عناصر الخطبة
1/التآمر على المسلمين 2/السر في انشغال الهيئات والمنظمات الغربية بقضايا البلدان الإسلامية 3/أبرز سمات وخصائص أهل الحل والعقد 4/واجبات أهل الحل والعقد 5/حقوق أهل الحل والعقد 6/خطر الفرقة وفضل الاجتماع 7/المطلوب من عقلاء الأمة الإسلامية ومفكريهااهداف الخطبة
اقتباس
أيها المسلمون: الأمة فيها خير كثير، في صفوفها الكثير والكثير من العقلاء والشرفاء والأمناء الذين يقدمون الولاء للمسلمين ويقدمون الشريعة على الشعارات، هؤلاء الأجلاء أينما كانوا وكيفما كانوا في أنحاء بلاد المسلمين هم خلاصة الأمة، وهم عدتها وعتادها، هم معدنُها وجوهرها، ليسوا كلهم علماء، ولكنهم يعرفون قدر العلم والعلماء، فيهم الفقهاء والعباد والمجاهدون، فيهم الأطباء والمهندسون والمدرسون، فيهم علماء الذرة، ومنهم...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله...
أما بعد:
أيها المسلمون: لا يكاد المرء يصدق عينيه، أو أذنيه، وهو يشهد هذا الكمَّ المفجع من نكبات الأمة، الناتج عن ذلك القدر الهائل من تركيز العداوات عليها، وتوجيه الضربات لها.
فالعالم يشهد منذ العقد الأخير من القرن العشرين الميلادي الماضي تطورات متلاحقة، أصبحت أكثر تسارعاً مع بدايات القرن الحادي والعشرين، واللافت فيها أن أكثر تفاعلاتها تمسُّ أمتنا الإسلامية مسّاً مباشراً، إما على الصعيد السياسي، أو الاقتصادي، أو العسكري أو الديني، أو الاجتماعي، أو الثقافي؛ حتى أصبحنا أمام واقع مفاده: أن المسلمين يُشغَلون في أكثر بلادهم بمواجهة التخلُّف والصراعات والفتن التي دُخلت عليهم من أقطارها، بينما يتفرَّغ غيرُهم دون إزعاج للتعمير والتحديث والإنتاج.
وهذه الأوضاع العالمية المليئة بالحيف والجور، لم يعد محتَملاً من أنصار الحق، وأصحاب الرأي في الأمة أن يتجاهلوا متابعتها، والتفاعل معها، والسعي لعلاجها؛ لأنها تخصُّ حاضرنا، ومستقبل أجيالنا، وتخصُّ قبل ذلك وبعده مصير دعوة الإسلام، التي يتفق أعداء الأمة جميعاً على محاربتها، وتقليص وجودها، حتى داخل بلاد المسلمين، وهو ما يستدعي وضع حدٍّ لهذه الأوضاع المرشحة للاستمرار، وجَعْلها على رأس اهتمامات وواجبات الخاصة قبل العامة.
أيها المسلمون: والمتأمِّل في هذه الأوضاع والتفاعلات الدولية من خلال مساراتها المختلفة، سيجد في المسار السياسي مثلاً: أن أكثر القضايا الدولية حساسية هي القضايا التي تدور أحداثها في عالمنا الإسلامي، حيث تنشغل الهيئات والمنظمات السياسية الدولية بالقضايا المتفاعلة في بلادنا الإسلامية أكثر من غيرها، وهذه المنظمات في كل الأحوال تتدخل في قضايانا، وتخرج بنتائج بعيداً عن مقتضى مصالحنا الآنية، ومصائرنا المستقبلية؛ فمن فلسطين، إلى العراق، إلى لبنان، إلى السودان، إلى منطقة الخليج، إلى الصومال، إلى أفغانستان، إلى باكستان، إلى كشمير، إلى الفلبين، إلى مصر، إلى سوريا، إلى غير ذلك.
تسير قوى الهيمنة الكبرى المسيطرة على تلك المنظمات الدولية بمصير شعوبنا إلى المجهول، من خلال مشاريع استعمارية جديدة، موضوعها نحن، وموضعها نحن.
بل إن أخطر قضايا التوازنات العالمية أصبحت مرتبطة بواقع ما يحدث على أراضي عالمنا الإسلامي؛ فلكل من أوروبا وروسيا والصين والهند أطماع لاستكمال مقومات التأهل لعالم ما بعد القطبية الواحدة، وهي تبني حساباتها المستقبلية على أساس استمرار ضعفنا، وتفرُّقنا، وتبعيَّتنا، وبقائنا دون ريادة، أو قيادة، على المستوى العالمي.
ومن الغريب: أن العالم الذي يصبح ويمسي على أخبارنا الساخنة، وأحداثها المتلاحقة، لا يكاد يرى دوَّامات ومتاهات مثلها في أماكن أخرى غير بلادنا.
إن كل تلك النوازل والأزمات لتنادي في العالمين: أين قادة المسلمين على المستوى الدولي؟ أين كلمة علمائُهم؟ أين رأي حكمائُهم؟ ما هو السبيل والمخرج من هذه الأزمات ولو بحل جزئي؟.
الجواب: إعادة تلك المؤسسة العملاقة على مستوى الأمة والتي فُقدت منذ زمن بعيد، وهي مؤسسة أهل الحل والعقد.
السؤال: أين هم أهل الحل والعقد؟ من هم أهل الحل والعقد؟ من الذي أضاع هذه المؤسسة العملاقة في الأمة؟ من المسئول عن إعادتها؟ ما هي أبرز سماتُهم وخصائصُهم؟.
أيها المسلمون: من مجمل كلام علماء السياسة الشرعية يمكننا أن نقول: إن لأهل الحل والعقد خصائص في مجموعهم بوصفهم الفئة الأهم من ولاة أمر الأمة؛ من أبرز هذه الخصائص:
أولاً: ولايتهم وسلطتهم مستمدة من الشريعة مباشرة، حيث يستمدون منها مرجعيتهم ومشروعيتهم وشروط وظروف عملهم، ولذا فإن تلك الولاية لا تُستَمَد من سلطة أخرى أعلى منها، لا الشعب، ولا الحكومة، ولا المؤسسات الوطنية، أو القومية، أو الدولية، وإنما بالاختيار فيما بين المؤهلين لها، وبالشروط المعتبرة عند أهلها، فهم لا يُوظَّفون من جهة معينة، ولا يُستأجر جهدهم من نظامٍ ما.
ثانياً: أن ولاية أعضائها باقية ببقاء توافر الشروط الشرعية فيهم، ولهذا فإن ولاية أهل الحل والعقد لا تقبل العزل أو الإسقاط، أو انتهاء الصلاحية، وسلطتهم لا تُمنح ولا تُمنع، ولا يسوغ مخالفتها ما دامت جامعةً لشروطها مستوفيةً لأركانها.
ثالثاً: أن سلطتها العامة العالمية لا تعترف بالتقسيمات الرسمية، أو الحزبية، أو العنصرية، فالصلة بين أعضائها هي الحكمة والرأي والعلم، ولهذا فلا يقبل تقسيم هيئتهم، أو تصنيفها بالرسميات، أو الحزبيات، أو القطريات، فرأي مجموعهم سارٍ على مجموع أمتهم.
رابعاً: أن العلماء هم عماد هذه المؤسسة وجمهورها، إلى جانب من يستعان بهم بشروطهم من أهل الاختصاص في الشؤون الأخرى.
لكن العلم المشروط في كل هؤلاء، هو: العلم الشرعي الصحيح القائم على المصدرَيْن المعصومَيْن: الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة.
وطبقة العلماء على وجه الخصوص من هذه الهيئة، أو المؤسسة، لا بد من تميزهم بسلامة المنهج العقدي، فلا يُقبل أن يكون ضمن أهل الحل والعقد علماء البدع، أو أصحاب المرجعيات التي لا ترجع إلى العقيدة المرضية عند أهل السنة والجماعة، بل لا بد أن يكونوا جميعاً من العدول، ومن ورثة علم الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
خامساً: هذه الهيئة تمثل فئة فاعلة متفاعلة، ومعينة متعاونة؛ كما تدل على ذلك الدلالات اللغوية والفقهية لمصطلح الحل والعقد، فكيانهم مُنشأة قادرة على إنشاء أوضاع جديدة في الأوساط المحيطة.
وهم نواب عن الأمة وممثلون لإجماعها الذي لا يمكن أن يكون على ضلالة، وهم يتكوَّنون ثم يكوِّنون، وينتظمون ثم ينظِّمون.
وهم يفتقدون في البداية إلى التعارف، ثم التقارب، ثم التفاعل مع هموم المسلمين في إطار متماسك مؤثر، هو في حقيقته إطار مؤسسي قادر على أن يحلَّ ويعقد في الشؤون المهمة للأمة.
أيها المسلمون: إن دور هذه الولاية في إعادة القيادة إلى الأمة الإسلامية يفتقر إلى عمل مؤسسي، ودورها في التصدي للنوازل الفقهية، والمعضلات العلمية، يحتاج إلى عمل مؤسسي، وتصدِّيها لانتزاع حقوق الأمة، وإعادتها يحتاج إلى عمل مؤسسي، وكذلك إعانتها على إقامة المستطاع من أحكام الشريعة لا بد له من عمل مؤسسي، ونظرها في قضايا الجهاد والثغور والسلم والحرب، وكذلك رقابتها على الأموال، وإشرافها على العدل بين الناس لا يتم دون عمل مؤسسي.
فلا مناصَ من تحوُّل قيادتهم الاعتبارية النظرية إلى نظام فعلي معتبر، ومعترف به من بقية نواب الأمة وجمهورها.
وواجبات أهل الحل والعقد ووظائفهم لم تعد تحتمل التأجيل من جيل إلى جيل، فما مضى من التقصير لا يسوغ المزيد من التسويف، وذلك لأن نوازل الأمة عديدة ومتجددة، وواجباتهم ومسؤولياتهم تجاهها كثيرة:
فمن أهم واجبات أهل الحل والعقد: الواجبات الدينية والعلمية: أخذٌ للدين بقوة، وعلمٌ لمنازلة النوازل التي تواجه الناس هو الدور الأساس لطبقة العلماء في مؤسسة الحل والعقد.
وكل الأدوار المنوطة بهم تتفرع عن ذلك الدور أو تُبنى عليه، ولهذا فإن من واجبهم أن ينطلقوا دائماً من الأصول الأقرب إلى الاجتماع؛ حتى لا تختلف أقوالهم أمام الأمة، فيكونوا سبباً في فرقتها أو المزيد من فرقتها.
وفريضة الاعتصام بحبل الله والاجتماع على كلمة سواء من كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لا يمكن أن يقوم بها المسلمون إذا كان علماؤهم متفرقين، فاجتماعهم هو الأرضية التي يشيد عليها اجتماع المسلمين في أي قضية.
وقد كان خلفاء الصحابة يحرصون على أن تكون بطانتهم من أهل الذكر؛ فأبو بكر -رضي الله عنه- كان إذا نزل به أمر يريد فيه مشاورة أهل الرأي والفقه، دعا رجالاً من المهاجرين ورجالاً من الأنصار، ودعا عمر وعثمان وعليّا وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل، وأُبيَّ بن كعب، وزيد بن ثابت.
وعمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان القرّاء أصحاب مشورته، كهولاً كانوا أو شباباً، كما ذكر ذلك ابن عباس -رضي الله عنهما-.
إن أهل العلم المحققين في عصرنا ينتظرهم العديد من مهامِّ حل المسائل العظام، والمعضلات الجسام التي تتأجل من جيل إلى آخر، ويرحِّلها أهل الشأن من فصيل إلى فصيل، دون أن تجد جواباً شافياً، أو معالجة كافية تقلِّص من دائرة الاختلاف الدائر بين المسلمين.
ومن واجبات أهل الحل والعقد: الواجبات السياسية والقضائية: الاجتهاد فيما لا نص فيه من الأمور السياسية والقضائية، ونحوها مما يتعلق بمصالح المسلمين الاقتصادية، أو الاجتماعية. وما يجمعون عليه، أو تجتمع عليه أكثريتهم يصبح ملزماً للأمة.
وهم يقدمون الرأي والمشورة في تلك الأمور بحكم أن مؤسستهم يُفترض أنها تضم المختصين في كل الشؤون المهمة، ولذلك فإن ما يبرمونه من أمر في شيء من ذلك يصبح واجب الامتثال بنص كلام الله: (أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ)[النساء: 59].
ومعلوم أن بعض البلاد الإسلامية في ظل التقلُّبات الدولية والاجتياحات الخارجية قد تتعرَّض لأزمات مفاجئة، أو اضطرابات طارئة، وهنا لا يُعفى أهل العلم من مسؤولية العمل على تدارك الأمور بما لا يدع لأعداء المسلمين الظاهرين، أو الباطنين الفرصة لركوب الموجة، أو الصعود إلى سدَّة الحل والعقد للتفرُّد بالأمر والنهي دون أهل الشأن وأصحاب المسؤولية.
ومن واجبات أهل الحل والعقد: الواجبات الاجتماعية: لا يمكن لشعب من شعوب الأمة أن يستغني عن دور أهل الحل والعقد في الإصلاح الاجتماعي، وبخاصة العلماءُ منهم.
وإذا كانت كثير من المجتمعات تشكو من شيوع الفساد وانتشار المنكرات، وتعزو ذلك إلى إهمال الحكومات ومساهمتها في تكثير الشرور، فإن ذلك لا يعني أن المسؤولية تقع على تلك الحكومات فقط، فتقصير أهل العلم في إنكار المنكر، هو نفسه من المنكر، وقد أنكر الله على علماء بني إسرائيل تركهم القيام بالحسبة على شعبهم، فقال تعالى: (لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ)[المائدة: 63].
وفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تجب على الأمة بأسرها، فلأجل إقامتها هذه الفريضة تستحق وصف الخيرية؛ كما قال تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ)[آل عمران: 110].
لكن تلك الفريضة تتوزع على الناس بحسب أقدارهم وقدراتهم، فليست مسؤولية الحاكم في ذلك مثل مسؤولية آحاد الرعية، وليس المطلوب من الرعية في ذلك مثل ما هو مطلوب من العلماء؛ قال الإمام الشوكاني -رحمه الله- عن إقامة شرعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: "فإذا قام بذلك الإمام فهو رأس الأمة، وصاحب الولاية العامة، وكان قيامه مسقطاً للوجوب على غيره، وإن لم يقم فالخطاب بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باقٍ على كل مكلف يقدر على ذلك، والعلماء والرؤساء لهم مزيد خصوصية في هذا؛ لأنهم رؤوس الناس والمميزون بينهم بعلوِّ القدر ورفعة الشأن".
ويستفاد من هذا الكلام أن مسؤولية الإصلاح الاجتماعي عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تنصرف إلى العلماء إذا فرَّط فيها الحكام، وهي أكثر اختصاصاً بهم في حال غيابهم.
بارك الله...
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أما بعد:
أيها المسلمون: لأهل الحل والعقد بكل أصنافهم حق الإجلال والطاعة من الأمة، وأهل العلم منهم أحق بهذا الحق؛ لأن ولاية الأمر كما تقرر وتكرر تعود إليهم، وبخاصة في هذا الزمان الذي انفصل فيه السلطان عن القرآن.
ولما كان أهل الحل والعقد داخلين دخولاً أولياً في مسمى أولي الأمر في قول الله -تعالى-: (أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ)[النساء: 59].
فإن طاعتهم واجبة في كل الأحوال سواء وجدت القيادة السياسية الشرعية أو لم توجد، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ثلاث لا يُغل عليهم صدر مسلم: إخلاص العمل لله -عز وجل-، ومناصحة أولي الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، فإن دعوتهم تحيط من وراءهم" [رواه الإمام أحمد].
والمناصحة هنا تعني: تبادل النصيحة، فأهل الحل والعقد لا يَنْصحون فقط، بل يُنْصحون أيضاً، باعتبارهم وكلاء عن الأمة في مصالحها، وهم وإن كانوا خاصة هذه الأمة، فإن النصيحة واجبة لهم، لوجوبها للخاصة والعامة منها.
أيها المسلمون: إن حرمان أمة يبلغ تعدادها اليوم ملياراً وثلث المليار من البشر من آراء حكمائها وعلمائها وأهل النصح فيها، مع ما تواجهه من خطوب وعظائمَ تستهدف إذلالها أو إزالتها، هذا الغياب وذلك الحرمان يعد إجراماً في حق هذه الأمة، خاصة أنها ليست كأي أمة، إنها خير الأمم، وصاحبة خير الرسالات، والمسؤولة عن أعظم الأمانات: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)[البقرة: 143].
فإذا آل أمر هذه الأمة إلى أن تصبح بلا قيادة، بعد أن أصبحت بلا ريادة ولا سيادة، فإن المسؤولين عن ذلك سيُسألون أمام الرب -جل وعلا- عما فرطوا فيه وأحجموا عنه.
وهنا يبرز السؤال المهم: ما الذي يمنع هذه الأمة من أن تكون لها قيادتها العالمية، ومرجعيتها الاعتبارية في مثل هذه الظروف الخطرة، والأجواء الاستثنائية، مثلما لليهود قياداتهم العالمية المتمثل في "المؤتمر اليهودي العالمي"، وللنصارى زعامتهم الكونية المتمثل في "المجلس العالمي للكنائس"، بل ولبقية المبتدعة من هذه الأمة مؤسساتهم القيادية ومرجعياتهم الدينية؟!
ويأتي الجواب الصعب: لا مانع، إلا أن لهؤلاء صفوفهم المتراصة وراء أهدافهم الموضوعة، ولنا صفوفنا الممزقة خلف خلافاتنا المصنوعة!.
ثم يأتي سؤال أهم يحتاج لجواب أصعب، وهو: ما الذي يمنع صفوفنا من التراص، ومواقفنا من الاجتماع على كلمة سواء، مع أن الله -تعالى- تعبَّدنا مع التوحيد بالتوحُّد، ومع الصلاة والزكاة والصيام، بالاجتماع والاعتصام؟
لا جواب على ذلك إلا: أن قيادتنا الاعتبارية العامة مفقودة، ومرجعيتنا العلمية الموحدة غير موجودة، أو موجودة ولكنها غير مجموعة، ولهذا كانت غير مسموعة.
أيها المسلمون: بديهيات العقول تقول: لا سفينة بلا ربان، ولا معركة بغير قيادة، ولا نصر بلا اعتصام، ولا عزة مع الفُرقة، ففيم الإصرار على خطأ عُرف خطره، ولِمَ الإقامة على منكر عُلِمَ إثمه؟!
لقد بلغ أمر تنفير القرآن من الفُرقة، أن جعلها من شعار الكفار، فقال الله -عز وجل-: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران: 105].
وجعل التنازع قرين الفشل، فقال: (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)[الأنفال: 46].
إنك لو سألت أي مهتم بأمر المسلمين: هل يجوز لجماعة من جماعات المسلمين أو كيان من كياناتهم أو شعب من شعوبهم، أن يمضي بلا رأي ولا راية ولا ولاية؟ لبادرك بالقول: هذا لا يصلح في صحيح العقول، فكيف يصح في مقاصد النقول؟!
للأسف الشديد فإن هذه حال الأمة في مرحلتها الراهنة.
أيها المسلمون: الأمة فيها خير كثير، في صفوفها الكثير والكثير من العقلاء والشرفاء والأمناء الذين يقدمون الولاء للمسلمين ويقدمون الشريعة على الشعارات، هؤلاء الأجلاء أينما كانوا وكيفما كانوا في أنحاء بلاد المسلمين هم خلاصة الأمة، وهم عدتها وعتادها، هم معدنُها وجوهرها، ليسوا كلهم علماء، ولكنهم يعرفون قدر العلم والعلماء، فيهم الفقهاء والعباد والمجاهدون، فيهم الأطباء والمهندسون والمدرسون، فيهم علماء الذرة، ومنهم أدباء الكلمة، فيهم المهرة المنظّرون والمخططون، وفيهم النشطاء المنفذون، رجالاً ونساءً، ولا عجب من تنوع وتفاضل أصنافهم، فأهل الجنة أصناف وأصناف، تزيد على أهل الدنيا أضعاف أضعاف: (انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً)[الإسراء: 21].
هؤلاء العقلاء في كل اتجاه إسلامي هم بضاعتنا المطلوبة، وغايتنا المقصودة، الأمة في حاجة إليهم اليوم لتتكون منهم على اختلاف تخصصاتهم رابطة إسلامية دعوية عامة، لا حزبية ولا إقليمية ولا رسمية، بل رابطة أخوية عالمية احتسابية، لا يُطلب من أفرادها أن يتركوا مواقعهم، أو يتخلوا عن أدوارهم فيما هم بصدده، ولكن المطلوب منهم أن يضيفوا إلى همومهم الدعوية الخاصة هماً عاماً يخص الأمة كلها، وانتماء عاماً لا يتعارض مع الانتماء الخاص إن وُجد وإنما يوجد له دور جديد في الرابطة العامة التي تفرضها الضرورة.
اللهم...
التعليقات