عناصر الخطبة
1/اجتماع الكلمة في بلاد الحرمين 2/ نعمة الإسلام والدعوة إلى الله -تعالى- 3/من خصائص بلاد الحرمين 4/ السبيل إلى شكر الجليل.اقتباس
ومِن خصائصِ هذه البِلاد بيتُ الله الحرَام: قِبلةُ المسلمين ومَهوى أفئدتهم الذي جعله الله سببًا لانتظام مصالحِ النّاس، قال تعالى: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ)[المائدة:97]؛ قال المفسِّرون: "البيتُ الحرام مدارٌ لمعاشهِم ودينهم؛ فيقومون فيه بما يصلح دينهم ودنياهم، يأمنُ فيه...
الخطبة الأولى:
أمّا بعد: فاتّقوا ربَّكم في السرّ والعلانية؛ فتقوى الله خيرُ ما عمِلتم، وأفضلُ ما ادَّخرتم.
أيّها المسلمون: اذكروا نعمَ الله عليكم الظاهرة والباطنة، واشكروه عليها يزدْكم منها ويحفظها عليكم؛ فنعمُ الله عليكم لا تعدّ ولا تحصى، قال الله -تعالى-: (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ)[النحل:18]، وهل يقدِرُ النّاس أن يعدّوا الأنفاسَ أو حركاتِ طرف العيون؟ إنّهم لا يقدرون، والنعم أكثر من الأنفاس، وأكثر من حركاتِ طرف العيون، وما الأنفاسُ وحركات طرف العيون إلاّ بعض نِعم الله على خلقه.
أيّها النّاس: إنّ الله -عزّ وجلّ- قد أولاكم مِن فضلِه وكرمِه ونعمِه عامّةً وفي هذه البلاد خاصّة ما لا تقدرون على أن تحصوه، فضلاً عن أن تقدِروا على شكرِه، وخصّكم بخصائص يلزمنا رعايتُها وتقديرها وشكرُ الله سرًّا وعلانية؛ فممّا خصَّ الله به هذهِ البلادَ أن عافاها من الأحزابِ المتناحِرة والاتّجاهات والأفكار الضّارّة التي ظهَر أثرُ ضررها على البلادِ التي ابتليَت بها، فلا مكانَ للأحزاب المتناحرة في بلادنا؛ لأنّ دينَ المواطنين في هذه المملكة هو الإسلام الحقُّ العظيم الذي يحرّم الحزبيّات والأهواء، قال الله -تعالى-: (واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُم أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) [آل عمران:103]، وقال تعالى: (إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ في شيء)[الأنعام:159].
والإسلامُ هو الحقّ، والحقّ يجمع ولا يفرق، ويعدِل ولا يظلم، ويصلح ولا يفسد، ويرحم ولا يقسو، وولاءُ المسلم لهذا الحقّ ولمن ينفِّذون الحقّ ويدافِع عن الأرضِ التي يهيمِن عليها هذا الحقّ بكلّ أنواعِ المدافعة، فظهر جليًّا أنّ غايةَ المسلم هي نصرة الإسلام، وأنّه يلزمه أن يعينَ ولاةَ الأمر على تنفيذ الشريعة، ويلزمه أن يدافعَ عن حوزةِ الدّين.
وإذا كان هذا محل اتفاق بين المسلمين فلا مكانَ للحزبيّات في بلادنا، ولأنّ الأحزاب متباينةُ الأهواء، والأهواء تضعِف الأمّة وتشغِل بالَ وليّ الأمر عن الأمور المهمّة للرّعية، وأحسنُ أحوال المسلمين إذا كان سلطانُ الدّين قويًّا على نفوس الأمّة، مع كون وليّ الأمر قويًّا في نفوذه، وإذا كان سلطان الدّين ضعيفًا على بعض النّفوس وسلطانُ وليّ الأمر قويًّا نجحَت الأمور -أيضًا-، وقمِع المفسدون في الأرض. ووليُّ الأمرِ في هذه البلادِ ونوّابُه أقوياءُ النّفوذ بحمدِ الله وبفضلِه، ثمّ بالتّلاحم بين القيادة والمواطنين بما يوجبُه الدين الإسلاميّ من الاجتماع على الحقّ والتعاضُد، ونبذِ الفرقة والاختلاف، ونحنُ على عقيدةِ المهاجرين والأنصار والذين اتّبعوهم بإحسان الذين أثنى الله عليهم بقوله: (وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَـٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَـئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)[الأنفال:74]، وأثنى الله عليهم بقوله: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[التوبة:100]، ومن نَدَّ عن ذلك فبحثُه عن الحقّ بتجرّد والحوارُ معه من أسبابِ هدايتِه.
ونحمد الله -تعالى- أن جعلَنا من المسلمين، لأنّ الإسلامَ أعظم نعم الله على العباد، قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)[المائدة:3]، والمسلم مع ما هو فيه من الهدى خاشعٌ لله متواضِع مخبِت لربّه، لا يحتقر عباد الله، ولا يتعدّى حدودَ ربّه، حرّم عليه الإسلام الظلمَ والعدوان، حتّى لغير المسلمين، وأمره دينه بالعدل والإحسان والرّحمة والخير للبشرية.
ومِن الخير للإنسان والخيرِ للبشرية دعوةُ الإنسان إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والطريق المشروعِ الذي ينصر الحقَّ ويدحض الباطل، قال الله -تعالى-: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)[النحل: 125].
والإسلامُ أعزُّ على المسلمِ مِن نفسِه وأهلِه ومالِه وولده، وقد يتجرّدُ المسلم من المال، وقد يخسَر الجاه، وقد يواجه المصاعبَ والمتاعب، ولكنّه سعيد إذا سلِم له دينه.
هذا مصعبُ بن عمير -رضي الله عنه- أوّل مهاجرٍ إلى المدينةِ النبويّة الطيّبة، بعثه النّبيّ يدعو إلى الإسلامِ ويعلّم القرآنَ، كان شابًّا غنيًّا مترَفًا؛ فلمّا أسلمَ حرمَته أمّه من المال، فرآه النبيّ وقد حال لونه وتغيّر وعليه لباسٌ ممزّق، ففاضت عيناه لما رأى به من الجَهد والخصاصة، ولكنّه كان غنيًّا بإيمانه، ولمّا استُشهد في أحدٍ لم يجدوا كفنًا له، وإنّما كفّنوه في نمِرة وفي لباسٍ غطّى رأسَه ثمّ غطّوا بقيّة جسمِه بالإذخر، وكان أيضًا الكثير من المهاجرين بهذه الحال -رضي الله عنهم-.
ومِن خصائصِ هذه البِلاد بيتُ الله الحرَام: قِبلةُ المسلمين ومَهوى أفئدتهم الذي جعله الله سببًا لانتظام مصالحِ النّاس، قال تعالى: (جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ)[المائدة:97]؛ قال المفسِّرون: "البيتُ الحرام مدارٌ لمعاشهِم ودينهم، فيقومون فيه بما يصلح دينهم ودنياهم، يأمنُ فيه خائفهم، وينصَر فيه ضعيفهم، ويربَح فيه تجّارهم، ويتعبّد فيه متعبِّدهم".
ومِن خصائصِ هذه البلاد مسجدُ رسول الله: آخر مساجدِ الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، والذي جعل الله الصلاةَ فيه أفضلَ من ألفِ صلاة فيما سواه إلاّ المسجدَ الحرام، وفي تربةِ المدينة الطيّبة مثوى رسول الله ولا يعرَف قبرُ نبي غيره.
ومن خصائص هذه البلاد المحاكمُ الشرعيّة التي تحكم بالشّرع: في الأموال والدماء والحدود والمنازعات والقضايا، ويستوي أمامَ هذه المحاكم الملِك فمَن دونه.
وممّا مَنَّ الله به على هذه البلاد الأمنُ المستتبّ: الذي يأمَن الناس فيه على دمائِهم وأموالِهم ومصالحهم الدينيّة والدنيويّة والذي صارت فيه مضربَ المثل في العالم، وفاقت هذه البلادُ في الأمن غيرَها ولله الحمد، وما وَقع في الآونةِ الأخيرة من تخريبٍ وإرهاب مردُّه إلى أفكار ضارّةٍ وافدة، قوبِلت بشدّةِ حزم، وحُوصرت وحُوربت أشدَّ المحاربة من ولاة الأمرِ والعلماء، وحاربَت هذه الأفكارَ التكفيريّة مناهجُ التعليم لدينا منذ وضِعت. ومناهج التعليم لدينا لا تخرِّج إلا رجالاً أسوياء، يخدمون دينَهم ووطنَهم، ويحبّون الخيرَ للبشريّة، ولكن لكلّ قاعدةٍ شذوذ، (وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى)[الأنعام:164]، ولن يتأثَّر أمنُ هذه البلاد بتخريب هذه الفِئة المنحرِفة، فما هي إلا فقّاعة لا تلبث أن ينفتِق.
وممّا منّ الله به على هذه البلاد الاستقرارُ السياسيّ: الذي تستقرّ معَه الأوضاع، وتزدهِر معه الحياة، ويتّسع العمران، وينتشِر معه العلم، وتعمّ النهضَة، ويزداد النموّ السكانيّ، وتوظَّفُ الأموال في مصالحِ الناس، ويعزّ الدين، وتنطفئ الفتن، إلى غير ذلك من المصالح.
أيّها الناس: إنّ نعمَ الله عليكم وعلينا عظيمةٌ وآلاؤُه جسيمة، وإنّها توجب الشكرَ لله -تعالى-، وشكرُ الله -تعالى- هو بتقواه والاستقامةِ على دينه، قال الله -تعالى-: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ)[إبراهيم:7].
وشكرُ الله على هذه النعم أن نكونَ في يومِنا أحسنَ ممّا في أمسِنا، وأن نكونَ في غدِنا أحسنَ ممّا في يومنا؛ لأنّ الله أمر بالتّقوى في أوّل سورة في القرآن، وأمر بالتّقوى في آخر آيةٍ نزلت من القرآن، وهي قوله تعالى: (وَٱتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى ٱللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)[البقرة:281]، وأكّد على التّقوى في آياتٍ كثيرة في المدّة التي بين ذلك؛ ليلتزمَ المسلم بالتقوى في كلّ أحواله، وليكونَ دائمًا صاعدًا في درجات التقوى إلى آخر نفسٍ من حياته، ليفوزَ بخَيرَي الدنيا والآخرة، قال الله -تعالى-: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)[الأعراف:128]، (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا)[مريم: 63].
ودينُنا الإسلاميّ يوجب علينا أن نكونَ مع ولاة أمرِنا يدًا واحدة وصفًّا موحّدًا أمام ما يمكِن أن يستجدَّ من تحدّيات تستهدف الإسلامَ وتعاليمَه، أو تستهدف ثوابتَ مجتمعنا، بل إنّ لهذه البلاد حقًّا على كلّ مسلم في الأرض كلّها لما خصّها الله به من الخصائص المعلومة الفاضلة.
بسم الله الرحمن الرحيم: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)[المائدة: 2]، وقال تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[آل عمران: 105].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ذي الجلالِ والإكرام، ذي العزّة التي لا تضام والملكِ الذي لا يرَام، أحمد ربّي وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك القدوس السلام، وأشهد أنّ نبيّنا وسيّدنا محمّدًا عبده ورسوله الشاكر للإنعام، اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد وعلى آله وصحبه الكرام، أمّا بعد:
فاتّقوا ربَّكم، واخشوا يومًا ترجَعون فيه إلى الله، ثمّ توَفّى كلّ نفس ما كسبت وهم لا يظلمون.
عبادَ الله: إنّ العبدَ مهما عمِل مِن الطاعات مبتعِدًا عن المحرّمات لا يقدِر أن يؤدّي شكرَ نِعم الله عليه، ولكن حسبُ العبدِ معرفة نِعم الله عليه وشعورُه بالتقصير في الشكر وأن يسدِّد ويقاربَ في طاعة ربِّه مع الإخلاصِ واتّباع السنة.
والشكرُ يكون بالتحدُّث بنِعَم الله، قال الله -تعالى-: (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبّكَ فَحَدّثْ)[الضحى:11]، ويكون الشكر أيضًا بمحبّة المنعِم تبارك وتعالى، ويكون الشّكر أيضًا بالفِعل والعمَل، وهو زيادةُ الطاعات، وصرفُ النّعَم فيما يرضي الله -تعالى-، قال -عزّ وجلّ-: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُور)[سبأ: 13]، ويقول لعائشة -رضي الله عنها- وقد قالت: يا رسول الله، تقوم من الليل حتّى تتفطّر قدماك وقد غفر الله لك ما تقدّم مِن ذنبِك وما تأخّر! فقال: "يا عائشة، أفلا أكون عبدًا شكورًا".
عبادَ الله: حاسِبوا أنفسَكم قبلَ سكنى القبور، وقدِّموا من طاعة ربّكم ما ينجيكم من عذابٍ أليم، فإنّ ما توعَدون لآتٍ، (وَمَا أَمْرُ ٱلسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ ٱلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ)[النحل:77].
وصلّوا وسلّموا على سيّد الأوّلين والآخرين وإمام المرسلين؛ فقد أمركم الله بالصلاة والسّلام عليه في قوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
التعليقات