عناصر الخطبة
1/كثرة الضحك وموت القلب 2/النهي عن كثرة الضحك 3/ضحك النبي ومزاحه 4/آداب الضحك والمزاحاقتباس
إن العبد مأمور بالحفاظ على طهارة قلبه ونقائه وحياته، وحراسته مما يغويه ويفسده ويميته، وإن مما يفسد القلب ويذهب صفائه؛ كثرة الضحك، وذلك لأن حياة القلب في استعماله لِمَا خُلِقَ له من...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَنْ يهدِه اللهُ فلا مُضِلَّ له، وَمَنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]. أما بعدُ:
فإنَّ خيرَ الحديثِ كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
عبادَ اللهِ: إن العبد مأمور بالحفاظ على طهارة قلبه ونقائه وحياته، وحراسته مما يغويه ويفسده ويميته، وإن مما يفسد القلب ويذهب صفائه؛ كثرة الضحك، وذلك لأن حياة القلب في استعماله لِمَا خُلِقَ له من معرفة الله، والإقبال عليه، والسكون إلى ذِكْره، والتلذذ بمناجاته؛ فلا حياةَ له ولا إنارةَ إلا بهذا، وكثرة الضحك لا تنشأ إلا عن الإعجاب بالأمور الدنيوية، والسرور بها، ووفور محبتها، والرغبة فيها، والقلب لا يتَّسع إلا لمحبوب واحد.
وحسب الإفراط في الضحك أنه يقسي القلب؛ فلا يتلذذ صاحبه بصلاة ولا تلاوة ولا ذكر ولا مناجاة، قال معاذ بن جبل: "ثلاث مَنْ فعلهن فقد تعرَّض للمَقْت: الضحكُ من غير عَجَب، والنومُ من غير سَهَر، والأكلُ من غير جوع".
أيها الأَحِبَّةُ: قد جاء النهيُ من النبي -صلى الله عليه وسلم- عن كثرة الضحك؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ يَأْخُذُ مِنْ أُمَّتِي خَمْسَ خِصَالٍ، فَيَعْمَلُ بِهِنَّ، أَوْ يُعَلِّمُهُنَّ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ؟"، قَالَ: قُلْتُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: فَأَخَذَ بِيَدِي فَعَدَّهُنَّ فِيهَا، ثُمَّ قَالَ: "اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا، وَلاَ تُكْثِرِ الضَّحِكَ؛ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ"(أحمد والترمذي، صحيح الجامع).
قال المناوي: "تُصَيِّرُهُ مغمورًا في الظلمات بمنزلة الميت الذي لا ينفع نفسَه بنافعة، ولا يدفعُ عنها شيئًا من مكروه، وحياتُه وإشراقُه مادةُ كلِّ خير، وموتُه وظلمتُه مادةُ كلِّ شرٍّ، وبحياته تكون قوتُه وسمعُه وبصرُه وتصوُّر المعلومات وحقائقها على ما هي عليه"، وقال الصنعاني: "وذلك لأن كثرة الضحك تنشأ عن الفرح بالدنيا والسرور بها، وحياة القلب في عدم الأُنْس بالدنيا بل في طاعة الله والابتهاج بذِكْره وإدامة الفِكْر فيما يرضيه".
قال سعيد بن العاص لابنه: "اقتصد في مزاحك؛ فالإفراط فيه يُذهب البهاء، ويجرِّئ عليكَ السفهاءَ، وتركه يقبض المؤانسين، ويُوحش المخالطينَ"، وعن أبي جعفر قال: "إياكم وكثرةَ الضحك؛ فإنه يمج العلمَ مَجًّا"، وَقال بَعْضُ الْحُكَمَاء: "إيَّاكَ وَالْمَشْيَ فِي غَيْرِ أَدَبٍ، وَالضَّحِكَ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ".
أيها المؤمنونُ: فإن الضحك من الأمور التي فُطِر عليها الإنسان، ولم ينازعها الإسلام ما دامت ملتزمة بالآداب الشرعية؛ لكنه يقوِّم ذلك ويهذبه؛ بحيث لا يخرج عن التوسط فيه على قدر الحاجة منه، وأن لا يَسُوقَ المسلمَ إلى الحرام.
والمسلم أسوته محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ فقد كان يخالط أصحابه بالابتسامة والترحاب؛ كما روى عنه عبد الله بن الحارث قال: ما "رأيتُ أحدًا أكثرَ تبسُّمًا من رسول الله"، وفي رواية: "ما كان ضَحِكُ الرسولِ إلا تبسُّمًا"(أخرجه الترمذي).
وكان يمزح ولا يقول إلا حقًّا، تأتيه تلك المرأةُ العجوزُ فتقول له: ادعُ اللهَ أن يُدخلني الجنةَ، فقال لها: "يا أُمَّ فلان! إن الجنة لا يدخلها عجوزٌ"، فَبَكَتِ المرأةُ حيثُ أخذتِ الكلامَ علي ظاهره، فأفهمها أنها حين تدخل الجنةَ لن تدخلها عجوزًا، بل شابَّةً حسناءَ (إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا)[الواقعة: 35-37] (أخرجه الترمذي، وحسنه الألباني)، وجاء رجلٌ يسأله أن يحمله علي بعير، فقال له -عليه الصلاة والسلام-: "لا أحملكَ إلا علي ولدِ الناقةِ"، فقال: يا رسولَ اللهِ، وماذا أصنعُ بولد الناقة؟! فقال: "وهل تلد إلا النوق؟"(رواه الترمذي، وأبو داود).
قال الغزالي: "قد نُقِلَ المزاحُ عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه فكيف يُنْهَى عنه؟! فأقول: إن قدرتَ على ما قدر عليه رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وأصحابُه؛ وهو: أن تمزح ولا تقول إلا حقًّا، ولا تؤذي قلبًا، ولا تُفرِّط فيه، وتقتصر عليه أحيانًا على الندور؛ فلا حرجَ عليكَ فيه، ولكن مِنَ الغلطِ العظيمِ أن يتخذ الإنسانُ المزاحَ حرفةً يواظِب عليه، ويُفرِط فيه".
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على مَنْ لا نبيَّ بعدَه، وآله وصحبه، وَمَنْ تَبِعَهُ، وبعدُ:
أيها المؤمنون: إذا أراد المسلمُ أن يضحك ويمزح؛ فلا بد أن يتقيد بآداب الإسلام في ذلك؛ ومنها:
ألا يكون الكلام كَذِبًا؛ فقد ورَد عند البيهقي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن العبد ليقول الكلمةَ لا يقولها إلا ليُضحك بها المجلسَ يهوى به أبعدَ ما بين السماء والأرض"، وفي البخاري قال -صلى الله عليه وسلم-: "ويلٌ للذي يُحدِّث فيكذب ليُضحك به القومَ، ويل له، ويل له"، قال المناوي: "كرَّره إيذانًا بشدة هلكته؛ وذلك لأن الكذبَ وحدَه رأسُ كلِّ مذموم، وجماع كل فضيحة، فإذا انضم إليه استجلاب الضحك الذي يُميت القلبَ، ويجلب النسيانَ، ويُورث الرعونةَ؛ كان أقبحَ القبائحِ".
ومنها: ألا يشتمل على تحقير أو استهزاء أو سخرية من أحد، قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: "بِحَسْبِ امرئٍ من الشَّر أن يَحْقِرَ أخاه المسلمَ". روى ابن حبان عن أحد الصالحين يوصي ابنَه: "وإياكَ وهذرَ الكلام، وكثرةَ الضَّحِك والمزاح، ومهازلةَ الإخوان؛ فإن ذلك يُذهب البهاءَ، ويُوقع الشحناءَ"(روضة العقلاء).
لَا تَمْزَحَنَّ فَإِذَا مَزَحْتَ فَلَا يَكُنْ *** مَزْحًا تُضَافُ بِهِ إلَى سُوءِ الْأَدَبْ
وَاحْذَرْ مُمَازَحَةً تَعُودُ عَدَاوَةً *** إنَّ الْمُزَاحَ عَلَى مُقَدِّمَةِ الْغَضَبْ
ومن آدابه: ألا يؤدِّيَ إلى ترويعِ مسلمٍ؛ فعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي مَسِيرٍ، فَنَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ؛ فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى نَبْلٍ مَعَهُ فَأَخَذَهَا، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ الرَّجُلُ فَزِعَ، فَضَحِكَ الْقَوْمُ، فَقَالَ: "مَا يُضْحِكُكُمْ؟، فَقَالُوا: لَا، إِلَّا أَنَّا أَخَذْنَا نَبْلَ هَذَا فَفَزِعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا"(أحمد)؛ والسياق يدلّ على أن الذي فَعَلَ ذلك كان يمزح، وقد ورَد في الحديث عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: "لَا يَأْخُذْ أَحَدُكُمْ عَصَا أَخِيهِ لَاعِبًا أَوْ جَادًّا؛ فمَنْ أَخَذَ عَصَا أَخِيهِ فَلْيَرُدَّهَا إِلَيْهِ"(الترمذي).
ومن آدابه: ألا يكون في غير أحواله؛ كمواضع الجد ومجالس العلم والمدارسة؛ فالحكمة هي وضع الشيء في موضعه المناسب، (أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ)[النجم: 59-61].
عبادَ اللهِ: كان ابن عباس -رضي الله عنهما- يأخذ بلسانه ويقول: "ويحكَ! قُلْ خيرًا تَغْنَمْ، وَاسْكُتْ عن سوء تَسْلَمْ، وإلا فاعلم أنكَ ستندم"، وقال الفضيل بن عياض: "خصلتانِ تقسيانِ القلبَ: كثرةُ الكلامِ، وكثرةُ الأكلِ"، وقال ابن القيم: "قسوةُ القلبِ من أربعة أشياء إذا جاوزتَ قدر الحاجة: الأكل والنوم والكلام والمخالَطَة".
فعلى المسلم أن يحرص كلَّ الحرص على كلِّ ما يقربه من الله، ويبتعد كلَّ البُعْد عن كلِّ ما يُبعده من الله؛ فليس هناك مصيبة أعظم من المصيبة في الدِّين، وخسران الآخرة.
اللهم أصلح قلوبنا واملأها بحبك وحب دينك وحب لقائك، ولا تجعل فيها غلا للذين آمنوا.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا كلها صغيرها وكبيرها ما علمنا منها وما لم نعلم؛ إنك العلي الأكرم.
أَلَا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيب المصطفى (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
التعليقات