من معاني النصر

ناصر بن محمد الأحمد

2011-03-30 - 1432/04/25
التصنيفات: التربية
عناصر الخطبة
1/ نصر الله للمؤمنين 2/ مفهوم النصر 3/ صور من النصر 4/ النصر بالشهادة 5/ ثقة المؤمن بنصر الله 6/ أسباب تأخر النصر
اهداف الخطبة

اقتباس

وكم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته، ولو عاش ألف عام، كما نصرها باستشهاده، ويظن أعداؤه أنهم قد انتصروا عليه! وما كان يملك أن يُودِع القلوب من المعاني الكبيرة، ويحفز الألوف إلى الأعمال الخطيرة، بخطبة مثل خطبته الأخيرة، التي كتبها بدمه، لتبقى حافزاً ومحركاً للأبناء والأحفاد، وربما كانت حافزاً ومحركاً لخطى التاريخ كله مدى أجيال.

 

 

 

 

أما بعد: يقسم العلماء التوحيد إلى ثلاثة أقسام: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات؛ ومن معتقد أهل السنة والجماعة في معاني أسماء الله وصفاته أن الله لا يَخذل من توجّه إليه بصدق، وتوكل واعتمد عليه؛ فإنه لم يحصل في تاريخ البشرية منذ أن خلق الله هذه الأرض أن نبياً من الأنبياء، أو عالماً، أو داعيةً، أو مجاهداً، أو مجتمعاً، أو دولةً، أو غيرهم، توكلوا على الله، وصدقوا الله، واعتمدوا على الله، وتركوا جميع الناس من أجل الله، ثم خذلهم الله! هذا لا يعرف في التاريخ أبداً. 

بل من فهمنا لمعاني أسماء الله وصفاته أن كل من توكل على الله، واعتمد عليه، وترك من سواه من الخلق، فإن الله لا يخذله، بل سينصره، كما قال سبحانه: (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ) [الروم:47].

فإن هذا من معاني أسمائه وصفاته، فالله -عز وجل- بما له من الأسماء الحسنى، والصفات العُلى، كتب النصر والغلبة لأهل الحق من أوليائه الصالحين والمصلحين، وكتب المهانة والذلة على أعدائه من الكافرين والمنافقين، وهذه سنة لا تتخلف إلاّ إذا تخلفت أسبابها، (فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) [فاطر:43].

أيها المسلمون: لكنْ لهذا النصر صور عديدة، وليس النصر محصوراً في انتصار المعارك فحسب، بل قد يقتل النبيّ، أو يطرد العالم، أو يسجن الداعية، أو يموت المجاهد، أو تسقط الدولة؛ والمؤمنون منهم من يسام العذاب، ومنهم من يُلقى في الأخدود، ومنهم من يستشهد، ومنهم من يعيش في كرب وشدة واضطهاد، ومع ذلك يكون كل هؤلاء قد انتصروا، بل وحققوا نصراً مؤزراً، وتحقق فيهم قول الله تعالى: (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ).

ومن قَصَرَ معنى النصر على صورة واحدة وهي الانتصار في المعارك فحسب، لم يدرك معنى النصر في الإسلام، فمن أنواع النصر الذي وعد الله به عباده المؤمنين نصر العزة والتمكين في الأرض، وجعل الدولة والجولة للإسلام، كما نصر الله -عز وجل- داود وسليمان عليهما السلام، كما قال سبحانه: (وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَـاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَلْحِكْمَةَ) [البقرة:251]، وقال -عز وجل-: (فَفَهَّمْنَـاهَا سُلَيْمَـانَ وَكُلاًّ ءاتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً) [الأنبياء:79]، فجمع الله -عز وجل- لهذين النبيين الكريمين بين النبوة والحكم والملك العظيم.

وكذلك موسى -عليه السلام- نصره الله على فرعونَ وقومه، وأظهر الدين في حياته، كما قال سبحانه: (وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ) [الأعراف:137].

أما نبينا محمداً -صلى الله عليه وآله وسلم- فقد نصره الله نصراً مؤزراً، فما فارق النبي الدنيا حتى أقرّ الله -عز وجل- عينه بالنصر المبين، والعز والتمكين، بل جعل الله -عز وجل- النصر ودخول الناس في دين الله أفواجاً علامة قربِ أجل النبي فقال: (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَلْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِينِ اللَّهِ أَفْوجاً * فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ وَسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوبَا) [سورة النصر]، فما فارق النبي الدنيا حتى حكم الإسلام جزيرة العرب.

ثم فتح تلامذته من بعده البلاد شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، حتى استنارَ أكثرُ الأرض بدعوة الإسلام، وسالت دماء الصحابة في الأقطار والأمصار، يرفعون راية الإسلام، وينشرون دين الله -عز وجل-، حتى وقف عقبة بن عامر على شاطئ المحيط الأطلنطي وقال: "والله يا بحر! لو أعلم أن وراءك أرضاً تفتح في سبيل الله لخضتك بفرسي هذا".

وما كان يعلم -رضي الله عنه- أن وراء ذلكم البحر الأمريكتان، ولو كتب الله وخاض البحر ودخل المسلمون تلك البلاد لكان التاريخ شيئاً آخر، فشاء الله تعالى أن تقف خيول عقبة بن عامر على شاطئ الأطلنطي؛ لحكمة يعلمها سبحانه، لا يُسأل عما يفعل، وهم يُسألون.

وهذا الخليفة المسلم هارون الرشيد نظر إلى السحابة في السماء وقال لها: "أمطري حيث تشائين، فسوف يأتيني خراجك!".

لقد انتصر الإسلام -عباد الله- لما وجد الرجال الذين يقومون به، ويضحون من أجله، والله -عز وجل- يقول: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَـالِبُونَ) [الصافات:171-173].

ومن أنواع النصر -كذلك- عبادَ الله: أن يهلك الله -عز وجل- الكافرين والمكذبين، وينجي رسله وعباده المؤمنين، قال -عز وجل- حاكياً عن نوح -عليه السلام-: (فَدَعَا رَبَّهُ أَنّى مَغْلُوبٌ فَنتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوبَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى المَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لّمَن كَانَ كُفِرَ) [القمر:10-14]. ولما نصر الله -عز وجل- هوداً وصالحاً ولوطاً وشعيباً -عليهم الصلاة والسلام-، أهلك الله -عز وجل- الكافرين والمكذِّبين، وأنجى رسله وعباده المؤمنين.

النوع الثالث من النصر هو انتصار العقيدة والإيمان، وهو أن يَثْبُت المؤمنون على إيمانهم، وأن يضحوا بأبدانهم؛ حماية لأديانهم، وأن يؤثروا أن تخرج أرواحهم ولا يخرج الإيمان من قلوبهم، فهذا نصر للعقيدة، ونصر للإيمان.

فنبي الله إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- يلقى في النار فلا يرجع عن عقيدته، ولا عن الدعوة إليها. أكان في موقف نصر أم في موقف هزيمة؟ ما من شك في منطق العقيدة أنه كان في قمة النصر وهو يلقى في النار، مع أن الذين ألقوه في النار يرون أنفسهم قد هزموه؛ كما أنه انتصر مرة أخرى، وهو ينجو من النار! هذه صورة وتلك صورة، وهما في الظاهر بعيد من بعيد، فأما في الحقيقة فهما قريب من قريب!.

وهذا خبر الغلام في قصة أصحاب الأخدود حين عجز الملك عن قتله فقال له: إنك لستَ بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به. وانظر إلى عزة الإسلام وهو يقول للملك: ما آمرك به! قال: ما هو؟ قال: تجمعُ الناس في صعيد واحد، وتصلُبني على جذع، ثم خذ سهماً من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: باسم اللهِ ربِّ الغلام، ثم ارمني. فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني.

فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع، ثم أخذ سهماً من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: باسم الله ربِّ الغلام، ثم رماه فوقع السهم في صُدغه، فوضع يده في صُدغه في موضع السهم، فمات.

فقال الناس: آمنا بربِّ الغلام! آمنا بربِّ الغلام! فأُتي الملك فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر؟ قد والله نزل بك، قد آمن الناس!.

فانظروا كيف ضحى هذا الغلام بحياته من أجل الدعوة، وهذا ما يجب على الدعاة إلى الله -عز وجل-، أن لا يبخلوا بشيء في سبيل نشر دعوتهم، ولو أنفقوا حياتهم ثمناً لإيمان الناس، فقد مضى الغلام إلى ربه، إلى رحمته وجنته، وآمن الناس بدعوته؛ عند ذلك أمر الملك بحفر الأخاديد في أفواه السكك وأضرم فيها النيران وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها، ففعلوا، حتى جاءت امرأة، ومعها صبي، فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أماه اصبري! فإنك على الحق.

وسجل الله -عز وجل- لنا في كتابه الخالد خاتمة القصة، وعاقبة الفريقين في الآخرة، فقال -عز وجل-: (قُتِلَ أَصْحَـابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِلْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِى لَهُ مُلْكُ السَّمَـاوتِ وَلأَرْضِ وَللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْء شَهِيدٌ * إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَلْمُؤْمِنَـاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ * إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّـالِحَـاتِ لَهُمْ جَنَّـاتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَـارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) [البروج:4-11].

أيها المسلمون: وقافلة الإيمان تسير يتقدمها الأنبياء الكرام، والصديقون، والشهداء: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَـاهَدُواْ اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً) [الأحزاب:23]، ما جفت الأرض من دماء الشهداء في عصر من العصور، ولا خلت الأرض من مخلص يقدم للأمة نموذجاً، فيموت هو، وينتشر الخير بعده بسببه.

فهذا صاحب الظلال -رحمه الله- كان قتله انتصاراً لمنهجه الذي عاش من أجله ومات في سبيله، بذل حياته كلها من أجل أن يبين أن الحكم من أمور العقيدة والتحاكم إلى غير شرع الله، والحكم بغير حكمه كفر بالله -عز وجل-: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ، أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ) [يوسف:40]، وقال تعالى: (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَـافِرُونَ) [المائدة:44]، وبعد أن حُكم عليه بالإعدام، وقبل أن ينفذ فيه الحكم الظالم، كتب هذه الأبيات، وكتب الله -عز وجل- لها الحياة، وخرجت من وراء القضبان، تقول للعالم:

أَخِي أَنْتَ حُـرٌّ وَراءَ السُّدُودْ *** أَخِي أنتَ حُرٌّ بِتِلْكَ القُيُــودْ
إذا كنـْتَ بـاللهِ مُسْتَعْصِمَـاً *** فمَاذا يُضِيرُكُ كَيْـدُ العَبِيــدْ
أخِـي سَتَبِيدُ جُيُوشُ الظَّـلام *** ويُشْرِقُ فِي الكَوْنِ فَجْرٌ جَدِيدْ
أخِي إنْ نَمُتْ نَلْـقَ أحْبَابنَـا *** فَرَوْضَاتُ رَبِّي أُعِـدَّتْ لَنَـا
وأطْيَارُهـا رَفْرَفَتْ حَوْلَنَـا *** فطُوبى لنَا فِي دِيَارِ الخُلـودْ
أخي إنْ ذَرَفْتَ عَلَيَّ الدُّمُوعْ *** وبلَّلْتَ قَبْرِي بها في خُشُـوعْ
فأوقِدْ لهُمْ مِنْ رُفَاتي الشُّمُوعْ *** وسِيروا بِها نَحْوَ مَجْدٍ تَلِيـدْ

فرحمةُ الله على صاحب الظلال ورحماته! قال عنه أحد الشيوعيين وهو في سجنه: إنني أتمنى أن أُقتل كما قتل، ويُنشر مبدئي وكتبي كما انتشرت كتبه. نعم، لقد وجدنا مطابع النصارى في لبنان تسارع إلى طباعة ونشر كتبه بعدما قتل من أجلها، وهذا ما قصده -رحمه الله- عندما قال: إن كلماتِنا وأقوالَنا تظل جثثاً هامدة، حتى إذا متنا في سبيلها، وغذيناها بدمائنا، عاشت وانتفضت بين الأحياء.

إنه نصر. وأيّ نصر؟! إنه أعظم وأجلّ من انتصارات كثير من المعارك، والتي سرعان ما تنتهي بانتهائها؛ أما هذا النصر فإنه يبقى ما شاء الله أن يبقى.

وكم من شهيد ما كان يملك أن ينصر عقيدته ودعوته، ولو عاش ألف عام، كما نصرها باستشهاده، ويظن أعداؤه أنهم قد انتصروا عليه! وما كان يملك أن يُودِع القلوب من المعاني الكبيرة، ويحفز الألوف إلى الأعمال الكبيرة، بخطبة مثل خطبته الأخيرة، التي كتبها بدمه، فتبقى حافزاً ومحركاً للأبناء والأحفاد، وربما كانت حافزاً ومحركاً لخطى التاريخ كله مدى أجيال.

نوع رابع من أنواع انتصار المؤمنين: أن يحمي الله -عز وجل- عباده المؤمنين من كيد الكافرين، كما قال تعالى: (وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَـافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) [النساء:141]، وكما قال -عز وجل- لنبيه : (وَللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة:67].

وجاء في السيرة المباركة كيف عصمه الله -عز وجل- من الرجل الذي رفع عليه السيف وقال: من يعصمك مني؟ فقال: "الله"، فارتجف الرجل، وسقط السيف من يده. وقصة الشاه المسمومة التي أنطقها الله -عز وجل-، وأخبرت النبي بأنها مسمومة. وقصة إجلاء بني النضير. ونزول جبريل وميكائيل يوم أحد يدافعان عن شخص النبي .

وهل سمعتم -أيها الأحبة- عن يوم الرجيع؟ هل تعرفون عاصم بن ثابت؟ بعث النبي سرية عيناً، وأمّر عليهم عاصم بن ثابت، فانطلقوا، حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة ذُكروا لحيّ من هذيل يقال لهم "بنو لحيان"، فتبعوهم بقريب من مائة رامٍ، فاقتصوا آثارهم حتى أتوا منـزلاً نزلوه، فوجدوا فيه نوى تمر تزودوه من المدينة، فقالوا: هذا تمر يثرب، فتبعوا آثارهم حتى لحقوهم، فلما انتُهي إلى عاصم وأصحابه لجؤوا إلى مكان مرتفع، وجاء القوم فأحاطوا بهم، فقالوا: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا لا نقتل منكم رجلاً. فقال عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، اللهم أخبر عنّا نبيك، فقاتَلوهم حتى قَتلوا عاصماً في سبعة نفر بالنبل، وبعثت قريش إلى عاصم ليؤتوا بشيء من جسده يعرفونه، وكان عاصم قد قتل عظيماً من عظمائهم يوم بدر، فبعث الله عليه مثل الظُّلة من الدبر، فحمته من رسلهم، فلم يقدروا منه على شيء.

وكان عاصم بن ثابت قد عاهد الله أن لا يمسه مشرك، ولا يمس مشركاً أبداً، فكان عمر يقول: يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته كما حفظه في حياته.

فكان عاصم مدافعاً أول النهار عن دين الله، ودافع الله -عز وجل- عن جسده آخر النهار، فلم يمسه مشرك.

فإن قال قائل: لماذا لم يمنعهم الله -عز وجل- من قتله كما منعهم من الوصول إلى جسده بعد قتله؟ فالجواب: إن الله -عز وجل- يحب أن يرى صدق الصادقين، ويحب أن يرى عباده المؤمنين وهم يبذلون أنفسهم لله -عز وجل-، فيبوئهم منازل الكرامة، ويزيدُهم من فضله، فالله -عز وجل- أراد أن يشرّفه بدرجة الشهادة، فلم يمنعهم من قتله، ثم حمى الله -عز وجل- جسده من أن يمسه مشرك. فهذه صورة من صور النصر، ولو انتهت بموت وقتل صاحبه.

نوع خامس من النصر الذي ينصر الله -عز وجل- به عباده المؤمنين: نصر الحُجة كما قال تعالى: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتَيْنَـاهَا إِبْرهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَـاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) [الأنعام:83]، والرفع هو الانتصار، وكما قال النبي: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك". فهذا الظهور أدناه أنه ظهور حجة وبيان، وقد يكون معه ظهور دولة وسلطان.

أيها المسلمون: هذه أنواع من النصر كلها تدخل في وعد الله -سبحانه وتعالى-: (وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ) [الروم:47]، ولكن النصر الذي بشرنا الله -عز وجل- به، وبشرنا به رسوله هو النصر الأول، وهو نصر التمكين والظهور، قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِلْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [الصف:9].

وقال النبي: "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر، إلا أدخله الله هذا الدين، بعِز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل به الكفر"، وقال: "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكُها ما زُوي لي منها". وعن أبي هريرة أن رسول الله قال: "لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي خلفي تعال فاقتله. إلا الغرقد؛ فإنه من شجر اليهود".

ونقرأ هذه الأحاديث تحقيقاً لوعد الله ووعد نبينا -صلى الله عليه وسلم-. ونحن بانتظار الشمس أن تشرق، وهذا الليل أن ينجلي، وذلكم الصبح أن يتنفس.

صُـبْحٌ تنفَّسَ بالضِّياءِ وأشرَقَا *** والصَّحْوةُ الكُبْرَى تهُزُّ البَيْرَقَا
وشَـبِيبةُ الإسْـلامِ هذا فيْلَـقٌ *** في سـاحةِ الأمجَـاد يَتْبَعُ فَيْلَقَـا
وقَوافِل الإيمـانِ تتَّخِذُ المـــدى *** ضَرباً و تصْنَعُ للمُحِيـط الزَّوْرَقا
مَا أمْرُ هَذي الصَّحْوَةُ الكُبْرَى سِوَى *** وعْدٍ من اللهِ الجليـلِ تحقَّقَا
هـي نخْلَةٌ طابَ الثِّرَى فنَمَـا لَها *** جِذْعٌ طويلٌ في التُّرَابِ وأعذُقا
هي في رياضِ قلوبِنَا زيتُونـةٌ *** في جِذْعِها غُصْنُ الكَرَامَةِ أورَقَـا
فجْرٌ تدفَّقَ مَنْ سَيَحْبِسُ نورَه؟! *** أرِني يَدَاً سـدَّتْ عَلَيْنَا المشْرِقـا

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية:
 

 

 

 

أما بعد:

أيها المسلمون، إن الثقة بنصر الله، وعونه، ووعده الحق لمن جاهد في سبيله، هي زاد الطريق، ومفتاح الأمل، ونور الأجيال الإسلامية التي تبصر بها آفاق الرحلة، وتبقى لحظة النصر وبشارة التمكين حية شاخصة في رؤى المجاهدين ومشاعرهم؛ وإن من فقد هذه الثقة بالله ونصره، فقد خسر خسراناً مبيناً، ومن تشكك فيها لحظة، فقد تأخر عليه النصر على قدرها، (مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِى الدُّنْيَا وَلآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ * وَكَذلِكَ أَنزَلْنَـاهُ ءايَـاتٍ بَيّنَـاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يُرِيدُ) [الحج:15-16].

أيها المسلمون، من كان يشك في نصر الله لأوليائه فليقرأ قول الله تعالى: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَلَّذِينَ ءامَنُواْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَـادُ) [غافر:51]، وقوله سبحانه: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءوهُم بِلْبَيّنَاتِ فَنتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنينَ) [الروم:47]، وقوله -عز وجل-: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَـارَةٍ تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَـاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْولِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّـاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَـارُ وَمَسَـاكِنَ طَيّبَةً فِى جَنَّـاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مّن اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [الصف:10-13]، وقوله سبحانه: (ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد:7]، وقوله تعالى: (ذلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِىَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) [الحج:60].

أيها المسلمون: إن نصر الله جل وعز متحقق لمن يستحقونه، وهم المؤمنون الذين يثبتون حتى النهاية، الذين يثبتون على البأساء والضراء، الذين يصمدون للزلزلة، الذين لا يحنون رؤوسهم للعاصفة، الذين يستيقنون أن لا نصر إلا نصر الله، وعندما يشاء الله، وحتى حين تبلغ المحنة ذروتها فهم يتطلعون فحسب إلى نصر الله، لا إلى أي حل آخر، ولا إلى نصر لا يجيء من عند الله، ولا نصر إلا من عند الله.

ومع ذلك نقول: إن من سنن الله تعالى أن النصر قد يتأخر، ولو كان أهله مسلمون وأعداؤهم كفار وذلك لأسباب. منها أن البنية للأمة لم تنضج بعد، ولم يتم بعد تمامها، ولم تُحشد بعد طاقاتها، ولم تتحفز كل خلية وتتجمع لتعرف أقصى المذخور فيها من قوى واستعدادات، فلو نالت النصر حينئذٍ لفقدته وشيكاً؛ لعدم قدرتها على حمايته طويلاً؛ لأن النصر السريع الهين اللين، سهل فقدانه وضياعه، لأنه رخيص الثمن؛ لم تُبذل فيه تضحيات عزيزة.

ومن الأسباب أيضاً أنه قد يتأخر النصر لتزيد الأمة المؤمنة صلتها بالله، وهي تعاني وتتألم وتتأذى وتبذل، ولا تجد لها سنداً إلا الله، ولا ملجأً إلا إليه، وهذه الصلة هي الضمانة الأولى لاستقامتها على المنهج الصحيح بعد النصر عندما يتأذن به الله، فلا تطغى ولا تنحرف عن الحق والعدل والخير الذي نصرها الله به.

وقد يتأخر النصر أيضاً لأن الأمة المؤمنة لم تتجرد بعد في كفاحها وبذلها وتضحياتها لله ولدعوته، فهي تقاتل لمغنم تحققه، أو تقاتل حمية لذاتها، أو تقاتل شجاعة أمام أعدائها؛ والله يريد أن يكون الجهاد له وحده، وفي سبيله، بريئاً من المشاعر الأخرى التي تلابسه، وقد سئل النبي -صلى الله عليه وسلم-: الرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل شجاعة، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فأيها في سبيل الله؟ فقال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" متفق عليه.

وقد يتأخر النصر أيضاً لأن الباطل الذي تحاربه الأمة المؤمنة لم ينكشف زيفه للناس تماماً، فلو غلبه المؤمنون حينئذٍ فقد يجد الباطل له أنصاراً من المخدوعين فيه لم يقتنعوا بعْدُ بفساده وضرورة زواله، فتظل له جذور في نفوس الأبرياء الذين لم تنكشف لهم الحقيقة، فيشاء الله أن يبقى الباطل مدة من الزمن حتى يتكشف عارياً للناس، وإذا ما ذهب فإنه يذهب غير مأسوف عليه.

وقد يتأخر النصر أيضاً لأن البيئة لا تصلح بعْدُ لاستقبال الحق والخير والعدل الذي تمثله الأمة المؤمنة؛ فلو انتصر حينئذٍ للقيت معارضة من البيئة حولها لا يستقر معها قرار، فيظل الصراع قائماً حتى تتهيأ النفوس من حوله لاستقبال الحق الظافر ولاستبقائه.

أيها المسلمون: من أجل هذا كله، ومن أجل غيره، مما يعلمه الله ولا نعلمه نحن، قد يتأخر نصر الله، فتتضاعف التضحيات، وتتضاعف الآلام، وتتضاعف معها الأجور، وفي كل ذلك خير؛ مع دفاع الله عن الذين آمنوا، وتحقيق النصر لهم في النهاية: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّـاهُمْ فِى الأرْضِ أَقَامُواْ الصَّلَوةَ وَاتَوُاْ الزَّكَـوةَ وَأَمَرُواْ بِلْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَـاقِبَةُ الاْمُورِ * وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَـابُ مَدْيَنَ وَكُذّبَ مُوسَى فَأمْلَيْتُ لِلْكَـافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ * فَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَـاهَا وَهِىَ ظَالِمَةٌ فَهِىَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِى الأرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ ءاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الاْبْصَـارُ وَلَـاكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ * وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِلْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ * وَكَأَيّن مّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِىَ ظَـالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَىَّ الْمَصِيرُ) [الحج:40-48].

 

 

 

 

 

 

المرفقات
من معاني النصر.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life