عناصر الخطبة
1/ كفر من استهزأ بشيء من الدين 2/ قصة استهزاء المنافقين بالصحابة في غزوة تبوك 3/ الاستهزاء بالعلماء والوقيعة فيهم كالاستهزاء بالصحابةاهداف الخطبة
اقتباس
.. فإن من استهزأ بشيء فيه ذكر الله، أو القرآن، أو الرسول -صلى الله عليه وسلم-،
أو استهزأ بأصل التشريع، كمن يستهزئ بحجاب المرأة المسلمة، أو إعفاء الرجل لحيته أو تقصير ثوبه، أو غير ذلك من أحكام الشرع - فقد وقع في الكفر الأكبر المخرج من الملة؛ سواء كان المستهزئ جادًا أو مازحًا لمجرد إضحاك الناس وتسليتهم
الحمد لله القائم على كل نفس بما كسبت، المطلع على مكنونات القلوب وما أضمرت، الرقيب على كل جارحة بما اجترحت، أحمده سبحانه وأشكره على نعم له لا تحصى عمت وغمرت.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تنفع قائلها في يوم تعلم فيه كل نفس ما قدمت وأخرت، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، بدعوته إلى الله وجهاده في سبيل الله؛ علت راية التوحيد وانتشرت.
صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه مصابيح الهدى ونجوم الدجى، على هديه تربيت وفي مدرسته تعلمت، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما أشرقت شمس وغربت.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-: فإن من اتقاه كفاه ووقاه، وقربه وأدناه.
عباد الله: قلب المؤمن الموحد ممتلئ بتعظيم الله -سبحانه- وكتابه ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، فتوحيده وإيمانه الراسخ، يمنعه من أن يصدر منه قول أو فعل فيه استهزاء بشيء فيه ذكر الله -تعالى-، أو القرآن، أو الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
فأصل التوحيد لا يجتمع مع الاستهزاء؛ وذلك أن التوحيد استسلام وانقياد وقبول وتعظيم، والاستهزاء بالله أو شرعه ينافي التعظيم.
ولهذا فإن من استهزأ بشيء فيه ذكر الله، أو القرآن، أو الرسول -صلى الله عليه وسلم-،
أو استهزأ بأصل التشريع، كمن يستهزئ بحجاب المرأة المسلمة، أو إعفاء الرجل لحيته أو تقصير ثوبه، أو غير ذلك من أحكام الشرع - فقد وقع في الكفر الأكبر المخرج من الملة؛ سواء كان المستهزئ جادًا أو مازحًا لمجرد إضحاك الناس وتسليتهم.
قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يُلقي لها بالاً تهوي به في جهنم" رواه البخاري.
ومن جلس في مجالس الكفر والنفاق ولم ينكر عليهم، أو يغادر مجلسهم؛ فقد شاركهم في الكفر، لقوله تعالى: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ) [النساء: 140]
عباد الله: وقعت في غزوة تبوك قصة عظيمة، وحادثة شنيعة، ذكرها الله -عز وجل- بقوله: (وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ) [التوبة: 65]
عن ابن عمر، ومحمد بن كعب، وزيد بن أسلم، وقتادة؛ دخل حديث بعضهم في بعض أنه قال رجل في غزوة تبوك: "ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أرغب بطونًا. ولا أكذب ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء، يعني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه القراء".
فقال لهم عوف بن مالك: "كذبت، ولكنك منافق؛ لأخبرن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذهب عوف إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه، فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، ونتحدث حديث الركب نقطع به عناء الطريق، قال ابن عمر: "كأني أنظر إليه متعلقًا بنسعة ناقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وإن الحجارة لتنكب رجليه هو يقول: (إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ) [التوبة: 65]
عباد الله: الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- أحسن الناس اقتصادًا في الأكل وغيره، والمنافقون أكثر الناس أكلاً، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: "المؤمن يأكل في معيٍّ واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء" متفق عليه.
والمنافقون أكذب خلق الله؛ كما وصفهم الله تعالى: (أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ) [المجادلة: 18] والصحابة -رضي الله عنهم- عدول بالإجماع، واختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه وحفظه، وهم من الصدق بالمنزلة العالية، والغاية التي ليس فوقها غاية -رضي الله عنهم وأرضاهم-.
والمنافقون هم الجبناء (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) [المنافقون: 4] وشجاعة الصحابة -رضي الله عنهم- مشهورة معلومة، وما ظهر لهم من الشجاعة والبطولة لا يُعرف لها نظير، وقد أبلوا بلاء حسنًا في سبيل الله، وصبروا على ما لاقوه.
وفي رواية ابن إسحاق يشيرون إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو منطلق إلى تبوك، فقال بعضهم لبعض: "أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضًا، والله لكأنا بكم مقرنين في الحبال، إرجافًا وترهيبًا للمؤمنين".
فلما سمع عوف بن مالك -رضي الله عنه- هذه المقولة الخبيثة قال لهذا القائل: "كذبت فيما نسبت إليهم، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله -صلى الله عليه وسلم"-، وهذه من النصيحة لله ولرسوله وليس من النميمة في شيء، فذكر أفعال الفساق لولاة الأمور ليردعوهم من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا من باب الغيبة والنميمة.
ولما ذهب عوف بن مالك ليخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- وجد القرآن قد سبقه، فأتى المستهزئون يعتذرون أنهم لم يقصدوا حقيقة الإِستهزاء، وإنما قصدوا الخوض واللعب، والمراد الهزل لا الجد، والتحدث كما يتحدث الركبان إذا ركبوا رواحلهم، وقصدوا ترويح أنفسهم، وتوسيع صدورهم ليسهل عليهم السفر، وقطع الطريق، فتلا عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) [التوبة: 65-66].
ما يلتفت -صلى الله عليه وسلم- إلى هذا المنافق من غضبه عليه، ولم يقبل عذره الباطل، إذ أن هذه الأمور لا يدخلها الخوض واللعب، وإنما تحترم وتعظم إيمانًا بالله ورسوله، وتعظيمًا لآياته، وتصديقًا وتوقيرًا، والخائض واللاعب منقص لها.
وعلى المؤمن أن يخاف على نفسه من النفاق، فقد كان أصحاب تلك المقالة السيئة مؤمنين قبل مقالتهم تلك، ثم وقعوا في الكفر بسببها: (قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) فقد كان إيمانهم ضعيفًا، ولهذا لم يمنعهم من الاستهزاء بالله -تعالى- ورسوله -صلى الله عليه وسلم-.
ومن هذا الباب: الاستهزاء بالعلماء وعدم احترامهم، أو الوقيعة فيهم لأجله، وفيه أن الإنسان قد يكفر بكلمة يتكلم بها، أو عمل يعمله.
قال الشيخ محمد عبد الوهاب -رحمه الله-: "القول الصريح في الاستهزاء هذا وما شابهه، وأما الفعل الصريح: فمثل مد الشفة، وإخراج اللسان ورمز العين، وما يفعله كثير من الناس عند الأمر بالصلاة والزكاة فكيف بالتوحيد"؟!
وقال: "فيه -وهي العظيمة- أن من هزل بهذا أنه كافر، والفرق بين النميمة وبين النصيحة لله ولرسوله، وبين العفو الذي يحبه الله والغلظة على أعداء الله، وأن من الاعتذار ما لا ينبغي أن يُقبل".
عباد الله: قال الشيخ محمد بن عثيمين -رحمه الله-: "والكفر كفران: كفر إعراض وكفر معارضة، والمستهزئ كافر كفر معارضة؛ فهو أعظم ممن يسجد لصنم فقط، وهذه المسألة خطيرة جدًا، وربَّ كلمة أوقعت بصاحبها البلاء والهلاك وهو لا يشعر؛ فقد يتكلم الإِنسان بالكلمة من سخط الله -عز وجل- لا يُلقي لها بالاً يهوي بها في النار".
فمن استهزأ بالصلاة -ولو نافلة-، أو بالزكاة، أو الصوم، أو الحج؛ فهو كافر بإجماع المسلمين، كذلك من استهزأ بالآيات الكونية بأن قال مثلاً: "إن وجود الحر في أيام الشتاء سفه"، أو قال: "إن وجود البرد في أيام الصيف سفه"؛ فهذا كفر مخرج عن الملة؛ لأن الرب -عز وجل- كل أفعاله مبنية على الحكمة، وقد لا نستطيع إدراكها بل لا نستطيع بلوغها.
إن من إجلال الله -سبحانه- احترام وتقدير ومحبة ونصرة العلماء، والدعاة، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وأهل الخير والصلاح، ومن استهزأ بهم؛ لأجل تمسكهم بالدين فقد كفر.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِر ِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا) [النساء: 160]
بارك الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله معز من أطاعه ومذل من عصاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فالاستهزاء بأصل التشريع كفر؛ والاستهزاء بتطبيق المسلم للشرع كبيرة من الكبائر.
قال الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله-: "من الناس ديدنه تتبع أهل العلم لقيهم أم لم يلقهم -مثل قوله: "المطاوعة كذا وكذا"- فهذا يُخشى أن يكون مرتدًا، ولا ينقم عليهم إلا أنهم أهل طاعة، أما إذا كان مع شخص أو أشخاص، فهذا لا ينبغي لكنه أهون من ذلك".
ويقول الشيخ محمد بن عثيمين -رحمه الله-: "هؤلاء الذين يسخرون من الملتزمين بدين الله فيهم نوع نفاق، لأن الله قال على المنافقين: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين)".
وقال الشيخ صالح البليهي -رحمه الله- في الحرم المكي وقد رفع سواكه: "هذا المسواك لو علم شخص أنه من السنة ثم سخر به؛ فإن هذا قد ارتكب أمرًا كفريًا، لأنه إذا سخر بالسنة، يسخر بصاحبها، وإذا سخر بالرسول فإنه قد سخر بالله، لأنه أرسل النبي وشرع هذا".
وفي جواب للجنة الدائمة للإفتاء على من قال لآخر: "يالحية" أن الاستهزاء باللحية منكر عظيم؛ فإن قصد القائل (يالحية) السخرية فذلك كفر، وإن قصد التعريف فليس بكفر ولا ينبغي أن يدعوه بذلك".
وفي جواب للشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-: على من زعم أن بعض الأحكام الشرعية تحتاج إلى إعادة نظر، وأنها بحاجة إلى تعديل لكونها لا تناسب تطورات العصر مثال ذلك: في الميراث؛ أن للذكر مثل حظ الأنثيين.
يقول -رحمه الله-: "الأحكام التي شرعها الله لعباده على لسان نبيه -صلى الله عليه وسلم- كأحكام المواريث، والصلوات الخمس، والزكاة والصيام ونحو ذلك، مما أوضحه الله لعباده، وأجمعت عليه الأمة؛ ليس لأحد الاعتراض عليه ولا تغييره، لأنه تشريع مُحكم للأمة في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم- وبعده إلى قيام الساعة".
فالواجب عمل ذلك عن اعتقاد وإيمان، ومن زعم أن الأصلح خلافه فهو كافر، وهكذا من أجاز مخالفته يعتبر كافرًا، لأنه مُعترض على الله وعلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- وعلى إجماع الأمة، وعلى ولي الأمر أن يستتيبه إن كان مسلمًا، فإن تاب وإلا وجب قتله كافرًا مرتدًا عن الإِسلام".
وفي جواب للشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- على من يقول: حلق اللحية وتقصير الثوب قشور.
قال: "هذا الكلام خطير ومنكر عظيم، وليس في الدين قشور، بل كله لُبٌّ وإصلاح، وينقسم إلى أصول وفروع، ومسألة اللحية وتقصير الثوب من الفروع لا من الأصول؛ لكن لا يجوز أن يُسمي شيء من أمور الدين قشورًا، ويُخشى على من قال هذا الكلام منتقصًا ومستهزئًا أن يرتد بذلك عن دينه، لقوله تعالى: (قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)" [التوبة: 65-66]
والرسول -صلى الله عليه وسلم- هو الذي أمر بإعفاء اللحية وإرخاؤها، وتوفيرها وقص الشوارب وإحفاؤها؛ فالواجب طاعته وتعظيم أمره ونهيه في جميع الأمور.
هذا، وصلوا وسلموا.
التعليقات