السؤال
كانت عائلتي مجتمعة مع جدي، فقلت لهم: إن إطالة البنطال إلى ما بعد الكعب حرام، فما زادهم ذلك إلا ضحكًا واستهزاء, وهم يُرجعون كل ذلك إلى المتشددين في الدين, فعندما أقول لأمي مثلًا: إن المعازف حرام، تقول: يجب أن تكون منفتحًا لذلك, ويؤدي ذلك إلى إثارة توترات وخصومات بيني وبينهم، فهل يسقط عنيّ إنكار المنكر؟ خصوصًا أني أفتقد إلى الأحاديث لإقناعهم، وذات مرة قلت لهم: إن الإسبال حرام، فغضب أبي, وقال لي: إن كل ما حرم في القرآن - وهذا خطأ بالطبع, جزاكم الله خيرًا -.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على كل مسلم بحسب قدرته, ولا يسقطه عدم حفظ الأدلة ما دمت تثق بحرمة ما أنكرته, واختلف هل يسقط عند التأكد من عدم استجابة من تنهاهم أم لا, وإذا كان المنكر واقعًا في أسرتك فيجب عليك تعليمهم, ونهيهم عن المنكر برفق وحكمة, وتحذيرهم مما يوقع في سخط الله تعالى, ولا يمنعك من ذلك استغرابهم لما يجهلون, واستهزاؤهم, فالمسلم لا بد له أن يقول الحق، ولو كره الناس ذلك، ويصبر على ما يلقاه من استهزاء واستغراب, ويتأكد الأمر إذا كان لا يوجد في المجتمع أو في الأقارب من يعلم تحريم المنكر, فقد قال الله تعالى: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُور [لقمان:17] وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع أصحابه على قول الحق في كل حال كما في الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره, وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم.
قال النووي - رحمه الله - في شرحه: معناه: نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر في كل زمان ومكان، الكبار والصغار، لا نداهن فيه أحدًا، ولا نخافه إلا هو، ولا نلتفت إلى الأئمة، ففيه القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأجمع العلماء على أنه فرض كفاية، فإن خاف من ذلك على نفسه أو ماله أو على غيره، سقط الإنكار بيده، ووجبت كراهته بقلبه، هذا مذهبنا ومذهب الجماهير، وحكى القاضي هنا عن بعضهم أنه ذهب إلى الإنكار مطلقًا في هذه الحالة وغيرها. انتهى
ويشترط في المُنكر أن يكون عالمًا بتحريم ما ينكر, ولا يشترط حفظه للأدلة, قال الخرشي في شرح المختصر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفاية بشروط: أن يكون الآمر عالمًا بالمعروف والمنكر؛ لئلا ينهى عن معروف يعتقد أنه منكر، أو يأمر بمنكر يعتقد أنه معروف، وأن يأمن أن يؤدي إنكاره إلى منكر أكبر منه, مثل أن ينهى عن شرب خمر فيؤدي إلى قتل نفس ونحوه، وأن يعلم أو يظن أن إنكاره يزيل المنكر, وأن أمره بالمعروف مؤثر فيه ونافع, وبفقد الشرطين الأولين يحرم الأمر والنهي، وبفقد الثالث يسقط الوجوب ويبقى الجواز أو الندب, والمشهور عدم اشتراط العدالة, وإذن الإمام.
ابن ناجي: ويشترط ظهور المنكر من غير تجسس, ولا استراق سمع, ولا استنشاق ريح, ولا بحث عما أخفى بيد, أو ثوب, أو حانوت فإنه حرام. اهـ
وما ذكره الخرشي من اشتراط أن يعلم أو يظن أن إنكاره يزيل المنكر مختلف فيه, فقد ذهب جمع من أهل العلم إلى أنه لا يسقط وجوب الإنكار بعدم قبول المنصوح نصح من أمره أو نهاه؛ لأن الناهي يقوم بما أوجب الله عليه من النهي عن المنكر معذرة إلى ربه, أو ليهتدي المنهي، ويدل لهذا قول الله في شأن من نهوا عن الصيد يوم السبت: وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ {الأعراف: 164}, وقال النووي في شرحه على صحيح مسلم: قال العلماء - رضي الله عنهم -: ولا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكونه لا يفيد في ظنه، بل يجب عليه فعله؛ فإن الذكرى تنفع المؤمنين، وقد قدمنا أن الذي عليه الأمر والنهي لا القبول. اهـ.
وخالف في هذا جمع منهم, فرأوا عدم وجوب النهي إن ظن عدم الإفادة, فقد ذكر ابن عبد السلام في قواعده أنه لا يجب الإنكار عند اليأس من الاستجابة, وإنما يكون مستحبًا, وذكر كذلك أنه لا ينكر على من يرى حلية المنكر إلا إذا كان مأخذه ضعيفًا قال - رحمه الله تعالى -: فإن علم الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن أمره ونهيه لا يجديان ولا يفيدان شيئًا, أو غلب على ظنه, سقط الوجوب لأنه وسيلة ويبقى الاستحباب, والوسائل تسقط بسقوط المقاصد, وقد كان صلى الله عليه وسلم يدخل إلى المسجد الحرام وفيه الأنصاب والأوثان ولم يكن ينكر ذلك كلما رآه, وكذلك لم يكن كلما رأى المشركين ينكر عليهم, وكذلك كان السلف لا ينكرون على الفسقة والظلمة فسوقهم وظلمهم وفجورهم كلما رأوهم, مع علمهم أنه لا يجدي إنكارهم, وقد يكون من الفسقة من إذا قيل له: اتق الله أخذته العزة بالإثم, فيزداد فسوقًا إلى فسوقه, وفجورًا إلى فجوره , فمن أتى شيئًا مختلفًا في تحريمه معتقدًا تحريمه وجب الإنكار عليه لانتهاك الحرمة, وذلك مثل اللعب بالشطرنج, وإن اعتقد تحليله لم يجز الإنكار عليه إلا أن يكون مأخذ المحلل ضعيفًا تنقض الأحكام بمثله لبطلانه في الشرع, إذ لا ينقض إلا لكونه باطلًا, وذلك كمن يطأ جارية بالإباحة معتقدًا لمذهب عطاء فيجب الإنكار عليه, وإن لم يعتقد تحريمًا ولا تحليلًا أرشد إلى اجتنابه من غير توبيخ ولا إنكار. اهـ
وقال القرافي في الفروق: إذا رأينا من فعل شيئًا مختلفًا في تحريمه وتحليله, وهو يعتقد تحريمه أنكرنا عليه; لأنه منتهك للحرمة من جهة اعتقاده, وإن اعتقد تحليله لم ننكر عليه لأنه ليس عاصيًا; ولأنه ليس أحد القولين أولى من الآخر, ولكن لم تتعين المفسدة الموجبة لإباحة الإنكار إلا أن يكون مدرك القول بالتحليل ضعيفًا جدًا ينقض قضاء القاضي بمثله لبطلانه في الشرع ,كواطئ الجارية بالإباحة معتقدًا لمذهب عطاء, وشارب النبيذ معتقدًا مذهب أبي حنيفة, وإن لم يكن معتقدًا تحريمًا, ولا تحليلًا, والمدارك في التحريم والتحليل متقاربة أرشد للترك برفق من غير إنكار وتوبيخ; لأنه من باب الورع المندوب, والأمر بالمندوبات والنهي عن المنكرات هكذا شأنهما الإرشاد من غير توبيخ. اهـ
وراجع للمزيد من كلام أهل العلم في هذا الفتوى رقم: 180123.
وبناء عليه, فننصحك بمواصلة النصح لأقاربك الذين يرتكبون المنكر, وأن تقوم بنصحهم وتوجيههم بأسلوب اللين والرفق والكلمة الطيبة حتى يستجيبوا لك, وحذرهم من عذاب الله, وذكرهم بما أعد الله للعصاة - لعلهم ينتفعون بذلك, ويقلعون عن المنكر -.
وينبغي في خطاب الوالدين أن تحرص على الرفق بهما, وخفض الجناح لهما, وتذكيرهما بما لهما من عظيم الأجر في حض العيال على التمسك بما يرضي الله تعالى, كما في حديث البخاري: لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك من حمر النعم.
وعليه أن يبتعد عن إغضابهما, فإذا غضبا سكت عنهما حتى يجد فرصة أخرى لكلامهما, أو يستعين عليهما بمن يمكنه إقناعهما من الأقارب, وقد ذكرنا بالفتوى رقم: 18216, والفتوى رقم: 109767. قول القرافي في الفروق: أن الوالدين يؤمران بالمعروف وينهيان عن المنكر، قال مالك: ويخفض لهما في ذلك جناح الذل من الرحمة. انتهى.
وسئل الحسن عن الولد يحتسب على الوالد؟ قال: يعظه ما لم يغضب، فإن غضب سكت عنه.
وفي حاشية ابن عابدين (رد المحتار) (4/ 78): [فرع] في فصول العلامي: إذا رأى منكرا من والديه يأمرهما مرة، فإن قبلا فبها، وإن كرها سكت عنهما، واشتغل بالدعاء والاستغفار لهما، فإن الله تعالى يكفيه ما أهمه من أمرهما . انتهى.
وجاء في كتاب الآداب الشرعية لابن مفلح: فصل في أمر الوالدين بالمعروف ونهيهما عن المنكر، قال أحمد في رواية يوسف بن موسى: يأمر أبويه بالمعروف وينهاهما عن المنكر، وقال في رواية حنبل: إذا رأى أباه على أمر يكرهه يعلمه بغير عنف ولا إساءة, ولا يغلظ له في الكلام، وإلا تركه، وليس الأب كالأجنبي. انتهى.
ثم إن الأولى أن تتجنب في البداية الكلام معهم حال اجتماعهم , وأن تركز على القيام بما تيسر من الدعوة الفردية, واطلاعهم على بعض النشرات والمطويات, والأشرطة والكتب الصغيرة التي تتحدث عن مثل هذه المواضيع؛ فبذلك تسلم - إن شاء الله - من التوترات التي ذكرت حصولها, وعليك بالاستعانة بالله تعالى, والتضرع إليه أن يهديهم, فقد تكلم شخصًا فينفر من نصحك, وإذا دعوت الله له استجاب الله تعالى دعاءك, وجعله يستجيب لنصحك، وينتهي عما نهيته عنه، ففي صحيح مسلم وغيره عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة, فدعوتها يومًا فأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، قلت: يا رسول الله, إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى عليّ, فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اهد أم أبي هريرة, فخرجت مستبشرًا بدعوة نبي الله صلى الله عليه وسلم، فلما جئت فصرت إلى الباب فإذا هو مجاف, فسمعَتْ أمي خشف قدمَيَّ, فقالت: مكانك يا أبا هريرة، وسمعْتُ خضخضة الماء، قال: فاغتسلَتْ ولبست درعها, وعجلت عن خمارها, ففتحت الباب, ثم قالت: يا أبا هريرة, أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، قال: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته وأنا أبكي من شدة الفرح، قال: قلت: يا رسول الله, أبشر, قد استجاب الله دعوتك, وهدى أم أبي هريرة، فحمد الله وأثنى عليه، وقال خيرًا ـ إلى آخر الحديث..
وراجع في تحريم المعازف والإسبال وبعض الأحاديث الواردة في ذلك الفتاوى التالية أرقامها: 197679- 128638 - 66001 .
وراجع بيان وسائل ومراتب وشروط وضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 36372 ، 128990 ، 17092 ، 38424 ، 26058 ، 12161 ، 22063 .
والله أعلم.
التعليقات