عناصر الخطبة
1/علاقة اللسان بالقلب والجوارح 2/ذم القيل والقال 3/صور من فضول الكلام 4/علاج فضول الكلام.اقتباس
واستقامةُ القلب مرتهنة باستقامة اللسان؛ حيث أنه ترجمان القلب، ولن نحافظَ على استقامة قلوبنا إلا باستقامة ألسنتنا؛ ففي الحديث الذي رواه الإمام أحمد: "لا يستقيم إيمانُ عبد حتى يستقيمَ قلبُه، ولا يستقيم قلبُه حتى يستقيم لسانُه"...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَنْ يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، وَمَنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أما بعدُ: فإنَّ خيرَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عبادَ اللهِ: هناك علاقة وثيقة بين القلب واللسان؛ ولذا من أَمثال العرب: "المرءُ بأصغريه؛ قلبِه ولسانِه"، ويقول الشاعر:
لسان الفتى نصفٌ ونصفٌ فؤادُهُ *** فلم يبقَ إلَّا صورة اللحم والدمِ
واستقامةُ القلب مرتهنة باستقامة اللسان؛ حيث أنه ترجمان القلب، ولن نحافظَ على استقامة قلوبنا إلا باستقامة ألسنتنا؛ ففي الحديث الذي رواه الإمام أحمد: "لا يستقيم إيمانُ عبد حتى يستقيمَ قلبُه، ولا يستقيم قلبُه حتى يستقيم لسانُه".
وعلاقةُ الجوارحِ كذلك باللسان وثيقةٌ؛ فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا أَصْبَحَ ابْنُ آدَمَ فَإِنَّ الأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ فَتَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ فِينَا؛ فإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ فَإِنِ اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا"(أخرجه الترمذي).
قال ابن القيم: "قولها: "إنما نحن بكَ": أَيْ: نجاتُنا بكَ، وهلاكُنا بكَ، ولهذا قالت: "فإن استقمتَ استقمنا، وإن اعوججتَ اعوججنا".
قال الغزالي مُبَيِّنًا معنى الحديث: "إنَّ نُطْقَ اللسانِ يؤثِّر في أعضاء الإنسان بالتوفيق والخذلان؛ فاللسانُ أشدُّ الأعضاءِ جماحًا وطغيانًا، وأكثرها فسادًا وعدوانًا".
أيها المسلمون: اللسان من نعم المنعم -سبحانه وتعالى- على عباده؛ فبه يستبين حال العبد في الإيمان والكفر والخير والشر، وبه يرتفع العبد أعلى درجات الجنان أو يكب صاحبه في دركات النيران؛ ففي حديث معاذ-رضي الله عنه-قوله -صلى الله عليه وسلم-: "وهل يكُبُّ الناسَ على مناخرهم في النار إلا حصائدُ ألسنتهم؟!"(رواه الترمذي).
ولهذا فإن فضول الكلام والقيل والقال مما كرهه اللهُ لعباده، كما في الحديث أنه قال: "إن الله كَرِهَ لكم ثلاثًا: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال".
وقد ذَمَّ اللهُ فضولَ الكلامِ والزيادةَ فيما لا يعني، قال -تعالى-: (لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ)[النساء: 114]، قال السعديُّ: "أَيْ: لا خيرَ في كثير مما يتناجى به الناسُ ويتخاطبون، وإذا لم يكن فيه خيرٌ؛ فإما لا فائدةَ فيه؛ كفضول الكلام المباح، وإما شرّ ومضرة محضة كالكلام المحرَّم بجميع أنواعه، ثم استثنى -تعالى- فقال: (إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ)".
والعاقل ينظر ويتأمل قبل أن ينطق ويزن ما يريد التحدث به بميزان الشرع؛ فإن كان ما سيقوله خيرا تحدث به، وإن كان شرا صمت استجابة للتوجيه النبوي الذي أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخِر فَلْيَقُلْ خيرًا أو ليصمت".
وقد أرشد الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- أمته على اغتنام الأوقات، وترك ما يضر ولا ينفع؛ في الحديث الذي أخرجه الترمذي وصححه الألباني من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "مِن حُسن إسلام المرء: تركُه ما لا يعنيه".
يقول الإمام الحافظ ابن عبد البر -رحمه الله-: "وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مِن حُسن إسلام المرء: تَرْكُهُ ما لا يعنيه" من الكلام الجامع للمعاني الكثيرة الجليلة في الألفاظ القليلة، وهو مما لم يَقُلْهُ أحدٌ قَبْلَهُ؛ لأنَّ مِنْ حُسْنِ إسلامِ المرءِ تركُ ما لا يعنيه من الأقوال والأعمال؛ إذ الإسلامُ يقتضي فعلَ الواجبات وتركَ المحرمات، وإذا حسُن الإسلامُ استلزم ذلك تركَ ما لا يعني من المشتبهات والمكروهات، وفضول المباحات وهو القَدْر الزائد على الحاجة"(التمهيد).
أيها الأحبة: من فضول الكلام المنتشرة بين الناس:
الإغراق في لغو الكلام والانشغال بما لا ينفع وتتبع أخبار الناس الخاصة والعامة، ولا شك أن هذا ليس من أخلاق أهل الإيمان اللذين قال الله في مدحهم: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ)[المؤمنون: 1-3]، و"(اللَّغْو) وهو الكلام الذي لا خيرَ فيه ولا فائدة، (مُعْرِضُونَ) رغبةً عنه، وتنزيهًا لأنفسهم، وترفُّعًا عنه، وإذا مروا باللغو مَرُّوا كِرَامًا، وإذا كانوا معرضينَ عن اللغو؛ فإعراضُهم عن المحرَّم من باب أَوْلَى وأحرى".
ومن المفسدات للقلب: حديث المرء في أمور لا يحسنها، قال ابن القيم -رحمه الله-: "وأما فضول الكلام فإنها تفتح للعبد أبوابًا من الشر، كلها مداخل للشيطان؛ فإمساك فضول الكلام يسدّ عنه تلك الأبوابَ كلَّها، وكم من حربٍ جرتها كلمةٌ واحدةٌ...، وأكثر المعاصي إنما يولِّدها فضولُ الكلامِ والنظر، وهما أوسعُ مداخلِ الشيطانِ؛ فإنَّ جَارِحَتَيْهِمَا لا يملانِ ولا يسأمانِ".
وقال عمر: "مَنْ كَثُرَ كلامُه كَثُرَ سقطُه، وَمَنْ كَثُرَ سقطُه كثرت ذنوبُه، ومن كثرت ذنوبُه كانت النارُ أَوْلَى به"، وقال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: "خَصْلَتَانِ تُقَسِّيَانِ القلبَ: كثرةُ الكلامِ، وكثرةُ الأكلِ"، وقال ابن القيم -رحمه الله-: "قسوةُ القلبِ من أربعة أشياء إذا جاوزت قدرَ الحاجة: الأكل، والنوم، والكلام والمخالَطَة".
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على مَنْ لا نبيَّ بعدَه، وآله وصحبه، وَمَنْ تَبِعَهُ، وبعدُ:
أيها المؤمنون: مَنِ ابتلي بفضول الكلام وكثرته، والقيل والقال، والكلام فيما لا ينفع؛ عليه أن يعلم خطورةَ هذا اللسان، وأن ما يتكلم به الإنسان مؤاخَذٌ به محاسَبٌ عليه، وَرُبَّ كلمةٍ هوى بها صاحبها في النار أبعدَ مما بين المشرق والمغرب، وعن بلال بن الحارث قال: قال رسول الله: "إن الرجل لَيَتَكَلَّمُ بالكلمة من رضوان الله -تعالى-، ما يظنُّ أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله -عَزَّ وَجَلَّ- له بها رضوانَه إلى يوم القيامة، وإن الرجل لَيَتَكَلَّمُ بالكلمة مِنْ سخطِ اللهِ -تعالى-، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله -تعالى- بها عليه سخطَه إلى يوم يلقاه"(أخرجه الترمذي)؛ ولذلك كان علقمة رحمه الله -وهو أحد رواة هذا الحديث- يقول: "كم من كلام أردتُ أن أتكلمَ به مَنَعَنِيهِ حديثُ بلال بن الحارث". فكان يمتنع عن كثير من الكلام حتى لا يسجَّل عليه قولٌ أو تُرْصَدَ عليه كلمةٌ من اللغو الذي لا فائدة فيه.
وتذكر -يا عبدالله- أن شهادة جوارحك عليك يوم القيامة؛ فعن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فضحك فقال: "هل تدرون مِمَّ أضحكُ؟"، قال: قلنا: اللهُ ورسولُه أعلمُ، قال: "مِنْ مُخَاطَبَةِ العبدِ رَبَّهُ؛ يقول: يا ربِّ، أَلَمْ تُجِرْنِي من الظلم؟ قال: يقول: بلى، قال: فيقول: فإني لا أُجِيزُ على نفسي إلا شاهدًا مني، قال: فيقول: كفى بنفسك اليومَ عليكَ شهيدًا، وبالكرام الكاتبين شهودًا، قال: فيُختم على فيه، فيقال لأركانه: انْطِقِي، قال: فتنطق بأعماله، قال: ثم يُخلَّى بينَه وبينَ الكلام، قال: فيقول: بُعدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا؛ فعنكن كنتُ أناضل"(رواه مسلم).
ومن ذلك: أن يشغل المرءُ لسانَه بِذِكْرِ اللهِ؛ فلسانُكَ إن لم تشغله بالحقِّ شَغَلَكَ بالباطل، عن عبد الله بن بسر -رضي الله عنه-: أنَّ رجلًا قَالَ: يَا رسولَ اللهِ، إنَّ شَرَائِعَ الإسْلامِ قَدْ كَثُرَتْ عَليَّ، فَأَخْبِرْنِي بِشَيءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ قَالَ: "لا يَزالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللهِ"(رواه الترمذي).
ومن العلاج: تذكر المصير والمعاد؛ يقول الغزالي -رحمه الله-: "وعلاج ذلك أن يعلَم أن الموتَ بين يديه، وأنه مسؤول عن كل كلمة، وأن أنفاسه رأس ماله، وأن لسانه شبكة يَقْدِرُ على أن يقتنصَ بها الحُورَ العِينَ؛ فإهمالُه ذلك وتضييعه خسران مبين".
أخي المسلم: إن التخلص من تلك الآفات الْمُفْسِدَةِ للقلب؛ من فضول النظر والسمع والكلام وغيرها... يكون بتوفيق الله -تعالى- أولًا، ثم بقوة إيمان المسلم، وفي نفس الوقت على المسلم الإخلاصُ لله -تعالى- في كل أفعاله، وأن يتيقن بالجزاء والحساب فلا يغفُل عن ذلك في جميع أحواله.
وصلُّوا وسلِّمُوا على الحبيب المصطفى (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
التعليقات