عناصر الخطبة
1/ فضل الصدقة اليومية 2/ الخلف على المنفق والتلف على الممسك 3/ النفقة التي يستحق صاحبها الخلف في الدنيا والآخرة 4/ ضرورة استحضار النية الصالحة في الإنفاق 5/ كيف يتصدق الفقراء؟! 6/ نماذج من تصدق الصالحيناقتباس
وَالنَّفَقَةُ الَّتِي يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهَا الخَلَف فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ، وَيَتَنَاوَلُهَا وَعْدُ اللهِ تَعَالَى، كَمَا يَتَنَاوَلُهَا دُعَاءُ المَلَكِ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- هِيَ النَّفَقَةُ الوَاجِبَةُ وَالمُسْتَحَبَّةُ، فَالنَّفَقَةُ الوَاجِبَةُ هِيَ النَّفَقَةُ عَلَى الزَّوْجَةِ وَالأَوْلاَدِ، وَبِرِّ الوَالِدَيْنِ بِالعَطَاءِ، وَصِلَةِ الأَرْحَامِ بِالمَالِ وَالهَدَايَا؛ صِلَةً إِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ، وَصَدَقَةً وَصِلَةً إِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ. والنَّفَقَةُ المُسْتَحَبَّةُ كَالصَّدَقَةِ عَلَى الفُقَرَاءِ، وَكَفَالَةِ الأَيْتَامِ، وَالسَّعْيِ عَلَى الأَرَامِلِ، وَالإِهْدَاءِ لِلْجِيرَانِ، وَسَائِرِ الإِنْفَاقِ فِي وُجُوهِ الخَيْرِ.
الخطبة الأولى:
الحَمْدُ للهِ الغَنِيِّ الجَوَادِ، الكَرِيمِ الوَهَّابِ؛ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ، يَرْفَعُ وَيَخْفِضُ، وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ، وَيُعْطِي وَيَمْنَعُ، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ، نَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَى وَكَفَى، وَنَشْكُرُهُ عَلَى مَا أَعْطَى وَأَوْلَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ؛ يَرْزُقُ العِبَادَ مِنْ فَضْلِهِ، وَيَفِيضُ عَلَيْهِمْ مِنْ رِزْقِهِ، وَيَفْتَحُ لَهُمْ خَزَائِنَهُ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالإِنْفَاقِ مِمَّا أَعْطَاهُمْ؛ لِيُكَفِّرَ عَنْهُمْ، وَيُضَاعِفَ أَجْرَهُمْ، وَيَرْفَعَ دَرَجَاتِهِمْ، وَهُوَ الوَلِيُّ الحَمِيدُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ كَانَ أَكْرَمَ النَّاسِ عَطَاءً، وَأَسْخَاهُمْ نَفْسًا، وَأَنْدَاهُمْ يَدًا، وَأَعْظَمَهُمْ بِرًّا، لاَ يَدِّخِرُ شَيْئًا لِنَفْسِهِ، وَلاَ يَرُدُّ مَنْ سَأَلَهُ، فَمَا سُئِلَ شَيْئًا قَطُّ فَقَالَ: لاَ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّم وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَاعْمَلُوا فِي دُنْيَاكُمْ لآخِرَتِكُمْ، وَخُذُوا مِنْ حَيَاتِكُمْ لِمَوْتِكُمْ، وَمِنْ صِحَّتِكُمْ لِسَقَمِكُمْ، وَأَطْفِئُوا بِالصَّدَقَةِ غَضَبَ رَبِّكُمْ؛ فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَسْتَقْرِضُكُمْ مَا أَعْطَاكُمْ؛ لِيُضَاعِفَهُ لَكُمْ، فَتَجِدُوهُ أَمَامَكُمْ، فِي يَوْمٍ لاَ يَنْفَعُ فِيهِ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة: 245].
أَيُّهَا النَّاسُ: لاَ شَيْءَ أَلَذَّ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ الإِيمَانِ وَلَوَازِمِهِ مِنْ إِسْدَاءِ الخَيْرِ لِلنَّاسِ، وَعَوْنِ المُحْتَاجِينَ، وَإِطْعَامِ الجَائِعِينَ، وَالتَّنْفِيسِ عَنْ المَكْرُوبِينَ، يَجِدُ لَذَّةَ ذَلِكَ المُؤْمِنُ وَالكَافِرُ، وَالبَرُّ وَالفَاجِرُ، وَكَأَنَّ هَذِهِ اللَّذَّةَ الَّتِي يَجِدُهَا فَاعِلُ الخَيْرِ جَزَاءٌ مُعَجَّلٌ لِلْمُؤْمِنِ عَلَى إِحْسَانِهِ مَعَ مَا ادُّخِرَ لَهُ مِنْ عَظِيمِ الجَزَاءِ فِي الآخِرَةِ، وَهِيَ مِنْ حَسَنَاتِ الدُّنْيَا المُعَجَّلَةِ لِلْكَافِرِ حَتَّى لاَ يَكُونَ لَهُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى حَسَنَةٌ يَوْمَ القِيَامَةِ.
وَفِي حَدِيثٍ عَظِيمٍ يَطْرُقُ الأَسْمَاعَ كَثِيرًا نَتَعَرَّفُ عَلَى جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِ فَضْلِ الإِنْفَاقِ وَالصَّدَقَةِ، وَنَسْتَفِيدُ مِنْهُ أَحْكَامًا كُنَّا عَنْهَا غَافِلِينَ، وَعِلْمًا كُنَّا بِهِ جَاهِلِينَ؛ فَإِنَّ العِلْمَ بِالسُّنَّةِ عِلْمٌ بِالوَحْيِ، وَالعِلْمُ بِالوَحْيِ هُوَ أَشْرَفُ العُلُومِ؛ لِأَنَّهُ عِلْمٌ بِاللهِ تَعَالَى وَبِمَا يُرْضِيهِ.
يَرْوِي هَذَا الحَدِيثَ العَظِيمَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَا مِنْ يَوْمَ يُصْبِحُ العِبَادُ فِيهِ، إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلاَنِ، فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَجَاءَ بِلَفْظٍ آخَرَ عِنْدَ أَحْمَدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ: "إِنَّ مَلَكًا بِبَابٍ مِنْ أَبْوَابِ السَّمَاءِ يَقُولُ: مَنْ يُقْرِضِ الْيَوْمَ، يُجْزَى غَدًا، وَمَلَكًا بِبَابٍ آخَرَ يَقُولُ: اللهُمَّ أَعْطِ لمُنْفِقٍ خَلَفًا، وَعَجِّلْ لِمُمْسِكٍ تَلَفًا".
وَجَاءَ هَذَا الحَدِيثُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ قَطُّ إِلَّا وَبِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ: اللَّهُمَّ مَنْ أَنْفَقَ فَأَعْقِبْهُ خَلَفًا، وَمَنْ أَمْسَكَ فَأَعْقِبْهُ تلفا". رَوَاهُ أَحْمَدُ وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّاَنَ.
فَهَذَا الحَدِيثُ وَمَا فِي مَعْنَاهُ أَصْلٌ فِي الصَّدَقَةِ اليَوْمِيَّةِ، وَأَنَّ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَتَصَدَّقَ المُؤْمِنُ كُلَّ يَوْمٍ بِشَيْءٍ، كَمَا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الصَّدَقَةِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى؛ إِذْ سَخَّرَ مَلَكَيْنِ يَنْزِلاَنِ مِنَ السَّمَاءِ كُلَّ يَوْمٍ لِأَجْلِ الدُّعَاءِ لِلْمُنْفِقِينَ، وَالدُّعَاءِ عَلَى المُمْسِكِينَ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي لَفْظِ الحَدِيثِ: "مَا مِنْ يَوْمَ يُصْبِحُ العِبَادُ فِيهِ، إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلاَنِ"، وَفِي الحَدِيثِ الآخَرِ: "مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ قَطُّ إِلَّا وَبِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ"، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَتِ الصَّدَقَةُ اليَوْمِيَّةُ سَبَبًا فِي الحُصُولِ عَلَى دَعْوَةِ المَلَكِ بِالخَلَفِ، كَمَا أَنَّ فِيهَا اتِّقَاءً لِدَعْوَةِ المَلَكِ بِالتَّلَفِ.
وَفِي دُعَاءِ المَلَكَيْنِ لِلْمُنْفِقِ بِالخَلَفَ، وَعَلَى المُمْسِكِ بِالتَّلَفِ: أَنَّ المَلائِكَةَ يُحِبُّونَ الأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ، وَيُحِبُّونَ مَنْ يَأْتِيهَا مِنَ البَشَرِ، وَيَدْعُونَ لَهُمْ، وَأَنَّهُمْ -عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ- يَكْرَهُونَ الأَعْمَالَ السَّيِّئَةَ، وَيَكْرَهُونَ مَنْ يَعْمَلُ بِهَا مِنَ البَشَرِ، وَيَدْعُونَ عَلَيْهِمْ.
وَدُعَاءُ المَلائِكَةِ حَرِيٌّ بِالإِجَابَةِ؛ لِأَنَّهُمْ: (لَا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التَّحريم:6]، وَلِقَوْلِ النِّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ إِلَّا بِخَيْرٍ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ عَلَى مَا تَقُولُونَ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَالدُّعَاءُ بِالخَلَفِ عَلَى المُنْفِقِ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ:39]. فَهُوَ وَعْدٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى، واللهُ لاَ يُخْلِفُ المِيعَادَ.
وَاللهُ تَعَالَى يُخْلِفُ عَلَى العَبْدِ مَا أَنْفَقَ فِي الخَيْرِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، بِوَعْدِهِ سُبْحَانَهُ، وَبِدُعَاءِ المَلَكِ لِلْمُنْفِقِ؛ أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى فِي الحَدِيث القُدْسِيِّ: "يَا ابْنَ آدَمَ: أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ". رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
وَأَمَّا فِي الآخِرَة فَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) [التغابن: 17]، وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: (وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا) [المزمل: 20].
وَالنَّفَقَةُ الَّتِي يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهَا الخَلَف فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ، وَيَتَنَاوَلُهَا وَعْدُ اللهِ تَعَالَى، كَمَا يَتَنَاوَلُهَا دُعَاءُ المَلَكِ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- هِيَ النَّفَقَةُ الوَاجِبَةُ وَالمُسْتَحَبَّةُ، فَالنَّفَقَةُ الوَاجِبَةُ هِيَ النَّفَقَةُ عَلَى الزَّوْجَةِ وَالأَوْلاَدِ، وَبِرِّ الوَالِدَيْنِ بِالعَطَاءِ، وَصِلَةِ الأَرْحَامِ بِالمَالِ وَالهَدَايَا؛ صِلَةً إِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ، وَصَدَقَةً وَصِلَةً إِنْ كَانُوا فُقَرَاءَ.
والنَّفَقَةُ المُسْتَحَبَّةُ كَالصَّدَقَةِ عَلَى الفُقَرَاءِ، وَكَفَالَةِ الأَيْتَامِ، وَالسَّعْيِ عَلَى الأَرَامِلِ، وَالإِهْدَاءِ لِلْجِيرَانِ، وَسَائِرِ الإِنْفَاقِ فِي وُجُوهِ الخَيْرِ.
وَظَاهِرُ الحَدِيثِ أَنَّ المُنْفِقَ يَتَنَاوَلُهُ دُعَاءُ المَلَكِ بِالخَلَفِ سَوَاءٌ أَنْفَقَ مَالاً، أَمْ أَطْعَمَ طَعَامًا، أَمْ سَقَى مَاءً، أَمْ كَسَا كِسَاءً، أَمْ أَعْطَى مَتَاعًا، أَمْ بَذَلَ أَيَّ شَيْءٍ يُنْتَفَعُ بِهِ لِمُحْتَاجٍ إِلَيْهِ، وَهَذَا يُوَسِّعُ دَائِرَةَ الإِنْفَاقِ لِلْمُنْفِقِينَ، لاَ مِنْ جِهَةِ النَّفَقَةِ ذَاتِهَا، وَلاَ مِنْ جِهَةِ مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ، مِمَّا يُعِينُ المُؤْمِنَ عَلَى الالْتِزَامِ بِالصَّدَقَةِ اليَوْمِيَّةِ، وَعَدَمِ الإِخْلَالِ بِهَا؛ لِلدُّخُولِ فِي دَعْوَةِ المَلَكِ بِالخَلَفِ، وَكُلَّمَا عَظُمَ الإِنْفَاقُ وَتَعَدَّدَ كَانَ الخَلَفُ عَلَى المُنْفِقِ عَظِيمًا وَمُتَعَدِّدًا.
وَهَذَا الحَدِيثُ العَظِيمُ يُنَبِّهُنَا إِلَى لُزُومِ اسْتِحْضَارِ النِّيَّةِ الصَّالِحَةِ فِي النَّفَقَاتِ الوَاجِبَةِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ يُنْفِقُونَ عَلَى أَهْلِهِمْ وَأَوْلاَدِهِمْ، حَتَّى الكُفَّارُ وَالفُسَّاقُ، لَكِنَّ صَاحِبَ النِّيَّةِ الصَّالِحَةِ يُحَوِّلُ هَذَا الإِنْفَاقَ إِلَى طَاعَةٍ يُؤْجَرُ عَلَيْهَا، وَتُدْخِلُهُ فِي دُعَاءِ المَلَكِ لَهُ بِالخَلَفِ.
وَإِذَا اسْتَحْضَرَ المُنْفِقُ النِّيَّةَ الطَّيِّبَةَ فِي نَفَقَاتِهِ الوَاجِبَةِ فَإِنَّهُ يُؤَدِّيهَا بِبَشَاشَةٍ وَرَحَابَةِ صَدْرٍ، وَفَرَحٍ بالإِنْفَاقِ؛ لِأَنَّهُ مَخْلُوفٌ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَهَذَا يَقْضِي عَلَى كَثِيرٍ مِنَ المَشَاكِلِ الأُسَرِيَّةِ الَّتِي تَنْتُجُ عَنِ التَّأَفُّفِ وَالضَّجَرِ مِنْ كَثْرَةِ الإِنْفَاقِ عَلَى الأُسْرَةِ؛ فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الرِّجَالِ لاَ يُحْضِرُونَ حَاجَاتِ أُسَرِهِمْ إِلاَّ وَهُمْ يُتَمْتِمُونَ بِالسَّخَطِ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ وَأَوْلادِهِمْ؛ لِكَثْرَةِ طَلَبَاتِهِمْ.
وَأَيْضًا يُحَاسِبُونَ أَنْفُسَهُمْ عَلَى السَّرَفِ، والإِنْفَاقِ عَلَى مُحَرَّمٍ؛ لِعِلْمِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَخْلُوفٍ، وَلاَ يَتَنَاوَلُهُ دُعَاءُ المَلَكِ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ-.
وَأَمَّا المُمْسِكُ عَنِ الإِنْفَاقِ فَمَدْعُوٌّ عَلَيْهِ بِالتَّلَفِ: "اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا"، وَفِي الرِّوَايَةِ الأُخْرَى: "وَعَجِّلْ لِمُمْسِكٍ تَلَفًا"، وَفِي الحَدِيثِ الآخَرِ: "وَمَنْ أَمْسَكَ فَأَعْقِبْهُ تَلَفًا"، وَالمُرَادُ بِهِ المُمْسِكُ عَنِ النَّفَقَةِ الوَاجِبَةِ كَمَانِعِ الزَّكَاةِ، وَالمُقَصِّرِ فِي الإِنْفَاقِ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُمْ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، وَمَنْ تَقَاعَسَ عَنِ النَّفَقَةِ المُسْتَحَبَّةِ خُشِيَ عَلَيْهِ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي النَّفَقَةِ الوَاجِبَةِ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ تُرَوَّضُ عَلَى السَّخَاءِ وَالبَذْلِ كَمَا تُرَوَّضُ عَلَى الإِمْسَاكِ وَالشُّحِّ.
وَهِيَ دَعْوَةٌ تُعَامِلُ المُمْسِكَ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ؛ فَإِنَّهُ إِنَّمَا أَمْسَكَ عَنِ الإِنْفَاقِ الوَاجِبِ عَلَيْهِ؛ شُحًّا بِالمَالِ، وَخَوْفًا عَلَيْهِ، فَعُوقِبَ بِدَعْوَةٍ تُتْلِفُ مَالَهُ الَّذِي أَمْسَكَهُ، والتَّلَفُ المَدْعُوُّ عَلَيْهِ بِهِ إِمَّا أَنْ يَتَنَاوَلَ أَصْلَ مَالِهِ بِخَسَارَةٍ أَوْ جَائِحَةٍ تُتْلِفُهُ، وَإِمَّا أَنْ تُنْزَعَ بَرَكَةُ مَالِهِ فَلاَ يَكَادُ يَنْتَفِعُ بِهِ.
وَبِهَذَا نَعْلَمُ أَهَمِّيَّةَ هَذَا الحَدِيثِ، وَمَا فِيهِ مِنَ العِلْمِ وَالفِقْهِ؛ لِصَلاَحِ أَحْوَالِنَا، وَضَبْطِ إِنْفَاقِنَا، وَالاحْتِسَابِ فِي وَاجِبَاتِنَا، وَكُلُّ مُنْفِقٍ يَحْتَاجُ إِلَى هَذَا الحَدِيثِ العَظِيمِ، وَمَا فِيهِ مِنْ دَقَائِقِ الفِقْهِ، وَلَوْ طَبَّقَ النَّاسُ هَذَا الحَدِيثَ حَقَّ التَّطْبِيقِ فِي الصَّدَقَةِ اليَوْمِيَّةِ؛ لَمَا بَقِيَ فِيهِمْ جَائِعٌ وَلاَ فَقِيرٌ وَلَا مُحْتَاجٌ، وَلَوْ فَقِهَهُ أَرْبَابُ الأُسَرِ لَمَا نَشَأَتْ فِيهِمْ مُشْكِلَةٌ سَبَبُهَا الإِنْفَاقُ، الَّذِي هُوَ غَالِبُ أَسْبَابِ المَشَاكِلِ الأُسَرِيَّةِ، وَارْتِفَاعِ نِسَبِ الطَّلاَقِ، (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [سبأ: 39]
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ؛ وَعَظِّمُوا سُنَّةَ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- كَمَا عَظَّمَهَا اللهُ تَعَالَى فَقَالَ سُبْحَانَهُ: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا) [النساء:80]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: (وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ) [الحشر:7].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: الصَّدَقَةُ اليَوْمِيَّةُ سُنَّةٌ نَبَوِيَّةٌ يَدُلُّ عَلَيْهَا حَدِيثُ دُعَاءِ المَلَكِ لِلْمُنْفِقِ بِالخَلَفِ، وَعَلَى المُمْسِكِ بالتَّلَفِ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ تَثْقُلُ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ كُلَّ يَوْمٍ؛ لِقِلَّةِ ذَاتِ اليَدِ، أَوْ لِكَثْرَةِ الشُّغْلِ، فَلاَ يَلْتَزِمُون بِهَا، وَلَوْ عَلِمُوا أَنَّ بَرَكَةَ دُعَاءِ المَلَكِ لِلْمُنْفِقِ بِالخَلَفِ تَتَنَاوَلُهُ بإِنْفَاقِ أَيِّ شَيْءٍ وَلَوْ كَانَ قَلِيلاً زَالَ الإِشْكَالُ، وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ-: "تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ -حَتَّى قَالَ- وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَكَثِيرٌ مِنَ الفُقَرَاءِ لَنْ يَعْجِزَ عَنِ التَّصَدُّقِ كُلَّ يَوْمٍ بِتَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ يَكُونُ مُنْفِقًا إِذَا تَصَدَّقَ بِبَعْضِهَا لاَ بِكُلِّهَا، أَوْ بِكِسْرَةِ خُبْزٍ، أَوْ بِلُقْمَةِ طَعَامٍ، أَوْ بِجَرْعَةِ لَبَنٍ، أَوْ بِكَأْسِ مَاءٍ.
وَفُقَرَاءُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- لَمَّا نَدَبَهُمُ النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- لِلصَّدَقَةِ اشْتَغَلُوا حَمَّالِينَ لِيَتَصَدَّقُوا بِشَيْءٍ مِنْ أُجْرَتِهِمْ. وَكَانَ النَّبِيُّ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ- يُرَبِّي فِيهِمْ خَصْلَةَ الإِنْفَاقِ اليَوْمِيِّ، فَسَأَلَهُمْ ذَاتَ صَبَاحٍ عَنْ جُمْلَةٍ مِنَ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ كَانَ مِنْهَا قَوْلُهُ -عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ-: "فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا"، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَللِصَّالِحِينَ الكُرَمَاءَ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ فِي الصَّدَقَةِ اليَوْمِيَّةِ، فَقَدْ جَاءَ عَنِ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- أَنَّهُ كَانَ يَتَصَدَّقُ كُلَّ يَوْمٍ بِدِينَارٍ، وَعَنِ الإِمَامِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أَنَّهُ يَتَصَدَّقُ كُلَّ يَوْمٍ عَلَى ثَلاَثِمَائَةِ مِسْكِينٍ.
وَنَقَلُوا فِي سِيرَةِ العَلاَّمَةِ اللُّغَوِيِّ المُقْرِئِ أَبِي حَاتِمٍ السِّجِسْتَانِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- أَنَّهُ كَانَ يَتَصَدَّقُ كلَّ يَوْمٍ بِدِرْهَمٍ.
وَنَقَلَ أَبُو شَامَةَ المَقْدِسِيُّ عَنِ القَائِدِ صَلاَحِ الدِّينِ أَنَّهُ كَانَ يَتَصَدَّقُ كُلَّ جُمُعَةٍ بِمِائَةِ دِينَارٍ أَمِيرِيٍّ ظَاهِرًا، وَيَتَصَدَّقُ فِيمَا عَدَاهُ مِنَ الأَيَّامِ سِرًّا مَعَ مَنْ يَثِقُ بِهِ، وَلَعَلَّ إِظْهَارَهُ صَدَقَةَ الجُمُعَةِ لِكَيْ يَقْتَدِيَ بِهِ الأَغْنِيَاءُ وَالأَعْيَانُ وَكِبَارُ دَوْلَتِهِ؛ لِكَوْنِهِ قَائِدًا يُقْتَدَى بِهِ.
وَكَانَ ابْنُ الخَصِيبِ وَزِيرًا لِبَعْضِ خُلَفَاءِ بَنِي العَبَّاسِ، ثُمَّ نُكِبَ وَعُزِلَ وَضَاقَ حَالُهُ، فَكَانَ قَبْلَ نَكْبَتِهِ يَتَصَدَّقُ كُلَّ يَوْمٍ بِخَمْسِينَ دِينَارًا، فَلَمَا نُكِبَ بَقِيَ يَتَصَدَّقُ بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا، وَيُقَلِّلُ نَفَقَةَ نَفْسِهِ.
وَذُكِرَ عَنِ الوَزِيرِ أَبِي عَلِيٍّ الطُّوسِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَتَصَدَّقُ كُلَّ صَبَاحٍ بِمِائَةِ دِينَارٍ.
وَأَخْبَارُ أَهْلِ الصَّدَقَةِ اليَوْمِيَّةِ كَثِيرَةٌ، وَأَحْوَالُهُمْ عَجِيبَةٌ، وَالمَقْصُودُ أَنَّهُمْ هُدُوا لِلْعَمَلِ بِهَذَا الحَدِيثِ العَظِيمِ، وَحَقَّقُوا دَعْوَةَ المَلِكِ لَهُمْ بِالخَلَفِ، وَكَانَ فِيهِمْ فُقَرَاءُ وَأَغْنِيَاءُ وَقَادَةٌ وَوُزَرَاءٌ وَأَعْيَانٌ، فَلَمْ يَمْنَعِ الفَقْرُ فَقِيرَهُمْ أَنْ يَتَصَدَّقَ كُلَّ يَوْمٍ وَلَوْ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ، كَمَا لَمْ تَمْنَعِ الأَشْغَالُ وَالأَعْبَاءُ القَادَةَ وَالوُزَرَاءَ وَالأَغْنِيَاءَ عَنِ الالْتِزَامِ بِالصَّدَقَةِ اليَوْمِيَّةِ، فَلْنُحْيِ هَذِهِ السُّنَّةَ العَظِيمَةَ فِينَا؛ طَاعَةً للهِ تَعَالَى، وَرَغْبَةً فِي ثَوَابِهِ، وَدُخُولاً فِي دَعْوَةِ المَلَكِ لِلْمُنْفِقِ بِالخَلَفِ، وَاتِّقَاءً لِدَعْوَتِهِ عَلَى المُمْسِكِ بِالتَّلَفِ: (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الحج: 77].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
التعليقات
زائر
04-01-2023هناك مشكل في التحميل نرجوا منكم النظر في الامر
الفريق العلمي
11-01-2023تم الإصلاح .. الان يعمل المرفق بنجاح