عناصر الخطبة
1/ أثر الصراحة في حياة الفرد والمجتمع 2/ اتصاف المؤمنين بالصراحة وحبهم لها ولأهلها 3/ نماذج رائعة في الصراحة 4/ حاجة المسلمين للصراحة 5/ الصراحة في النصيحة وعدم الغش فيهااهداف الخطبة
اقتباس
الصراحة والوضوح من شيم أصحاب النفوس الكبيرة التي تحترم نفسها, وتأبى عليها إلا القول بالحقيقة والبعد عن الغموض, ويرفضون النفاق بكلِّ أشكاله وألوانه, ولا يستخدمون التقية ولا التورية في...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيا عباد الله: إن أساس العلاقات الناجحة بين أفراد الأسرة, وأبناء المجتمع على كلِّ المستويات, هو الصراحة, فبها تطمئنُّ القلوب, وترتاح النفوس, وهي مفتاح لحلِّ أكثر المشاكل.
الصراحة والوضوح من شيم أصحاب النفوس الكبيرة التي تحترم نفسها, وتأبى عليها إلا القول بالحقيقة والبعد عن الغموض, ويرفضون النفاق بكلِّ أشكاله وألوانه, ولا يستخدمون التقية ولا التورية في أحاديثهم.
يا عباد الله: الصراحة والوضوح من صفات وأخلاق المؤمنين؛ لأن الإيمان لا يستقيم في القلب إلا إذا صدق اللسان, أخرج الإمام أحمد في مسنده عن أنس بن مالك -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: "لا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ, وَلا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ, وَلا يَدْخُلُ رَجُلٌ الْجَنَّةَ لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ".
فإذا أردت استقامة الإيمان فعليك باستقامة القلب, واستقامة القلب لا تكون إلا باستقامة اللسان, ومن استقامة اللسان الصراحة.
كن صريحاً, وخاصة إذا كنت قدوة, فالأبَوان قدوة للأبناء, والمدراء قدوة للموظفين, والضباط قدوة للمجنَّدين, والحاكم قدوة للمحكومين.
فيا أيها القدوة: كن صريحاً مع متبوعيك, وحرِّضهم على الصراحة معك؛ لأن الصراحة سبب من أسباب تماسك أفراد الأسرةِ الصغيرة, وهي البيت, والأسرةِ الكبيرة, وهي المجتمع.
يا عباد الله: إذا كانت الصراحة من صفات وأخلاق المؤمنين, ولا يقولون إلا ما تختلج به نفوسهم, كذلك هم الذين يحبون الصراحة من غيرهم, ويكرهون النفاق لهم, على العكس تماماً من أهل الدنيا الذين ضعف الإيمان في قلوبهم, فلا يحبون الصريح معهم, بل يحبُّون من يكذب عليهم وينافق لهم, ويتظاهر لهم بأنه يَصدُقُهم القول.
أيها الإخوة الكرام: انظروا إلى الصراحة التي ربَّى عليها سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- صحابته الكرام, التي تعطي للإنسان الراحة, وتدفعه لأن ينطق بلسانه ما يجول في خاطره.
فسيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- ومن معه من الصحابة الكرام هم أسوتنا وقدوتنا في كل شيء, ومنها الصراحة, قال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 100].
اسمعوا -يا عباد الله-: روى الإمامان البخاري ومسلم عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: "قَامَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ يَوْمَ صِفِّينَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ, لَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ الحُدَيْبِيَةِ, وَلَوْ نَرَى قِتَالاً لَقَاتَلْنَا -وَذَلِكَ فِي الصُّلْحِ الَّذِي كَانَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ- فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَسْنَا عَلَى حَقٍّ وَهُمْ عَلَى بَاطِلٍ؟
قَالَ: بَلَى.
قَالَ: أَلَيْسَ قَتْلانَا فِي الجَنَّةِ وَقَتْلاهُمْ فِي النَّارِ؟
قَالَ: بَلَى.
قَالَ: فَفِيمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا وَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟
فَقَالَ: يَا بْنَ الْخَطَّابِ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ, وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللَّهُ أَبَدًا.
قَالَ: فَانْطَلَقَ عُمَرُ فَلَمْ يَصْبِرْ مُتَغَيِّظًا فَأَتَى أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَسْنَا عَلَى حَقٍّ وَهُمْ عَلَى بَاطِلٍ؟
قَالَ: بَلَى.
قَالَ: أَلَيْسَ قَتْلانَا فِي الجَنَّةِ وَقَتْلاهُمْ فِي النَّارِ؟
قَالَ: بَلَى.
قَالَ: فَعَلامَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا وَنَرْجِعُ وَلَمَّا يَحْكُمِ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟
فَقَالَ: يَا بْنَ الْخَطَّابِ إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ, وَلَنْ يُضَيِّعَهُ اللَّهُ أَبَدًا.
قَالَ: فَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْفَتْحِ, فَأَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ فَأَقْرَأَهُ إِيَّاهُ, فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَ فَتْحٌ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ, فَطَابَتْ نَفْسُهُ وَرَجَعَ".
أيها الإخوة الكرام: لقد أراد سهل بقوله: "أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ" تصبيرَ الناس على الصلح يوم صفين, وإعلامَهم بما يُرجى بعده من الخير, وإن كان ظاهره في الابتداء مما تكرهه النفوس, كما كان الشأن في صلح الحُدَيْبية.
فسيدنا عمر -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- ما كان شاكّاً فيما يفعله سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- عندما قال: "فَفِيمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا؟" يعني: النقيصة, بل كان طالباً كشف ما خفي عليه؛ لأن شروط الصلح كانت قاسية وشديدة على المسلمين يوم الحديبية, ولا شك بأن الصحابة -رَضِيَ اللهُ عَنهُم- عندما سمعوا تلك الشروط القاسية جال في خواطرهم بعضُ الأمور, والتي من جملتها ما صرَّح به سيدنا عمر -رَضِيَ اللهُ عَنهُ-.
ما أجمل الصراحة بين القائد والمَقود, بين الحاكم والمحكوم, بين الرئيس والمرؤوس, فهذا سيدنا عمر -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- يريد إزالة الإشكال الذي ساوره, وأراد أن تُكشف له الحقيقة, فقال: "فَفِيمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا؟" إن ذهب مسلم مرتد إلى مكة لا تردُّه مكة, وإن جاء مسلم من مكة إلى المدينة ردَّته المدينة, إلى غير ذلك من الشروط القاسية.
هل تضايق سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- من صراحة سيدنا عمر؟ حاشاه, بل عندما نزلت سورة الفتح, استدعاه سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- وتلا عليه سورة الفتح.
أيها الإخوة الكرام: لا يفقد الصراحة إلا من كان ضعيفَ الإيمان, ولا يكره الصراحة إلا من كان في إيمانه خللٌ, أو كان متلبِّساً بالأنا الفرعونية, والإسلام لا يقرُّ هذا ولا ذاك.
اسمعوا -يا عباد الله- إلى قصة عبد الله بن عبد الله بن أبي؛ عبدُ الله بن عبد الله بن أبي صحابي قريب من سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-, وأبوه رأسُ النفاق والمنافقين بعيدٌ عن سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-, هذا المنافق قال في بعض الغزوات التي كان فيها مع سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: "قد ثاورونا في بلادنا، والله ما عزنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال القائل: "سمن كلبك يأكلك" [رواه البيهقي في الدلائل].
وقال أيضاً: (لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا) [المنافقون: 7].
وَقَالَ أَيْضًا: (لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) [المنافقون: 8] [رواه البخاري].
وقال في حقِّ أمِّنا السيدة عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنهُا- ما قال.
سمع الابن الصحابي الجليل هذا, فأتى رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- فقال: "يا رسول الله، إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أبي، فإن كنت فاعلاً فأمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبرَّ بوالده مني، ولكني أخشى أن تأمر به رجلاً مسلماً فيقتله, فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله يمشي في الأرض حياً حتى أقتله, فأقتل مؤمناً بكافر, فأدخل النار، فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "بل نحسن صحبته ونترفَّق به ما صحبنا" [رواه البيهقي في الدلائل].
يا الله! ما هذه العظمة في شخص سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-, لقد تجسَّد قول الله -تعالى-: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [فاطر: 18] في هذه القضيَّة, الولد صحابي حبيب, والوالد كافر فاسق فاجر منافق, فما أثَّر نفاق الوالد على الولد, وما أثَّرت الإساءة من الوالد في حقِّ سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- على الولد.
واحد مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين, والآخر في الدرك الأسفل من النار.
وما هذه العظمة في صراحة التابع مع المتبوع: "ولكني أخشى أن تأمر به رجلاً مسلماً فيقتله, فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله يمشي في الأرض حياً حتى أقتله, فأقتل مؤمناً بكافر, فأدخل النار".
وما هذه العظمة في شخص الحبيب الأعظم سيدنا محمد -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- عندما قال: "بل نحسن صحبته، ونترفَّق به ما صحبنا".
يا عباد الله: نحن بأمسِّ الحاجة إلى هذه الصراحة, وخاصة صراحة الحبيب -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: "بل نحسن صحبته، ونترفَّق به ما صحبنا".
وقوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم لسيدنا عمر عندما أراد قتل عبد الله بن أبي: "دَعْهُ, لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ" [رواه البخاري].
اللهمَّ لا تشمت بدائنا أعداءنا.
معشر المسلمين: هكذا ربَّى النبيُّ -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- أتباعه, فما كانوا يعرفون المداهنة والنفاق والكذب فيما بين بعضهم البعض, ولو كان الواحد منهم أميراً، روى البيهقي في السنن الكبرى عن الحسن قال: "إن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- بلغه أن امرأة بغيَّة يدخل عليها الرجال, فبعث إليها رسولاً, فأتاها الرسول فقال: أجيبي أمير المؤمنين, ففزعت فزعة وقعت الفزعة في رحمها, فتحرك ولدها فخرجت فأخذها المخاض, فألقت غلاماً جنيناً, فأتى عمر بذلك, فأرسل إلى المهاجرين فقصَّ عليهم أمرها, فقال: ما ترون؟ فقالوا: ما نرى عليك شيئاً يا أمير المؤمنين, إنما أنت معلِّم ومؤدِّب, وفي القوم عليٌّ, وعليٌّ ساكت, قال: فما تقول أنت يا أبا الحسن؟ قال: أقول: إن كانوا قاربوك في الهوى فقد أثموا, وإن كان هذا جهد رأيهم فقد أخطؤوا, وأرى عليك الدية يا أمير المؤمنين, قال: صدقت, اذهب فاقسمها على قومك".
وفي رواية قال علي: "عليك الدية, عزمت عليك أن لا تجلس حتى تضربها على قومك".
وقد روي أنه قال له: "إن كانوا قد نصحوك فقد غشوك, ويوم القيامة لن ينفعوك".
اسمعوا هذا -يا عباد الله-: "إن كانوا قاربوك في الهوى فقد أثموا, وإن كان هذا جهد رأيهم فقد أخطؤوا".
هلاَّ سمعتم هذا -يا عباد الله- لقد خاف سيدنا عمر -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- من الجنين الذي أسقطته المرأة بسبب هيبته, أن يسأله الله -تعالى- عنه يوم القيامة, واستشار الصحابة الكرام هل وجبت عليه الغرة أم لا؟ والغرة هي دية الجنين, والتي تبلغ نصف عشر الدية, والدية مئة ناقة.
هلاَّ سمع هذا حكَّامنا؟
هلاَّ فكَّروا في قوله تعالى: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيه * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيه * لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) [عبس: 34 - 37].
وصدق سيدنا علي -رَضِيَ اللهُ عَنهُ-: "ويوم القيامة لن ينفعوك".
لقد خاف سيدنا عمر -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- أن يُسأل عن جنين سقط من رحم أمه, فكيف بمن سيُسأل عن دماء سُفِكت بغير حق, فما هو قائل لله -عز وجل- يوم القيامة؟
يا عباد الله: لقد وصف الله -تعالى- المجتمع الإيماني بقوله: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) [آل عمران: 110].
والذي كان من سماته الصراحة الصراحة بين التابع والمتبوع, بين الحاكم والمحكوم, بين الآباء والأبناء, وبين الأزواج, وبين أفراد المجتمع.
فهلاَّ انطلقنا بالصراحة من دائرة الأسرة الصغيرة حتى نصل إلى دائرة الأسرة الكبيرة؟
الصراحة راحة, ومن حُرِم الصراحة حُرِم الراحة.
أقول هذا القول, وأستغفر الله العظيم لي ولكم, فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
التعليقات