عناصر الخطبة
1/ حديث عظيم في ترشيد النفقات وتدبير المعيشة 2/ المنهج الإسلامي في الطعام والشراب واللباس والصدقة 3/ ضوابط الإنفاق في الإسلام 4/ من مظاهر الإسراف والخيلاء في حياتنااهداف الخطبة
اقتباس
والأمر في الحديث بالأكل والشرب، واللباس والصدقة، ليس مقصودًا لفعل هذه الأشياء؛ ذلك لأن الأكل والشرب واللباس من ضرورات الحياة؛ والإنسان يفعلها بغريزته وجبلته؛ سواء أمر بذلك أم لم يؤمر؛ فالجوع والعطش يدعوانه للأكل والشرب، والحياء يدعوه للستر، وأما الصدقة فخلق الرحمة في الإنسان يدفعه إليها، والشرع المطهر يحثه عليها، وإنما كان الأمر بهذه الأمور الأربعة في الحديث تمهيدًا لضبطها ..
الحمد لله الغني الحميد، الجواد الكريم، مبتدئ النعم ومتممها، ودافع البلايا ورافعها، نحمده حمد الشاكرين، ونستغفره استغفار المذنبين، ونسأله من فضله العظيم، فكم من شاكر زاده! وكم من مستغفر غفر له! وكم من سائل أعطاه!
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ أمر بالقصد في الأمور كلها، حتى في العبادات، فإن الله تعالى لا يمل حتى تملوا، ونهى عن الإسراف في كل شيء؛ فالقصد القصد تبلغوا.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ أوتي جوامع الكلم، وتزين بحسن الخلق والعمل، فلا ينطق إلا حقًّا، ولا يقول إلا صدقًا، ولا يعمل إلا صوابًا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، اتقوه في أحوالكم كلها، وأطيعوه في شؤونكم جميعها؛ فإنه سبحانه رقيب عليكم، عليم بكم، لا تخفى عليه خافية منكم: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الحديد: 4].
أيها الناس: في السنة النبوية هداية للمسترشدين، ونبراس للموقنين؛ فهي كلام من لا ينطق عن الهوى: (إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) [النجم:4]، لا يزهد فيها إلا محروم، ولا يرد شيئًا منها إلا مفتون، وإذا استقل أهل الأهواء بعقولهم، واتبعوا أهواءهم؛ رأيتم أهل الحديث للسنة مقتفين، وللأثر معظمين، وفي الاتباع راغبين.
وفي السنة إرشاد لما يصلح أحوال الناس في معاشهم ومعادهم، وفيها قواعد الأخلاق والسلوك، وفيها قوانين معاملة الخلق، من قرب منهم ومن بعد، فلا يضل متبعها، ولا يخزى المتمسك بها.
ونتناول في هذا المقام حديثًا عظيمًا؛ يمثل قاعدة من قواعد الإنفاق، وقانونًا في ترشيد الاستهلاك، ما تمسك به أحد إلا نالته بركة اتباع السنة، وسلم من إضاعة ماله، فلم يضعه إلا في موضعه، ولن يصيبه الندم على تصرفه.
ذلكم -أيها الإخوة- هو حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده -رضي الله عنهم- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كلوا واشربوا، والبسوا وتصدقوا، في غير إسراف ولا مخيلة". رواه البخاري معلقًا مجزومًا به، ووصله جمع من الأئمة.
وجاء في رواية ابن ماجه: "كلوا واشربوا، وتصدقوا والبسوا، ما لم يخالطه إسراف أو مخيلة". وزاد أحمد في روايته: "إن الله يحب أن ترى نعمته على عبده".
وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "كل ما شئت، واشرب ما شئت، ما أخطأتك اثنتان: سرف أو مخيلة".
فهذا الحديث أصل في تدبير المعيشة، وترشيد الاستهلاك، وضبط الإنفاق، وقد ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم مهمات الأشياء في الإنفاق، وهي: الأكل والشرب، واللباس والصدقة، والثلاثة الأولى هي أكثر ما تنفق فيه الأموال؛ لأنه لا عيش للإنسان إلا بطعام وشراب، ولا ظهور له أمام الناس إلا بلباس، فكان أكثر الإنتاج متجهًا إليها؛ لكثرة استهلاكها.
قال الموفق البغدادي -رحمه الله تعالى-: "هذا الحديث جامع لفضائل تدبير الإنسان نفسه، وفيه تدبير مصالح النفس والجسد في الدنيا والآخرة؛ فإن السرف في كل شيء يضر بالجسد، ويضر بالمعيشة؛ فيؤدي إلى الإتلاف، ويضر بالنفس إذ كانت تابعة للجسد في أكثر الأحوال، والمخيلة تضر بالنفس حيث تكسبها العجب، وتضر بالآخرة حيث تكسب الإثم، وبالدنيا حيث تكسب المقت من الناس".
والأمر في الحديث بالأكل والشرب، واللباس والصدقة، ليس مقصودًا لفعل هذه الأشياء؛ ذلك لأن الأكل والشرب واللباس من ضرورات الحياة؛ والإنسان يفعلها بغريزته وجبلته؛ سواء أمر بذلك أم لم يؤمر؛ فالجوع والعطش يدعوانه للأكل والشرب، والحياء يدعوه للستر، وأما الصدقة فخلق الرحمة في الإنسان يدفعه إليها، والشرع المطهر يحثه عليها، وإنما كان الأمر بهذه الأمور الأربعة في الحديث تمهيدًا لضبطها، وبيان الحد فيها، حتى لا يتجاوزه الإنسان؛ فيطغى على نفسه، ويبغي على غيره.
والأمر بالأكل والشرب واللباس والصدقة، جاء في القرآن على وجه الامتنان بهذه النعم على الناس، بإيجادها، وتسخيرها، وحلها، ولزوم طاعة الله تعالى فيها؛ كسبًا وإنفاقًا، وبذل الشكر له سبحانه عليها، ومعونة غيره بها؛ ففي الأكل والشرب: (كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ) [البقرة:60]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً) [البقرة:168]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) [البقرة:172].
وفي اللباس: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ) [الأنبياء:80]، (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمْ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) [النحل:81].
وفي الصدقة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ) [البقرة:254]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الأَرْضِ) [البقرة:267].
وقد فتح المجال للمسلم في هذه الأربعة المأمور بها في الحديث وهي: الأكل والشرب، واللباس والصدقة، ولكن بالتزام ضابطين لها، وهما في لفظ الحديث: "في غير إسراف، ولا مخيلة"، وفي رواية أخرى: "ما لم يخالطه إسراف أو مخيلة".
وليس التنصيص على هذه الأربعة في الحديث يجيز الإسراف والمخيلة في غيرها؛ كالمراكب والبيوت، والأثاث والحفلات، والأسفار ونحوها، فكلها يمنع من الإسراف والمخيلة فيها.
فالممنوع في كل ما يستهلكه الإنسان شيئان: الإسراف والمخيلة.
أما الإسراف هنا فهو: تجاوز الحد في الإنفاق.
وأما المخيلة فهي من الخيلاء، وهي التكبر بسبب ما يراه الإنسان مختصًا به دون غيره، وهذا يؤدي إلى الفخر، وهو المباهاة في الأشياء الخارجة عن الإنسان؛ كالمال والجاه، والمراكب واللباس، والحفلات ونحوها.
وقد جاء في القرآن النهي عن الإسراف وعن الخيلاء والفخر:
أما الإسراف: فجاء النهي عنه في آية المآكل والمشارب والملابس: (يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف: 31]، هذا في الملابس، (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) [الأعراف:31].
وفي الصدقة إسراف أيضًا؛ وذلك بأن ينفق الإنسان في تطوع، ويترك واجبًا، كمن يتصدق بماله كله، ويضيع من يعول، وقد أراد سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- أن يوصي بماله كله، فخفضه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الثلث، وقال: "والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها، حتى ما تجعل في في امرأتك". رواه الشيخان.
وفي عموم الإنفاق والاستهلاك جاء الميزان في القرآن بالاعتدال: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) [الفرقان:67].
وورد أن عبد الملك بن مروان قال لعمر بن عبد العزيز -وكان قد زوجه ابنته فاطمة-: "كيف نفقتك يا عمر؟! فقال: حسنة بين سيئتين"، وقد انتزع هذا المعنى من هذه الآية.
وأما الخيلاء والفخر والمباهاة بما يملكه الإنسان، ومحاولة إظهاره للناس، في لباس، أو مراكب، أو أثاث، أو احتفال، أو نحوه، فيخشى على صاحبه من مقت الله تعالى، وسلبه ما أنعم عليه، وقد دل على ذلك القرآن والسنة: (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً) [النساء:36]، وفي آية أخرى: (وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [الحديد:23].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بينا رجل فيمن كان قبلكم خرج في بردين أخضرين يختال فيهما، أمر الله الأرض فأخذته، وإنه ليتجلجل فيها إلى يوم القيامة". رواه أحمد.
نعوذ بالله تعالى من زوال نعمته، وتحول عافيته، وفجاءة نقمته، وجميع سخطه، ونسأله سبحانه العفو والعافية، والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه: (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ) [البقرة:123].
أيها المسلمون: بان لنا بهذا الحديث العظيم أن قاعدة الإنفاق على النفس والأهل والغير لا بد من ضبطها بأن تكون خالية من الإسراف والخيلاء، والغالب أن الإسراف يدعو للخيلاء؛ وذلك بأن يسرف الإنسان ليفاخر بما يملك وبما ينفق، كما أن الخيلاء سبب للإسراف؛ إذ لا يستطيع الإنسان أن يفاخر على من سواه إلا بالبذخ في مظهره، والإسراف في نفقته.
وهذا الحال المؤذي للنفس وللغير، المتخم بالفخر والخيلاء يتكرر كل عام في فصل الصيف، في مظاهر لا تدل على شكر النعم، ولا على حسن التدبير والتصرف.
مظاهر مشبعة بالفخر والخيلاء في حفلات تخرج البنين والبنات، ومبالغة في إظهار هذه الخيلاء، وليس المقصود إظهار الفرح، وإنما العلو على الناس، حفلات تستأجر لها قاعات أو استراحات، ويدعى لها الزملاء والزميلات، ولها رسوم ولباس وشعارات، وتحوي في الغالب جملة من المحرمات، وليس الاعتراض على ذات الاحتفال، فمن ذا الذي يجرؤ على منع التوسعة على الناس فيما أباح الله تعالى؛ لكن أن تنفق عليها عشرات الألوف، ويتسابق الناس على إحداث الغرائب فيها؛ ليتحدث الغير بها، فهذا هو الإسراف والفخر والخيلاء، وحب الظهور، والبحث عن الشهرة، وفي الناس محاويج لبعض ما ينفق في هذه الحفلات!
ومن أبصر تكاثر المحلات المختصة بتنظيم هذا النوع من الاحتفالات، وتنافسها في عرض أغرب الخدمات لزبائنها؛ علم انتشار هذا الوباء الاستهلاكي في الناس؛ فلولا أن سوقها رائجة، لما تكاثرت بهذا الشكل الملحوظ، حتى صار فيها تخصصات لتجهيز حفلات الأطفال، وأخرى لحفلات البنات... وهلم جرًّا.
ومن مظاهر الإسراف والخيلاء: حفلات الأعراس التي أرهقت الشباب؛ فكانت من أسباب عزوفهم عن الزواج، فامتلأت الدور بالفتيات، وأعظم النساء بركة أيسرهن مؤونة، كما جاء في الحديث، وأي مؤونة أعظم من أعراس هذه الأيام واحتفالاتها المبالغ فيها.
ومن مظاهر الإسراف والخيلاء: التباهي بالأسفار، وما ينفق فيها من طائل الأموال، فلم يعد السفر عند بعض الناس لغرض التغيير والاسترواح وتجديد النشاط، وإنما صار مجالاً للمفاخرة والمباهاة في وجهته ونفقته، والحديث عنه بعد عودته، ويعظم الإثم إن كان الإسراف في الإنفاق في بلاد الكفار، وعلى شهوات أكثرها محرم، ثم يفاخر أصحابها بها!
بل إن مظاهر الإسراف والخيلاء تجاوزت ذلك كله، حتى حلّت في مناسبات الموت والعزاء، فصار لها تجمعات وولائم في أفنية البيوت، تستمر أيامًا، وربما استؤجر لها فنادق واستراحات وصالات بقصد تجمع الناس فيها، ويعلن ذلك في الصحف وغيرها، فتكون مجمعًا للقيل والقال، وموضعًا للإسراف والخيلاء، حتى يقال: كان في عزاء آل فلان كذا وكذا، مع أن اجتماع الناس في موضع العزاء والإقامة فيه ليس مشروعًا، ومن العجيب أن يحول الناس المآتم إلى مفاخر، ومواضع الحزن والاعتبار إلى مجالس للتجمع والإسراف.
وبهذا ندرك البون الشاسع بين إرشاد هذا الحديث النبوي: "كلوا واشربوا، والبسوا وتصدقوا، في غير إسراف ولا مخيلة"، وبين ما عليه كثير من الناس اليوم، في مآكلهم ومشاربهم، وملابسهم ومراكبهم، وأسفارهم وأعراسهم، وسائر احتفالاتهم، ويخشى عليهم من سلب النعم، وحلول النقم؛ لأن كفر النعم يزيلها، كما أن شكرها يديمها ويزيدها: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم:7].
وصلوا وسلموا على نبيكم.
التعليقات