من تبرك بشجرة أو حجر، ونحوهما

عبد الملك بن محمد القاسم

2022-10-05 - 1444/03/09
عناصر الخطبة
1/ توبيخ المشركين بسبب عبادتهم الأصنام 2/ أنواع التبرك وأحكامه 3/ وقوع الشرك في هذه الأمة مشابهة لليهود والنصارى 4/ أسباب الوقوع في التبرك الممنوع
اهداف الخطبة

اقتباس


وعبادة المشركين لأصنامهم التي ذكر الله -عز وجل- إنما كانت بالتفات القلوب رغبة إليها في حصول ما يرجونه ببركتها؛ من جلب نفع أو دفع ضر، فصارت أوثانًا تُعبد من دون الله؛ فالتبرك بقبور الصالحين كاللات، وبالأشجار والأحجار كالعزى ومناة، من جنس فعل أولئك المشركين مع تلك الأوثان

 

 

 

 

الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المتقين، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاتقوا الله -عباد الله-، وأخلصوا له العبادة تفوزوا بسعادة الدارين.

أيها المسلمون: بعث الله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- يجدد للناس دين أبيهم إبراهيم -عليه السلام-، ويدلهم على أن العبادة محض حق الله تعالى، لا يجوز صرف شيء منها لغيره -سبحانه وتعالى-.

وقد وبخ -سبحانه وتعالى- المشركين على تعظيمهم لأصنامهم، فقال -عز وجل-: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى) [النجم: 19- 20]

واللات والعزى والمناة؛ من أشهر وأعظم الأصنام في زمن الجاهلية، وقد كانوا يطلبون منها أن تبارك لهم في أنفسهم وأولادهم وأموالهم، فكانوا بهذا مشركين الشرك الأكبر؛ لأنهم عبدوها من دون الله حين طلبوا بركتها، وما هي إلا أوهام تخيلوها لا حقيقة لها، فهي مجرد أشجار وأحجار لا تنفع ولا تضر، قال الله -تعالى-: (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ) [النجم: 23]

وما يحصل ممن ينتسب إلى الإِسلام من التبرك بالقبور، والأشجار، والأحجار هو من جنس تبرك المشركين هذا، فالواجب على المسلم ألا يعلق قلبه إلا بالله وحده، وألا يتعلق بغيره، فمن فعل ذلك؛ فقد شابههم في فعلهم، ومن تشبه بقوم فهو منهم.

عباد الله: البركة: هي دوام الخير وكثرته، ولا خير أدوم ولا أكثر من خير الله -سبحانه-.
وينقسم التبرك إلى قسمين:

الأول: تبرك مشروع: وهو التماس البركة من شيء عُلم بالشرع أنه مبارك، كشرب ماء زمزم طلبًا للشفاء، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنها مباركة، إنها طعام طُعم" رواه مسلم، وفي رواية أخرى: "زمزم طعام طُعم، وشفاء سقم" رواه البزار.

الثاني من أنواع التبرك: تبرك ممنوع: وهو التماس البركة فيما لم يأذن به الشرع؛ كمن اعتقد أن هذا الشيء يمنح البركة بذاته، كمن يتبرك بالأشجار، أو الأحجار، أو قبور الصالحين، لطلب نفع أو دفع ضر؛ فذلك شرك أكبر.

أما من أعتقد أن هذا الشيء سبب لحصول البركة من الله، كمن يتمسح بمقام إبراهيم أو حِجْر إسماعيل أو بالصالحين فذلك شرك أصغر، وإن اعتقد أن هذا العمل مما يُتقرب به إلى الله فهو محرم، ووسيلة إلى الشرك.

وعبادة المشركين لأصنامهم التي ذكر الله -عز وجل- إنما كانت بالتفات القلوب رغبة إليها في حصول ما يرجونه ببركتها؛ من جلب نفع أو دفع ضر، فصارت أوثانًا تُعبد من دون الله؛ فالتبرك بقبور الصالحين كاللات، وبالأشجار والأحجار كالعزى ومناة، من جنس فعل أولئك المشركين مع تلك الأوثان.

فمن فعل مثل ذلك؛ فقد ضاهى عُبَّاد هذه الأوثان فيما كانوا يفعلونه معها من هذا الشرك، مع أن الواقع من هؤلاء المشركين مع معبوديهم أعظم مما وقع من أولئك؛ قال -تعالى-: (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى) [النجم: 21] أي: كيف تجلعون هذه الإِناث أندادًا لله وتسمونها آلهة.

وذلك أنهم اشتقوا اسم اللات من الإِله، والعزى من العزيز، ومناة من المنان، تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا، وقيل: أتجعلون لكم ما تحبون وهم الذكور وتجعلون لله الإِناث؟ وهذا من قولهم: الملائكة بنات الله، فقال -سبحانه وتعالى-: (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى) أي جور وباطل.

عباد الله: في الحديث عن أبي واقد الليثي -رضي الله عنه- قال: "خرجنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله: اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الله أكبر، إنها السُنن، قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) لتركبن سُنَنَ من كان قبلكم" رواه الترمذي.

حين فتح النبي -صلى الله عليه وسلم- مكة أسلم كثير من أهلها، وخرج فئة منهم معه إلى حنين، وفي طريقهم إليها رأوا شجرة سدر للمشركين تُسمى: (ذات أنواط) يعلق عليها المشركون أسلحتهم ويعظمونها، ويقيمون عندها، ويتبركون بها.

عندئذ طلب هؤلاء الذين أسلموا حديثًا من الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يجعل لهم شجرة مثلها يتبركون بها ظنًا منهم أنّ هذا أمر محبوب عند الله، ولم يقصدوا مخالفة أمر الرسول -صلى الله عليه وسلم-، ولكن لكونهم أسلموا حديثًا خفي عليهم أن هذا الأمر يُعد شركًا بخلاف غيرهم ممن سبق إسلامه، فإنه لا يجهل ذلك.

وقد أنكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على هؤلاء الذين طلبوا منه أن يجعل لهم شجرة يتبركون بها كما يفعل المشركون، وكبَّرَ -صلى الله عليه وسلم- حين سمع ما لا يليق بجلال الله وعظمته تنزيهًا لله عن الشرك، وشبه مقالتهم بمقولة بني إسرائيل لموسى - عليه السلام-: (اجْعَل لَّنَا إِلَـهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف: 138]

والجامع بين مقالتهم ومقالة بني إسرائيل: أنّ كلاً منهما طلب أن يجعل له ما يألهه ويعبده من دون الله، فمن تبرك بالأشجار والأحجار فقد اتخذها آلهة.

ومعنى: "يعكفون" أي: يلبثون ويقيمون عندها ويعظمونها؛ والعكوف هو البقاء واللبث والإِقامة على الشيء في المكان، عبادة وتعظيمًا وتبركًا؛ وإنما عكفوا عندها لما كانوا يأملونه فيها من البركة، كما يعكف عباد القبور اليوم عندها ويجاورون؛ وتدفع الصدقات والنذور لتلك القبور.

فعبادتهم لها بالتعظيم والعكوف والتبرك، وبهذه الثلاثة: العكوف والتعظيم والتبرك عبدت الأوثان من دون الله.

أيها المسلمون: تغير الاسم لا يغير الحقيقة، فدل على أن التبرك بالأشجار والأحجار شرك أكبر، لتسويته -صلى الله عليه وسلم- بين مقالتهم ومقالة بني إسرائيل، وحلف -صلى الله عليه وسلم- على ذلك وإن لم يُستحلف؛ مزيد تحذير، وكمال شفقة وتأكيدًا لهذا الخبر وتعظيمًا له.

فإن التبرك بالأشجار والأحجار يجعلها آلهة وإن لم يسموها آلهة، فما يفعله من يعتقد فيها من التبرك بها، والعكوف عندها، والذبح لها هو الشرك الأكبر؛ وإن سمى عمله ما شاء من الأسماء، فأهل هذه الأزمنة يسمون شركهم توسلاً وتشفعًا، وهو من أعظم الشرك.

وفي الحديث: علم من أعلام النبوة، وأن الشرك لا بد أن يقع في هذه الأمة، وفيه الخوف منه، وأن الإِنسان قد يستحسن شيئًا يظنه يُقربه إلى الله وهو أبعد ما يبعده.

وفيه النهي عن التشبه بأهل الجاهلية وأهل الكتاب فيما كانوا يفعلونه، إلا ما دل الدليل على أنه من شرعنا، وأن ما ذم الله به اليهود والنصارى، فإنما قاله لنا لنحذره، فلا يجوز التبرك بالصالحين؛ لأن الصحابة لم يكونوا يفعلونه مع غير النبي -صلى الله عليه وسلم-، لا أبا بكر -رضي الله عنه- ولا غيره، ولا فعله التابعون مع قاداتهم في العلم والدين.

وللنبي -صلى الله عليه وسلم- في حال حياته خصائص كثيرة، لا يصلح أن يشاركه فيها غيره، فلا يجوز أن يقاس عليه أحد من الأئمة لعدم المقاربة، فضلاً عن المساواة له -صلى الله عليه وسلم- في الفضل والبركة، وعدم تحقق الصلاح فإنه لا يتحقق إلا بصلاح القلب.

ولو ظننا صلاح شخص فلا نأمن أن يختم له بخاتمة سوء، ولأنه لا يؤمن أن يفتُن وتعجبه نفسه، ولا تبرك بالكعبة ولا غيرها، سدًا لذريعة الشرك، بل تنازع الفقهاء في وضع اليد على منبره -صلى الله عليه وسلم- لما كان موجودًا، فكرهه مالك وغيره لأنه بدعة، وذُكرِ أنه لما رأى عطاءً فعله لم يأخذ عنه العلم.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون: 57 – 61]

بارك الله لي ولكم.
 

 

 

الخطبة الثانية:

 

 

الحمد لله، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، أحمده -سبحانه- وأشكره وهو الحليم الشكور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله الشافع والمشفع يوم النشور، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الظلام والنور.

عباد الله: أخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن وقوع الشرك في هذه الأمة مشابهة للأمم السابقة من اليهود والنصارى، حيث عبدوا آلهة مع الله حيث قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم"، وهو خبر بمعنى الذم؛ وإنما قاله لنا -صلى الله عليه وسلم- لنحذره.

وقد وقع الشرك في هذه الأمة كما أخبرنا -صلى الله عليه وسلم- به، وهذا علم من أعلام النبوة، فعُبَّاد القبور اليوم قد اتخذوها آلهة مع الله يعكفون عندها، ويتلمسون منها البركة، ويدفعون لها الصدقات والنذور، ويسألونها قضاء الحاجات كما يسألون ربهم.

ومن أسباب الوقوع في التبرك الممنوع:

أولاً: الجهل بالتوحيد وبما ينافيه ويضاده، فقَّل أن تجد من يتعلم التوحيد ويعلم أبناءه.

ثانيًا: الغلو في الصالحين والمبالغة في تعظيمهم، والواجب أن تكون محبة الأنبياء والصالحين باتباع ما دعوا إليه من العلم النافع، والعمل الصالح.

ثالثًا: التشبه بالكفار وقد ابتلي به كثير من الناس في الأزمنة المتأخرة؛ لسهولة الإِتصال وضعف الدين.

رابعًا: تعظيم الآثار أو اعتقاد بركتها كبقعة أو زاوية أو قبر أو مشهد أو حجر، أو كغار حراء الذي كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتعبد فيه، وحجرة قبر النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأما الحجر الأسود فإنه لا يُتبرك به، وإنما يُتعبد لله باستلامه وتقبيله، كما قال عمر -رضي الله عنه-: "إني أَعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أني رأيت رسول الله يُقبلك ما قبلتك".

ولذلك لا يجوز أن يتجاوز في الحد المشروع وهو التقبيل والاستلام خلافًا لبعض الجهلة، يظنون أنه به بركة حسية، ولذلك إذا استلمه بعض هؤلاء، أو استلم الركن اليماني مسح على بدنه تبركًا بذلك؛ وهذا جهل، فلا يشرع لمن استلمه أن يمسح على بدنه أو ولده.

فعلى المسلم أن يتفقه في الدين، ويعرف التوحيد من الشرك حتى لا يقع فيما يفسد عقيدته، جعلنا الله وإياكم من عباده المخلصين، ممن يعبده حق عبادته.

هذا وصلوا وسلموا.

 

 

 

 

 

المرفقات
من تبرك بشجرة أو حجر، ونحوهما.doc
التعليقات

© 2020 جميع الحقوق محفوظة لموقع ملتقى الخطباء Smart Life