله، وحب دينه، وحب المؤمنين، وحبّ الخير للبشريّة جميعا، وحب القيم السامية، والأخلاق النبيلة. ولقد وقف القرآن مع الّذين لا يعرفون قيمة الحبّ الإلهي، يؤنِّبهم ويهدِّدهم، بأنّهم إن أعرضوا عنه، فسوف يأتي بآخرين يحبّهم ويحبّونه. فهو سبحانه يريد أن يبني الحياة على أساس الحبّ بينه وبين خلقه، وفيما بين الخلق أنفسهم؛ لذلك نجده يستنكر على الإنسان أن...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي عز جلاله فلا تدركه الإفهام، وسما كماله فلا يحيط به الأوهام، وشهدت أفعاله أنه الحكيم العلام، الموصوف بالعلم والقدرة والكلام، سبحانه هو الله الواحد السلام، المؤمنون حبب إليهم الإيمان، وشرح صدورهم للإسلام، ويقبل التوبة، ويكشف الحوبة، ويغفر الإجرام، تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، شهادة من صدق في حبه لربه ثم استقام.
أحبك حبين حب الهوى *** وحبُ لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حب الهوى *** فشغلي بذكركَ عمن سواكَ
وأما الذي أنت أهل له *** فكشفك لي الحجب حتى أراكا
فما الحمد في ذا وفي ذاك لي *** ولكن لك الحمد في ذا وذاكا
يا حبيب القلب مالي سواكا *** فارحم اليوم مذنبا قد أتاكا
يا رجائي وراحتي وسروري *** قد أبى القلب أن يحب سواكا
وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمد عبد الله، ورسوله وصفيه من خلقه، جاهد في الله بعزم واهتمام، حتى انقشع عن سماء الحق تراكم الغمام، وظهر في أفق الإيمان بدر التمام، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه، وتمسك بسنته، واقتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله: الحب هذا المصطلح العالمي والإنساني؛ فطر الله النفوس عليه، وزرعه في القلوب، وجعله سبيلا للتعايش بين البشر، ولن تستقيم الحياة إلا به، ولن تنعم الدول والشعوب والمجتمعات والأفراد إلا باستشعار أهميته، وممارسته سلوك واقعياً في الحياة.
ولذلك جاء الإسلام فجعل الحب عبادة لله وعقيدة؛ يسأل عنها الإنسان يوم القيامة، ف"المرء يحشر مع من أحب".
والحب كذلك قربةٌ إلى الله، يرفع به الدرجات، ويغفر السيئات.
وبين الإسلام أهمية هذا الحب وأثره، وحدد أولوياته، حتى لا تنحرف النفوس في ممارسته واعتقاده، فيطغى عليها حب من نوع آخر، قد يكون سبباً لشقائها وتعاستها في الدنيا والآخرة.
وبين الإسلام أن الحب يبدأ من حبّ الله، فهو أعظم حبٍ في الوجود.
وضّح القرآن هذه الحقيقة الجوهريّة في عمق الإسلام، بقوله: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)[آل عمران: 31].
وحبّ الله في الإسلام يعني: حبّه سبحانه وتعالى، وحب رسله، وحب دينه، وحب المؤمنين، وحبّ الخير للبشريّة جميعا، وحب القيم السامية، والأخلاق النبيلة.
ولقد وقف القرآن مع الّذين لا يعرفون قيمة الحبّ الإلهي، يؤنِّبهم ويهدِّدهم، بأنّهم إن أعرضوا عنه، فسوف يأتي بآخرين يحبّهم ويحبّونه.
فهو سبحانه يريد أن يبني الحياة على أساس الحبّ بينه وبين خلقه، وفيما بين الخلق أنفسهم؛ لذلك نجده يستنكر على الإنسان أن يحبّ غير الله كحبّه لله؛ جاء هذا البيان بقوله: (وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّه).[البقرة: 165].
لقد كان ابن عمر يدعو على الصفا والمروة وفي مناسكه: "اللهم اجعلني ممن يحبك، ويحب ملائكتك، ويحب رسلك، ويحب عبادك الصالحين. اللهم حببني إليك وإلى ملائكتك وإلى رسلك وإلى عبادك الصالحين".
وهذا حكيم بن حزام شعاره الحب: كان رضي الله عنه يطوف بالبيت، ويقول: "لا إله إلا الله، نعم الرب، ونعم الإله، أحبه وأخشاه".
وجعل الإسلام الحب عقيدة راسخة في النفوس؛ بها يقبل الدين، ويصح العمل، قال تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)[التوبة: 24].
قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: "أي إن كانت هذه الأشياء: (أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ) أي انتظروا ماذا يحل بكم من عقابه".
فهل بعد هذا العقاب الذي تعيشه الأمة اليوم من عقاب حروب وصراعات؟! دماء تسفك، وقلوب قد امتلأت قسوة، وضعف سياسي واقتصادي وعسكري، وتنكر للقيم والمبادئ والأخلاق، وعصبية أوغرت الصدور، وظهر حب الدنيا والمنصب والجاه والقبيلة والطائفة، وطغى على حب الله ورسوله.
ورد في السير عند ابن هشام وغيره أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: وقف قبل معركة أحد يعلن الحرب، ويتحدث للناس ويشاورهم: أنقاتل في المدينة أم نخرج خارج المدينة؟ فقال كبار الناس: يا رسول الله! دعنا نقاتل هنا، فقام شاب من بني سالم، فقال: يا رسول الله! لا تحرمني دخول الجنة، فو الله الذي لا إله إلا هو! لأدخلن الجنة، فقال عليه الصلاة والسلام وهو يتبسم: "بم تدخل الجنة؟"-هل يحلف على الله أحد؟! هل يقسم على الله فرد من الناس؟!- قال: بخصلتين، قال: "ما هما؟" قال: إني أحب الله ورسوله ولا أفر يوم الزحف، قال عليه الصلاة والسلام: "إن تصدق الله يصدقك".
وبدأت المعركة ودارت رحاها، وأتى الصادق فصدق الله فقتل، ومرّ عليه الصلاة والسلام على البواسل من الجنود فوجد هذا، فأخذ يمسح التراب عن جبينه وتدمع عيناه صلى الله عليه وسلم، ويقول: "صدقت الله فصدقك الله".
أيها المؤمنون -عباد الله-: يسعى كثير من الناس خلال مسيرة حياتهم إلى كسب حب وإعجاب ورضا غيرهم من البشر؛ طلباً للسلامة، أو طمعاً في منصب، أو جاه، أو مال، وأحياناً للمودة والقربى، وربما قد يكون هذا الحب والإعجاب لصفات وقيم وأخلاق، وقد يكون الحب أحياناً للاستعانة بهذا المحبوب على نوائب الدهر، وآفات الزمان، وتقلبات الأحوال، ويبذلون لأجل الوصول لهذا الحب والإعجاب الوقت والجهد والمال والنفس.
هدفهم السعادة في الحياة، وراحة البال، وتحقيق الآمال، ذلك أنهم اعتقدوا أن غيرهم من البشر يستطيع أن يحقق لهم ذلك، ولو كان يمتلك من أسباب القوة الشيء الكثير.
ولكن هيهات، فهذا الحب والرضا معرض للزوال، ولن يكون سبباً لراحة هذا الإنسان إلا بمشيئة الله وإرادته؛ لذلك كان الأولى بكل إنسان أن يبحث عن حب من بيده الأسباب، والذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، والذي قلوب العباد بين أصابعه، يقلبها كيفما يشاء.
أنه حب الله؛ عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا أحب الله العبد: نادى جبريل إن الله يحب فلاناً فأحببه، فيحبه جبريل فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض"[البخاري].
لقد وقف هود -عليه السلام- بهذا الحب يتحدى أشقياء الأرض، وجبابرة الزمان، وحيداً، فكان يأوي إلى ركن شديد: (قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [هود: 53-56].
فكيدوني جميعًا لا يتخلف منكم أحد!.
يا لروعة الإيمان والحب الصادق والثقة واليقين بالله.
ذكر عن رجل من أهل العلم: أنه كتب كتاباً في تفسير القرآن العظيم، وكان فقيراً، فخرج إلى إخوانه وخلانه من العلماء يستشيرهم، فأشاروا عليه برجل عنده المال والثراء، فقالوا له: اذهب إلى فلان يعطك المال فتنسخه، فاستأجر رحمه الله سفينة، وخرج في البحر حتى إذا مشى وأراد ذلك الثري ليعينه بالمال، فسخَّر الله له رجلاً يمشي على شاطئ البحر، فأمر قائد السفينة أن يركبه معه، فلما ركب الرجل معه سأل العالم وقال له: من أنت؟ قال: أنا فلان بن فلان، قال: المفسِّر؟ قال: نعم، قال: إلى أين أنت ذاهب؟ قال: إني ذاهب إلى فلان، أريد منه أن يساعدني في نسخ كتابي، فقال له الرجل: بلغني أنك فسَّرت القرآن؟ قال: نعم، قال: سبحان الله! ماذا قلت في تفسير قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)[الفاتحة: 5]؟
ففسر العالم الآية، وفهم مراد الرجل، فقال لقائد السفينة: الآن ترجع بي إلى بيتي.
فرجع رحمه الله إلى بيته، وكله يقين بالله -عز وجل- أن الله سيسد فقره، وأن الله سييسر أمره.
فما مضت إلا ثلاثة أيام، وإذا برجل يقرع الباب، فلما فتح الباب، قال له: إني رسول فلان إليك، بلغه أن عندك تفسيراً للقرآن يحب أن يراه، فأعطاه ذلك الكتاب الذي خرج من أجل أن يعرضه عليه، فرجع الرسول بالكتاب، فنظر فيه ذلك الثري صاحب المال، فأعجبه، فأمر أن يوضع في كفة، وأن يصب الذهب في كفة، وأن يُبعث بذلك إلى الإمام!.
ما وثق أحدٌ بالله فخيبه الله، ولا أيقن عبد بالله -جل جلاله- إلا كان الله له!.
فكم من أمور نزلت بالإنسان، وخطوب أحاطت به، ولم يجد غير الله مجيباً ولا مفرجاً.
أيها الناس -عباد الله-: إن محبة الله منزلة تطلع إليها أقوام، وزعمها أقوام، وانحرف في الوصول إليها آخرين، فقد زعم اليهود والنصارى حب الله لهم مع عصيانهم وكفرهم به، قال الله تعالى: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَلنَّصَرَى نَحْنُ أَبْنَاء اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ)[المائدة: 18].
إن حب الله لا يناله العبد إلا بعد حب العبد لربه، وتعلقه به، والرضا بحكمه وقدره، والالتزام بشرعه، وإتباع رسوله -صلى الله عليه وسلم-، قال تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) [آل عمران: 31-32].
قال أحد علماء التابعين -رحمه الله-: "مساكين أهل الدنيا، خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل: وما أطيب ما فيها؟: قال: محبة الله، والأنس به، والشوق إلى لقائه، والتنعم بذكره وطاعته".
وقال آخر: "والله ما طابت الدنيا إلا بمحبته وطاعته، ولا الجنة إلا برؤيته ومشاهدته".
فإذا كان حب الله للعبد بهذه المنزلة، وبهذه العظمة، وله ثمار تعود بركتها وخيريتها على العبد في الدنيا والآخرة، فإنه ينبغي علينا أن نبحث عن ما يحبه الله من الأقوال والأفعال والأعمال، ونسارع للقيام بها والتزامها وتحقيقها في حياتنا.
ومن تتبع كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وجد أنه ما من أحد إلا ويستطيع أن يكون ممن يحبهم الله، ويرضى عنهم.
وإن أول صفاتهم وأعمالهم: أنهم يؤدون ما افترض الله عليهم من العبادات والطاعات، ويتزودوا بعد ذلك بالنوافل من الأقوال والأفعال والأذكار؛ فعن أبي هريرة-رضي الله عنه- قال: قالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله قال من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحب مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرَّبُ إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته "[رواه الإمام البخاري].
إن من كان الله معه بهذه الصفة، وبهذه الكيفية، أي شيء من الدنيا يريد بعد ذلك؟
ومن هذه الصفات التي تجلب للعبد محبة الله: أن يقدم العبد محاب الله وأوامره على محابه ورغباته وشهواته.
وتأملوا معي إلى نبي الله وخليله إبراهيم -عليه السلام-، قال تعالى: (وَاتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً)[النساء: 125].
والخلة أعلى درجات المحبة.
أمره ربه -تبارك وتعالى- أن يذبح ولده! فقال: (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) [الصافات: 102].
أي امتحان أعظم من هذا الامتحان؟! وأي محنة واختبار وتمحيص من الله -تبارك وتعالى- لعبد أعظم من هذا الابتلاء؟!
ورؤيا الأنبياء حق ووحيٌ من الله، فقال له إسماعيل -عليه السلام-: (يا أبتِ افعل ما تؤمر ستجدُني إن شاء اللهُ مَنَ الصَّابِرِين)[الصافات: 102]..
إنه الإيثار! إنه الحب! إنه الولاء لله جل في عليائه! (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) [الصافات: 103].
طلب إسماعيل من أبيه أن يصرف وجهه عنه؛ لأن القلب يعشق هذا الابن، ويخفق بحبه، ولا يريد أن يَرَى الدم يخرج من وجهه، أو من رقبته، ولا يريد الابن أن ينظر إلى المعاناة التي ستكون في وجه أبيه، فتلَّه للجبين، وأخذ السكين، وبدأ يؤثر محبة الله -عز وجل- على محبته هو لولده، ونجح في الاختبار، وفاز في الامتحان، وقدَّم مُراد الله -عز وجل- على مُراد النفس، فجاء الفداء، وجاء الخلاص، من الرب العظيم الرحيم بعباده، قال تعالى: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) [الصافات: 107].
والله -عز وجل- قد كفانا أن نقتل أنفسنا، أو أبنائنا؛ لنثبت صدق حبنا له، وحبه لنا، فهناك أعمالاً كثيرة ومتعددة ينال بها العبد محبة الله؛ فأنت عندما تقدم ما يحبه الله؛ فإن الله يحبك.
عندما تنهض من نومك لصلاة الفجر وأنت بحاجة إلى النوم، وتقدم أمر الله على شهوتك ورغبتك؛ فإن الله يحبك.
وعندما تخرج الزكاة من مالك وأنت تحب المال حباً جما لكنك قدمت أمر الله؛ فإن الله يحبك.
وعندما تبتعد عن الحرام والنفس تنازعك والشيطان يمنيك ويعدك ويزينه لك لكنك التزمت أمر الله؛ فإن الله يحبك.
وعندما تترك المجاملة والتزلف والنفاق لإرضاء فلان من الناس، وتكلمت بالحق، ولم تداهن فيه؛ فإن الله يحبك.
وعندما تقدم الله وتؤثره على كل شيء؛ فإنه يحبك.
إن حنظلة بن عامر -رضي الله عنه- في ليلة عرسه يسمع منادي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للجهاد والخروج إلى معركة أحد، فترك فرشه وعرسه، خرج وهو جنب، فقاتل قتال الأبطال، ثم قتل فغسلته ملائكة الرحمن بين السماء والأرض، بصحائف من ذهب، بماء المزن! لقد فاز بجنة عرضها السموات والأرض!.
فإياك أن تقدم هواك ورغباتك أو أمر فلان وعلان على أمر الله، حتى لا تكن من المحرومين من محبته، كن صاحب موقف؛ يشفع لك يوم الموقف الأعظم، يوم القيامة بين يدي الله؛ عندما فاز مانشستر سيتي الإنكليزي في الموسم الماضي 2013م باللقب بعد غياب 40 عاماً، والمقابلة التي كانت مع كل من يايا توريه وزميله جوليان ليسكوت، حيث كان الأخير يحمل زجاجة نبيذ "خمر" وطلب من توريه الاحتفال معه، غير أن الأخير أجابه أمام الكاميرات: "لا أستطيع، أنا مسلم".
فكتبت صحف العالم عن هذا الموقف، ويوم القيامة لن يضيع أي عمل صالح خالص لله -سبحانه-.
عباد الله: وينال العبد محبة الله: بالمحافظة على الطهارة والنظافة وجمال الهيئة والمنظر والملبس، في البيت والشارع والمسجد، قال تعالى عن عباده المؤمنين وهم في بيوت الله: (فيه رجالٌ يُحبُّون أن يتطهَّروا واللهُ يحبُّ الْمطَّهِّرين)[التوبة: 108].
أما التجمل لله فهو التزين لله بلا كبر ولا استحقار لعباده؛ لما روي عن عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنة؟ قال: "إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس"[رواه مسلم].
وينال العبد محبة الله بكثرة ذكره، بتلاوة القرآن، والتسبيح والتحميد والاستغفار، ذلك أن أفضل ما عمرت به الأوقات، واشتغلت به القلوب والجوارح، هو ذكر الله -تبارك وتعالى- في كل حين، وعلى كل حال، فالذاكرون يذكرهم الله، يقول سبحانه وتعالى: (فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون)[البقرة: 152].
وعن أبي هريرة-رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يقول الله -تعالى-: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذ ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرَّب إليَّ شبرا تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرَّب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً وإن أتاني يمشي أتيته هرولة"[رواه البخاري].
اللهم إنا نسألك حبك وحب من يحبك، وكل حب يقربنا إلى حبك.
قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية:
عباد الله: ومن أراد أن ينال محبة الله: فلا ينبغي أن يعيش لنفسه وحسب، بل لا بد أن يكون نافعاً خدوماً لإخوانه، وأبناء مجتمعه، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "أحب الناس إلى الله –تعالى- أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله -عز وجل- سرور يدخله على مسلم، أو يكشف عنه كربة، أو يقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا، ولئن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد -يعني مسجد المدينة – شهرا، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاءً يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام"[الصحيحة للألباني (906)].
ألا يستطيع أحدنا أن يقوم ببعض هذه الأعمال لينال محبة الله -سبحانه وتعالى-؟!: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[الحج: 77].
وقال تعالى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 134].
ومن حب الله وحب دينه وحب رسوله -صلى الله عليه وسلم- يكون الحب في المجتمع بين أفراده، حب يظهر في الأعمال والسلوك، حب تبنى به البيوت وتتآلف عليه القلوب، وتقوى به الصفوف، وتحل به الكثير من المشاكل والاختلافات، ويختفي الظلم والعنف وقسوة القلوب؛ عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاث من كنّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما، وأن يحبّ المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يلقى في النار" [متفق عليه].
وينال العبد محبة الله بمحبة لقائه، والقدوم عليه، والشوق لرؤيته؛ فمن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، وهذا لا يقصد به تمني الموت، وإنما يقصد به أن لا يخاف من الموت ولا يرهبه القدوم عليه سبحانه وتعالى، وإنه ليعمل في هذه الدنيا بما أمره ربه، وهو مشتاق ومستعد في أي لحظة من اللحظات أن ينقلب إليه، وإن الذي لا يحب لقاء الله قد غرق بالمعاصي والسيئات، وقيدته ذنوبه وحرمته من هذه المنزلة العظيمة، والدرجة الرفيعة.
عبادة بن الصامت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه" قالت عائشة أو بعض أزواجه: إنا لنكره الموت؟ قال: ليس ذاك ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته، فليس شيء أحب إليه مما أمامه، فأحب لقاء الله، وأحب الله لقاءه، وأن الكافر إذا حضر بشر بعذاب الله وعقوبته، فليس شيء أكره إليه مما أمامه، كره لقاءه وكره الله لقاءه"[رواه البخاري].
كان شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يخرج إلى الصحراء، يخلو عن الناس بربه، ويتمثل بقول الشاعر:
وأخرج من بين البيوت لعلَّني *** أحدِّث عنك النفسَ بالسر خالياً
وهذا الصحابي الجليل معاذ بن جبل، حين حضرته الوفاة، وجاءت ساعة الاحتضار، نادى ربه قائلا: "يا رب إنني كنت أخافك، وأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أنني ما كنت أحب الدنيا لجري الأنهار، ولا لغرس الأشجار، وإنما لظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق العلم" ثم فاضت روحه بعد أن قال: "لا إله إلا الله".
لنجعل حب الله نقطة انطلاق في هذه الحياة، لتصلح سائر حياتنا، ولنجعل حب الله ورسوله وأصحابه وأزواجه، وحب القرآن، وحب الدين، وحب المسلمين، وحب الحق وأهله، وحب الأعمال الصالحة أعظم حب في حياتنا، ولنسعَ إلى المحافظة عليه، ولنجعل منه وسيلة للتأليف بين القلوب، وتقوية روابط الأخوة، وطريقاً لسعادة الفرد والمجتمع.
اللهم إنا نسألك لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلاَ فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، آمين.
هذا، وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
التعليقات