عناصر الخطبة
1/ تحقيق التوحيد على نوعين 2/ صفات من يدخلون الجنة بغير حساب 3/ مفهوم أحاديث الكياهداف الخطبة
اقتباس
فالواجب: تخليصه وتصفيته عن شوائب الشرك والبدع والمعاصي، وهذا مقام أصحاب اليمين؛ وهم الذين فعلوا الواجبات وتركوا المحرمات؛ فالشرك الأكبر ينافيه بالكلية، والشرك الأصغر ينافي كماله الواجب، والبدع تقدح في التوحيد، والمعاصي تنقص ثوابه، فلا يكون العبد محققًا للتوحيد حتى يسلم من الشرك بنوعيه، ويسلم من البدع والمعاصي
الحمد لله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين، أحمده -سبحانه وأشكره، وأتوب إليه واستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-؛ فإن من اتقاه كفاه ووقاه، وحفظه ونجَّاه.
أيها المسلمون: دل الكتاب والسنة على أن من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب ولا عذاب؛ فإنه لا يحصل كمال فضله إلا بكمال تحقيقه؛ وتحقيق التوحيد قدر زائد على ماهية التوحيد، وتحقيقه على نوعين، واجب ومندوب:
فالواجب: تخليصه وتصفيته عن شوائب الشرك والبدع والمعاصي، وهذا مقام أصحاب اليمين؛ وهم الذين فعلوا الواجبات وتركوا المحرمات؛ فالشرك الأكبر ينافيه بالكلية، والشرك الأصغر ينافي كماله الواجب، والبدع تقدح في التوحيد، والمعاصي تنقص ثوابه، فلا يكون العبد محققًا للتوحيد حتى يسلم من الشرك بنوعيه، ويسلم من البدع والمعاصي.
والمندوب: تحقيق المقربين، فأضافوا إلى ما تقدم فعل المستحبات وترك المكروهات، وبعض المباحات؛ وهذا مقام السابقين المقربين، وحقيقته هو انجذاب الروح إلى الله، فلا يكون في قلبه شيء لغيره، فإذا حـصل تحقيقه بما ذكر، فقد حصل الأمن التام، والاهتداء التام.
عباد الله: ذكر الله -عز وجل- إبراهيم -عليه السلام- بصفات عالية هي الغاية في تحقيق التوحيد، فقال -عز وجل-: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [النحل: 120]
وصف الله خليله إبراهيم -عليه السلام- بهذه الصفات التي هي الغاية في تحقيق التوحيد، وأثنى عليه بها؛ فقال: (كَانَ أُمَّةً) أي: إمامًا على الحنيفية، قدوة يقتدي به، معلمًا للخير؛ أو لما اجتمع فيه من صفات الكمال والخير والأخلاق الحميدة ما يجتمع في أمة استحق اسمها، فإنه أمة على الحق وحده، وإمام لجميع الحنفاء، يقتدون به في ذلك، (قَانِتًا) أي: خاشعًا مطيعًا، والقنوت دوام الطاعة.
(حَنِيفًا) أي: منحرفًا عن الشرك إلى التوحيد، مقبلاً على الله، معرضًا عن كل ما سواه، (وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فارقهم بالقلب واللسان والبدن، وأنكر ما كانوا عليه من الشرك، وما ذاك إلا من أجل تحقيقه التوحيد، بل ضم إلى ذلك البراءة من المشركين، وعاب ما كانوا عليه وكفَّرهم، كما قال الله عنه (إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ) [الزخرف: 26] فتبرأ من العابد قبل المعبود، وضم إلى ذلك أن اعتزلهم، فلم يكن منهم بأي اعتبار كان، قال -تعالى-: (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاء رَبِّي شَقِيًّا) [مريم: 48]
فهذا هو تحقيق التوحيد، وقد وصف الله عز وجل خليله بهذه الصفات التي هي الغاية في تحقيق التوحيد، وقد أمرنا بالتأسي والاقتداء به؛ فقال -تعالى-: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) [الممتحنة: 4]
عباد الله: وصف -جل وعلا- المؤمنين السابقين إلى الجنة فأثنى عليهم بصفات حميدة، ومناقب عزيزة؛ فقال -تعالى- عنهم: (إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ) [المؤمنون: 57] خائفون وجلون (وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) [المؤمنون: 58] أي يؤمنون بآياته الكونية والشرعية، ثم طبع على أعملهم الصالحة بطابع الإِخلاص، وهو السلامة من الشرك قليله وكثيره، صغيره وكبيره.
فقال سبحانه: (وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ) لا يعبدون معه غيره، بل يوحدونه، ويعلمون أنه لا إله إلا هو الأحد الصمد، ومن كان كذلك فقد بلغ النهاية من تحقيق التوحيد الموجب لدخول الجنة بغير حساب، ومن لا فلا؛ وذلك لأن الأعمال من حيث هي لا تصح مع الشرك الأكبر، فإن سلم من الأكبر فإن الأعمال لا تزكو ولا تنمو إلا بالسلام من الشرك الأصغر.
عن حصين بن عبد الرحمن قال: كنت عند سعيد بن جبير فقال: "أَيكم رأَى الكوكب الذي انقض البارحة؟ فقلت: أنا، ثم قلت: أما إِني لم أَكن في صلاة ولكني لُدغت، قال: فما صنعت؟ قلت: ارتقيت، قال: فما حملك على ذلك؟ قلت: حديث حدثناه الشعبي قال: وما حدثكم؟ قلت: حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال: لا رقية إلا من عين أو حمة، قال: قد أَحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: "عُرضت عليَّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي، فقيل له: هذا موسى وقومه، فنظرت فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب".
ثم نهض فدخل منزله فخاض الناس في أولئك، فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإِسلام فلم يشركوا بالله شيئًا وذكروا أشياء، فخرج عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخبروه فقال: "هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون"، فقام عكاشة بن محصن فقال: يا رسول الله: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: "أنت منهم" ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، قال: "سبقك بها عكاشة".
ودخول هؤلاء الجنة بدون حساب لتحقيقهم التوحيد فهم: "لا يسترقون" أي: لا يطلبون من يرقيهم لقوة توكلهم على الله، ولعزة نفوسهم عن التذلل لغير الله، جعلنا الله وإياكم منهم بمنه وكرمه.
وفي رواية لمسلم: "ولا يرقون" قال شيخ الإِسلام: "هذه الزيادة وهم من الراوي، لم يقل النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ولا يرقون" وقد سُئل -صلى الله عليه وسلم- عن الرُقى فقال: "من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل" وقال: "لا بأس بالرقى إذا لم تكن شركًا".
وقد رقى جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم-، ورقى النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه، والفرق بين الراقي والمُسترقي: أن المسترقي سائل مستعط ملتفت إلى غير الله بقلبه، والراقي مُحسن، وإنما المراد وصف السبعين ألفًا بتمام التوكل، فلا يسألون غيرهم أن يرقيهم.
وقوله: "ولا يكتوون" أي: لا يسألون غيرهم أن يكويهم، كما لا يسألون غيرهم أن يرقيهم، وهي أعم من أن يسألوا ذلك أو يُفعل بهم باختيارهم،
والكي في نفسه جائز، كما في الصحيح عن جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث إلى أبي بن كعب طبيبًا فقطع له عرقًا وكواه، وكوى أنس من ذات الجنب، والنبي -صلى الله عليه وسلم- حي، رواه البخاري، والاسترقاء والاكتواء جائزان، ولكن تركهما أفضل وأكمل في تحقيق التوحيد.
ثم قال -صلى الله عليه وسلم-: "ولا يتطيرون": أي: لا يتشاءمون بالطيور ولا بالشهور ونحوها، قال -صلى الله عليه وسلم-: "الطيرة شرك" رواه أبو داود.
"وعلى ربهم يتوكلون" أي: يعتمدون على الله وحده لا شريك له في جلب المنافع ودفع المضار مع فعل الأسباب المشروعة.
والحديث -عباد الله- لا يدل على أن المحققين للتوحيد لا يباشرون الأسباب، وإنما المقصود أنهم يتركون الأمور المكروهة، كالاكتواء، والاستقراء، مع حاجتهم إليها لكمال توكلهم على الله -عز وجل-.
أما مباشرة الأسباب والتداوي على وجه لا كراهة فيها؛ كأن يرقي الإنسان نفسه، أو يستشفي بالعسل أو الحبة السوداء، أو نحو ذلك، فليس تركه مشروعًا لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "تداووا فإن الله -تعالى- لم يُنزل داءً إلا أنزل له شفاء، عَلِمه من عَلِمه، وجَهله من جَهله" رواه أحمد.
وفي الصحيح، عن ابن عباس مرفوعًا: "الشفاء في ثلاث: شربة عسل، وشرطة محجم، وكية نار، وأنهي أمتي عن الكي" وفي لفظ: "وما أحب أن أكتوي".
قال ابن القيم: "قد تضمنت أحاديث الكي أربعة أنوع: أحدها: فعله. والثاني: عدم محبته، والثالث: الثناء على من تركه، والرابع: النهي عنه، ولا تعارض بينها فإن فعله له يدل على جوازه، وعدم محبته لا يدل على المنع منه".
وأما الثناء على تاركه فيدل على أن تركه أولى وأفضل وأكمل، أي: في تحقيق التوحيد، فكأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "هم الذين أخلصوا أعمالهم وتركوا ما لا بأس به، حذرًا مما به البأس".
وأما النهي عنه فعلى سبيل الاختيار والكراهة، فمن تركهما توكلاً لا تجلدًا ولا تصبرًا فهو من كمال تحقيق التوحيد، ومن تركهما تجلدًا وتصبرًا لم يكن تركه من التوحيد في شيء فضلاً عن أن يكون من تحقيقه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [الأنفال: 2]
بارك الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، عَظُم شأنه، ودام سلطانه، أحمده -سبحانه- وأشكره، عن امتنانه، وجزل إحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، به علا منار الإِسلام، وارتفع بنيانه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه، والتابعين؛ ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس: أوصيكم -ونفسي- بتقوى الله -عز وجل-، فإن تقوى الله خلف من كل شيء، وليس من تقوى الله خلف: (إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) [النحل: 128]
أيها المسلمون: هؤلاء الموحدون تركوا الشرك رأسًا، ولم ينزلوا حوائجهم بأحد فيسألونه الرقية فما فوقها، وتركوا الكي وإن كان يراد للشفاء؛ والحامل لهم على ذلك قوة توكلهم على الله، وتفويض أمورهم إليه، وثقتهم به، ورضاهم عنه، وصدق الالتجاء إليه، وإنزال حوائجهم به -سبحانه وتعالى- والاعتماد بالقلب الذي هو نهاية تحقيق التوحيد، وهو الأصل الجامع، الذي تفرعت عنه تلك الأفعال والخصال.
والحديث لا يدل على أنهم لا يباشرون الأسباب أصلاً، فإن مباشرة الأسباب في الجملة أمر فطري ضروري، بل نفس التوكل مباشرة لأعظم الأسباب، وإنما المراد أنهم يتركون الأمور المكروهة مع حاجتهم إليها توكلاً على الله كالإِكتواء والاِسترقاء.
وأما مباشرة الأسباب والتداوي على وجه لا كراهة فيه فغير قادح في التوكل، فلا يكون تركه مشروعًا لما في الصحيحين: "ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء، عَلِمه من عَلِمه، وجَهلِه من جَهلِه" وأخرج أحمد: "يا عباد الله: تداووا فإن الله لم يضع داء إلا وضع له شفاء غير داء واحد" قالوا: ما هو؟ قال: "الهرم".
قال ابن القيم -رحمه الله-: "وقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات، والأمر بالتداوي، وأنه لا يُنافي التوكل، كما لا ينافيه دفع ألم الجوع والعطش، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب، وتعطيلها يقدح في التوكل، فلا يجعل العبد عجزه توكلاً، ولا توكله عجزًا".
جعلنا الله وإياكم من المتوكلين على الله حق التوكل، ورزقنا الجنة بلا حساب ولا عذاب.
هذا وصلوا وسلموا.
التعليقات